موقع انصار الله . تقرير | وديع العبسي
في اللحظة التي أخذ فيها الأمريكي دور الثعلب الماكر، فأوحى للعالم باستمرار التفاوض مع الجمهورية الإسلامية حول برنامجها النووي، بدأ شريك البلطجة، العدو الصهيوني، عدوانه على إيران بتفويض أمريكي واضح، وحين جاء الرد الإيراني وبالشكل غير المتوقع، بدا الأمر مستفزا لحاكم البيت الأبيض، وعندما ظهر أن الموجات الإيرانية مُحْكَمَة ومدروسة ومؤلمة، رفع الحاكم الأمريكي من نبرة التهديد والوعيد.
كشف العدوان الصهيوني على الجمهورية الإسلامية هذه المرة أن الأمر أكبر من مجرد برنامج نووي، فهو خاتمة أراد العدو الوصول إليها بعد مسار طويل من التأكيدات الإيرانية، وعمليات التفتيش التي قامت بها الوكالة الدولة في الدولة الإسلامية، ومسار طويل من التآمر والتضييق وفرض الحصار على إيران من قبل أمريكا ودول النفاق من غرب وعرب.
عرّى هذا العدوان زيف المعايير الدولية في التعاطي مع أحداث الدول الإسلامية والعربية تحديدا، فظهرت الدول التي كانت حتى وقت قريب تتحدث عن ضرورة رفع اليد الصهيونية عن البطش بالفلسطينيين في غزة، لتشجع وتقدم العون للكيان في العدوان على طهران، وإذا ما زاد على ذلك ما بدأ استرجاعه من تصريحات لأقطاب العداء ضد المسلمين كترامب ونتنياهو وآخرين، وهم يتحدثون صراحة بأنه لا يمكن السماح للمسلمين أن يمتلكوا برنامجا نوويا مهما كان مستواه، يتضح أن المسألة ليست سلاحا نوويا، وإنما ألا يكون للمسلمين أن يخرجوا من الدائرة التي رسمتها لهم الدول الإمبريالية لتبقى متخلفة تابعة لدول الصناعة والإنتاج.
احتلوا وسيطروا على حق الحركة في البحر والفضاء، بعد أن حددوا الجغرافيات الإسلامية والعربية بأطر ضيقة، وولّدوا العصبية، ما إن يقترب منها الجار العربي حتى ينشب صراع دموي لا تفكُّه إلا تلك الدول الاستعمارية صاحبة الفضل في تحديد هذه الحدود. وإذا أراد أحد من المسلمين التحرك في البحر أو الفضاء تعرض لهجمة شرسة من قبل دول الاستعمار بقيادة أمريكا.
ويأتي العدوان على إيران في هذا السياق، وهي الدولة الإسلامية الطموحة التي تأمل في أن يكون لها برنامجها النووي للاستخدامات السلمية، والذي اعتبره الأعداء تجاوزا للخط الأحمر. هذه الدول الاستعمارية هي التي وضعت مضامين ميثاق الوكالة الدولية، وهي التي حددت من له الحق في امتلاك السلاح النووي، وهي تلك الدائمة العضوية اليوم في مجلس الأمن، ومَن تمتلك ما يسمى بالفيتو، ومع ذلك فإنها تستثني الكيان الصهيوني من هذا الأمر، فهو العدو اللدود للإسلام والمسلمين، وقد جرت زراعته في المنطقة العربية لغرض منع أي تحرك تحرري للدول العربية والإسلامية، يخرج بها من عباءة التبعية للغرب، ولا بأس إن امتلك هو السلاح النووي والقنابل الذرية.
رأينا في البحر الأحمر كيف انتفضت الدول حين أطل اليمني بقبضته ليفرض معادلة جديدة غير تلك التي ظل الغرب وفي مقدمتهم أمريكا تسرح في ظلها وتمرح، مستبيحة حق دول البحر بأن يكون لها كلمة أو قرار فيه، حتى وإن تحركت دول الاستعمار فيه بشكل عدائي، غير أن الإيمان والثقة بالذات مكنت اليمنيين من إدراك أن المعتدين أضعف من أن يواصلوا منهجيتهم إذا ما رأوا أمامهم صحوة حقيقية، وهو ما ساروا فقدموا نموذجا هز الإمبراطورية الأمريكية.
ومثّلت معركة اليمنيين في البحر الأحمر مع الأمريكان وباقي قوى الاستكبار نموذجا للقدرة على مواجهة الطاغوت مهما كانت قوته، إذ تكونت تحالفات ثم تلاشت، وحشد الأمريكان العدد والعتاد، وسخّروا أجهزة الاستخبار، ثم انسحبوا، وبقيت بصمات القوات اليمنية فارضة وجودها، فلا انفك الحصار عن ميناء ام الرشراش ولا توقفت العمليات عن دك عمق العدو.
