المقاومة تنتصر وترامب يثير الغبار خلفه

موقع انصار الله . تقرير | وديع العبسي

يؤمن اليمن بالمبدأ العملي في كل قناعاته، لذلك فإنه يربط باستمرارٍ بين القول والفعل، ليقينه بأن ما انحدر بالأمة إلى مهاوي الضعف والهوان إنما هو حالة الانفصام والانفصال التي ظلّت سمة ملازمة للنظام العربي، حيث كان الاعتماد الكلي على الكلام والحديث هو صفة العمل السياسي، حتى صار واحدة من مثيرات التندر على السياسيين العرب حين يكثرون من الوعود في المواسم الانتخابية.
بالمنهجية التي يقتضيها أن يكون الإنسان مؤمنا، استطاع اليمن خلال فترة بسيطة فرض هذه الخصوصية للشخصية اليمنية الصادقة والجادة في مناصرة المستضعفين ومناهضة مظاهر الظلم والبطش بحقهم من قبل المتمردين على القيم الأخلاقية. لذلك وقف العالم يوم الخميس الفائت أمام كلمة السيد القائد بكثير من الاعتبار، إذ أصبح معلوما بلا لبس بأنه سيد القول والفعل، فإذا قال فعل، وهو لا يقول إلا عندما يتيقن مما يملك، وحين حذر أمريكا بشكل حاد وحاسم فإنه لم يستند إلى الفراغ وإنما إلى القناعة التامة بإمكانية تنفيذ تحذيره.

اليمن.. جديّة واقتدار

الأمريكيون والصهاينة أيضا وقفوا أمام الكلمة وزادوا بالتحليل فيها، مع قناعة مسبقة بحقيقتين: أولاهما جدية السيد القائد، وثانيتهما قدراته، وقد علِموا ذلك على نحو راسخ خلال (15) شهرا من إسناد اليمن لغزة، فمنذ اللحظة التي أعلن دخول المعركة لم تتوقف بعدها العمليات العسكرية، فحطّم بمبادرته الجريئة الكينونة النمطية للشخصية العربية التي تقول ولا تفعل، والتي تنزوي وقت المخاطر ملتزمة الحياد، وأحيانا الوقوف مع الأعداء.
وفي جانب القدرات وتنفيذ العمليات فقد مثّلت ثورة بذاتها، نسفت كل تلك الجهود في سحق العرب وشل قدرتهم على أي فعل عسكري دفاعي، فكيف إذا ما تحدثنا عن عمليات هجومية.
وتَمَثلت مظاهر هذه الثورة في ضرب عمق الكيان الصهيوني، والتأثير في اقتصاده، وإجبار المغتصبين الصهاينة على التزام الملاجئ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى مواجهة أمريكا وإذلالها ودفعها للتعامل مع مسألة التواجد في البحر الأحمر وفق المعادلة اليمنية، خصوصا وأنها أدركت -من واقع الفعل والتجربة- أن الاستخفاف بهذه المعادلة أو محاولة تجاوزها قد جعلها تعتاد على عملية الهروب من البحر الأحمر. وزد في الحضور اليمني بهذه الاستثنائية، التميز التقني والتكتيكي، إذ طوّر صواريخه الباليستية وطائراته المسيرة، واستطاع اختراق كل مستويات منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي الأمريكي، وضرب الأهداف المحددة.
وقوف أمريكا والكيان على كل هذه الحقائق بالصوت والصورة، وقبل ذلك بالتحذير، جعلهم وهم يستمعون إلى السيد القائد الخميس الماضي على قناعة بأن التهور في التعامل مع تحذيراته قد لا تُحمد عقباه.

موقف أكبر من قدرات أمريكا

يُجمِع العالم بما فيه الأمم المتحدة ومئات المنظمات الحقوقية في أوروبا وداخل الولايات المتحدة ذاتها بأن الواقع البشري بات مهددا بمخاطر تقود لفوضى لا تُبقي ولا تذر، تتآكل فيها النُظم والقوانين وتنهار فيها المصالح، بسبب تطاول رؤوس الشياطين ممثلة بأمريكا و”إسرائيل” والمتماهين معهم.
وفي المعطيات، استمرأ ترامب -كما هو واضح في سلوكه- توزيع التهديد والوعيد، ووضع صياغات غير سويّة لطبيعة العلاقات بين الدول، ومفاهيم جديدة لشعارات تقوم على قواعد أمريكية، ثم انتظار التفاعلات، وربما بعده تحديث ما تطلب. وعلى إثر ما سبّبه هذا العبث غير المسؤول من توتر، بدأت الهوّة تتسع بين العالم وأمريكا وعلى نحو متسارع، ما يقترب بها لأن تكون دولة منبوذة.
منذ اليوم الأول لولايته الرئاسية الثانية، أطلق ترامب تصريحاته الحادة والمفتقرة لأي درجة من الدبلوماسية، ولم يستثن أي اتجاه من اتجاهات العالم الأربعة، إلا أن ما يتعلق بقطاع غزة وأهالي غزة كان ولا يزال هو الأبرز، والأكثر صلفا وبلطجة، والأكثر إثارة للاهتمام وردود الفعل الغاضبة والمستهجنة، لما انطوى عليه من تجاوزات لا تفسير لها أكثر من كونها عبثية وتفتقر لملكة التقدير والحنكة السياسية.
وأقحم ترامب بصنيعته هذه نفسه وبلاده في مواقف ليس بمقدوره أن يكون في مستواها، فضلا عمّا يمكن أن تحدثه من تداعيات على مستوى العالم، إذ في غزة قدم شاهدا حيا على النزعة الفوضوية التي يتسم بها وهو يتحدث بمنطق القوة والغطرسة والغباء عن إنهاء اتفاق وقف إطلاق النار بلا أدني مسؤولية وبلا أدني تقدير لما تتضمنه أو ما يمكن أن تحدثه من ردة فعل. وبالتزامن يثبت للعالم انغماسه في الكذب والنفاق حين أعطى مهلة لتنفيذ مطلب الكيان الصهيوني بالإفراج عن أسراه لدى المقاومة الفلسطينية بالقوة.

قراءة ترامب الخاطئة

ويتصور ترامب أن هذه الفرعنة يمكن تمريرها وفرضها بما أوتي من قوة ومن ثراء ومن تقهقر العالم أمامه، وهي تصورات تستند على مسار طويل من السلبية التي اتسم بها العالم تجاه تعديات الولايات المتحدة على كل الثوابت الأخلاقية في غير مكان من الكرة الأرضية. لولا حالة الاستلاب هذه عن اتخاذ المواقف الطبيعية، ورفض هذه السلوكيات، لما وصل ترامب إلى هذه الحالة من الخطل والتجرؤ على الحقوق وسيادة الدول على أراضيها.
في حالات كثيرة تحدت أمريكا المجتمع الدولي، ومضت في تنفيذ مخططات لم تكن تستثني فيها أحدا إلا الكيان الصهيوني، ومنذ مرحلة تكريس الحضور بصيغة جديدة وتحت مبرر “مكافحة الإرهاب”، كانت عائلة بوش رائدة في إخضاع كل العالم لقواعد أمريكا، والعمل على ذلك بغزو الشعوب واحتلال بلدانهم ونهب ثرواتهم بعد قتل كل الفاعلين فيها أو الزج بهم في داهاليز “جوانتانامو”. ووقتها دخل العالم نفقا قاتلا من الوهن والرعب والاستسلام لإرادة البيت الأبيض.
اليوم ترامب -وهو من ذات الحزب- يحاول دخول التاريخ من بوابة البلطجة “البوشيّة”، لكن بتفاصيل مختلفة، يمكن تسميتها بـ”الإرهاب بأقل التكاليف” أو “الإرهاب بالمجان”، مستفيدا من إرث الرؤساء السابقين في إذلال العالم واستهداف العرب والمسلمين. إلا أن ترامب أثبت غباءه منذ التصريح الأول في فترته الرئاسية الأولى حين أكد بأنه سيجعل من “أمريكا أولا” مرة أخرى، إذ أخذ عنهم الشكل السلوكي ولم يقرأ في مضامين الزمنين، ولهذا ألحق ببلادة سمعة هي الأسوأ خلال تاريخ فرض الهيمنة، ورفع بشكل حاد مؤشر الكراهية لها وتصنيفها كدولة فاشلة في الفهم واستيعاب شروط الدولة الطبيعية واستحقاقات السلام.
والعالم اليوم رغم أنه لا يزال عند مستوى السلبية وعدم الجرأة على المواجهة، إلا أنه أكثر إمكانية وأكثر قدرة على المناورة واللعب بأوراق اللعبة، وهو فقط لا يزال يفتقر لقوة الإيمان بذاته، وبعدالة القضية التي يواجه بسببها الكائن الأمريكي، ومع ذلك فإن المرحلة تصدم الجميع بمتغيرات قد تكون البداية أو السبب في إلهام الدول ودفعها لتبديل سلوكها التفاعلي مع الغطرسة الأمريكية، مستفيدين من ظهور اللاعب اليمني.