لا يمكن التعاطي مع قضية الاستباحة للأمتين العربية والاسلامية من قبل أعداء العرب والاسلام بهذا الشكل من الاستلاب عن القدرة في تحديد موقف غير التبعية العمياء لأمريكا، فأمريكا بإرهابها كل دول العالم، بما في ذلك الدول الحليفة، تتفرد بالقرار. والدول التي تحسب نفسها في صف أمريكا، بينما هي ليست أكثر من تابعة، وبعضها لا تزال تدفع لواشنطن مقابل الحماية، لم تتحرر بعد.
إيران ومحور المقاومة اتخذت قرار مغايرة قاعدة التبعية، وكسرت حاجز الخوف والتعاطي مع حقوقها بلا اعتبار لتهويلات المارق الأمريكي والجندي الصهيوني ومن يدور في فلكهما، لذلك يبدو -في مواجهات اليوم- ملامح تَشكُّلِ واقع جديد لن يكون للعدو الأمريكي القدرة على إيقافه، وبالتبعية سيظهر الكيان المؤقت أضعف من أي وقت مضى على طريق التحلل والتبخر وعودة أراضي العرب إلى أصحابها.
وهذه النداءات التي يطلقها الكيان اليوم، وتسربها أمريكا من وراء الستار بحثا عن مخرج آمن من الورطة الجديدة التي أقحم نفسه وداعميه فيها بالعدوان على الجمهورية الإسلامية، دليل على شعوره بالصدمة من هول حساباته الارتجالية حين فكر بارتكاب هذا الفعل العدواني، ولن يكون له بأي حال تحديد نهايته أو كتابة خاتمته، وهو الذي أعمته الغطرسة حتى ظن أنه بقدرته إنجاز حربه وحرب أمريكا بشكل سريع، فشن عدوانا عبثيا كشف عما تبقى من ساتر لهما.. يؤكد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أن "السبيل الوحيد لإنهاء الحرب هو وقف غير مشروط للعدوان وتقديم ضمانات لإنهاء مغامرات الصهاينة".
العدو الإسرائيلي هو من بدأ هذه المغامرة وأربك العالم بآثارها، ولا يمكن التعاطي مع الأمر كفعل صبياني طائش دون ردع يعيده لتقييم وضعه وحقيقته بشكل صحيح، وعقاب يمنعه عن الذهاب إلى مثل هذه العربدة مرة أخرى.. يقول مستشار قائد الثورة الإسلامية علي شمخاني "على العدو أن يعلم أن الحرب معنا لعب بالنار، ولن تخلف له سوى الرماد". ومثل هذه التصريحات لا تبدو خارقة للمنطق، وإنما مسائل طبيعية تجاه عدوان غير مبرر، كما أنه لا يعطي الحق للكائنات الأمريكية والإسرائيلية المتوحشة أن تفرض أو تضع أي شروط، في المقابل فإن إيران -كما يبدو من تصريحات قادتها- جاهزة للسلام كما هي جاهزة للحرب، بل وتزيد على ذلك بأن كيان الاحتلال كيان لا يمكن أن يؤمَن جانبُه، فبالتالي لابد من ضمان عدم تكرار ارتكابه لمثل هذه الحماقات.
ومع ما يلوح من مؤشرات جديدة على غباء أمريكي مزمن، تكشف عنه أحاديث محمومة عن دعم واشنطن للكيان والدخول المباشر في الحرب على إيران، يبدو أن الولايات المتحدة لم تستفد من تجربة البحر الأحمر، ولم تعِ أنها باتت تفتقر لأي أوراق رابحة في أي معركة مع إيران.. ويبشر رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني واشنطن بـ"المفاجآت الاستراتيجية" إذا ما دخلت المعركة، وقال "على واشنطن أن تعلم أن مصالحها في المنطقة لن تكون آمنة"، وأن "انخراط واشنطن ضد إيران سيسرع وتيرة طردها عسكريا وأمنيا من المنطقة". ويُقر الأمريكان بكارثية أي مغامرة ترامبية في هذا السياق، ويؤكد رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي توم كوتون أن "الصراع العسكري مع إيران ليس خالياً من المخاطر".
التحركات الأخيرة المعلنة عمدا، لا يبدو فيها أكثر من كونها عمليات استعراضية، وإن كان حتى صدقها لن يغير من الأمر شيئا وفق ما أظهرته الجمهورية الإسلامية من اقتدار وتمكّن، فمؤخرا حرك ترامب عددا من طائراته إلى أوروبا، وهي طائرات نقل عسكرية أمريكية تُستخدم لتزويد المقاتلات والقاذفات بالوقود. الرئيس السابق للقوات الدفاعية الأيرلندية قرأ التحرك بصورة مغايرة للآخرين، إذ رأى فيها نوعا من الضغط على إيران.. ويقول "التحركات الأمريكية قد تكون جزءًا من سياسة أوسع نطاقاً تقوم على "الغموض الاستراتيجي" لدفع إيران لتقديم تنازلات".