من الطبيعي أن يقول اليمن كلمته

رفَض اليمن السلوك الأمريكي، وعبّر عن ذلك بوضوح بلا لعب بالصياغات التعبيرية. أمريكا كائن عديم الأهلية للتعامل معها باحترام، وترامب يقدم الصورة الواضحة كما هي لهذا البلد بلا دبلوماسية وبلا مراعاة لمشاعر الآخرين، بلد يقوم على الفوضى والإرهاب لباقي العالم، ويحقق التفوق طالما بقي على نظرية نشر الفوضى. والتدخل اليمني كان ولا يزال يستند لجملة الثوابت الدينية والأخلاقية، وحين يظهر ترامب بهذه العنجهية السمجة يكون من الطبيعي أن يقول اليمن كلمته، خصوصا وأن تصريحات الرئيس الأمريكي باتت تستضعف الفلسطينيين وتستخف بالعالم بشكل منفلت، إذ يستمر بكل أريحية في توجيه إملاءاته من أجل فرض واقع جديد تتجسد فيه رغبات الكيان الصهيوني بتهجير الفلسطينيين، ولا يرى للعرب الحق في السيادة على أرضهم وثرواتهم وحتى قرارهم.
وتأكيدا على أن الموقف اليمني المنفتح على كل الاحتمالات، إنما ينطلق من جملة الثوابت تلك، فإن تحذير السيد القائد لم يحصر موجبات التدخل العسكري لإنقاذ الشعب الفلسطيني على التحرك الأمريكي فقط، بل قال “إنه إذا اتجه الأمريكي والإسرائيلي لمحاولة تنفيذ الخطة بالقوة أو اتفقوا مع الأنظمة العربية لتنفيذها سنتدخل حتى بالقوة العسكرية”.

التواري خلف هزيمة جديدة

بالأمس حلّ الموعد، بزغ الصباع وانتصف النهار، ومضت عملية تبادل الأسرى، حسب الاتفاق، وبشروط المقاومة، بلا أي نَفَس ترامبي، ليتوارى الرئيس الأمريكي في انهزام جديد، محاولا تعزية نفسه بالقول إن “ما فعلته حماس يختلف عن بيانها الأسبوع الماضي بأنها لن تطلق سراح أي رهائن”.
لكنه أيضا، ومن باب المكابرة أضاف حينها: “على إسرائيل اتخاذ قرار بشأن ما ستفعله الساعة 12 ظهرا”، وهو الموعد النهائي المحدد للإفراج عن جميع الرهائن، مؤكدا أن “الولايات المتحدة ستدعم القرار الذي ستتخذه إسرائيل”.

قد يعجبك ايضا