موقع أنصار الله . تقرير | 

 

في مشهد يعيد إلى الأذهان أكثر صفحات التاريخ ظلمةً، يجد الفلسطينيون في قطاع غزة أنفسهم منذ أشهر طويلة في قلب مأساة إنسانية مركبة، يتصدرها -هذه المرة- سلاح ليس من الحديد والنار، بل من الخبز والماء والدواء.

منذ بدء اتفاق وقف إطلاق النار في 19 يناير 2025، شهدت غزة انفراجة محدودة في إدخال المساعدات، سرعان ما تبخرت مطلع مارس عندما أغلق العدو الإسرائيلي المعابر كافة. لم يكن الإغلاق قرارًا عابرًا، بل جزءًا من تكتيك سياسي لليّ ذراع فصائل المقاومة.

وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أعلنت وصول 28 شهيدا، و و223 إصابة إلى مستشفيات قطاع غزة، خلال الـ 24 ساعة الماضية، مضيفة أن إجمالي شهداء لقمة العيش ممن وصلوا المستشفيات 583 شهيدا وأكثر من 4,186 إصابة.

وذكرت أن حصيلة الشهداء والإصابات ارتفعت إلى 56,531 شهيدًا و133,642 جريحا منذ بدء العدوان على غزة.

580 شهيدًا حصيلة مصائد الموت

المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، قال إن عدد الشهداء الذين ارتقوا جراء العدوان الإسرائيلي المستمر على منتظري المساعدات بلغ نحو 580 شهيداً و4216 إصابةً و39 مفقوداً.

الصحة العالمية كعادتها متخصصة في إصدار البيانات. بيناها الأخير يؤكد أن  112 طفلاً فلسطينياً يدخلون المستشفيات يومياً في قطاع غزة لتلقي العلاج من سوء التغذية، منذ بداية العام الجاري، نتيجة الحصار الإسرائيلي الخانق وإغلاق المعابر.

وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أفادت بأن الاستجابة الصحية في قطاع غزة تواجه تحديات كبيرة، من أبرزها الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمرافق الصحية، إلى جانب عرقلة الحركة الآمنة، ومنع إدخال الإمدادات الطبية والوقود، ما يزيد من تعقيد الوضع الإنساني في ظل الحصار المتواصل.

لم ينته الأمر عند هذا الحد من الإجرام. أحمد الفرا، مسؤول ملف إجلاء الجرحى والمرضى في وزارة الصحة بغزة، كشف أن 14 ألف مريض وجريح مسجلون على قوائم الانتظار للسفر لتلقي العلاج خارج القطاع، وحياتهم باتت معلّقة بقرار من سلطات العدو بفتح المعابر. وأضاف أن 546 مريضًا فارقوا الحياة خلال انتظارهم فرصة للخروج للعلاج، مشيرا إلى أن مرضى الكلى هم من الفئات الأكثر تضررًا، حيث فقد ما يزيد عن 40% من أصل 1150 مريضًا حياتهم، نتيجة نقص الخدمات الطبية والقيود المشددة على السفر منذ اندلاع الحرب.

العدو يتفنن في قتل المجوعين

العدو الإسرائيلي يفرق جموع منتظري المساعدات بالمدفعية، ومن ينجو منهم يستهدفه بالقناصة. العديد من الإصابات كانت في الرأس والصدر، كما أكد المدير العام لوزارة الصحة في قطاع غزة، الطبيب منير البرش.

في تقرير صادم نشرته صحيفة "هآرتس" العبرية، كشف جنود وضباط في"جيش" العدو الإسرائيلي عن تلقيهم أوامر مباشرة بإطلاق النار على حشود من الفلسطينيين العُزّل المتجمعين قرب مراكز توزيع المساعدات في قطاع غزة، حتى في الحالات التي لم تشكل فيها هذه الحشود أي تهديد.

الجنود الصهاينة الذين تحدثوا للصحيفة أوضحوا أن قادتهم "أمروا بإطلاق النار على المدنيين بهدف تفريقهم وإبعادهم عن نقاط توزيع المساعدات". أحد الصهاينة وصف الوضع بأنه "انهيار تام للقيم الأخلاقية لجيش الاحتلال في غزة"، مؤكدًا أن ما يحدث هو ساحة قتل حقيقية.

أحد الصهاينة وصف الوضع بالقول: "إنه ميدان قتل. يُعامل الناس كما لو كانوا قوة معادية – لا توجد وسائل لتفريق الحشود، لا قنابل غاز، فقط رصاص حي بكل الوسائل الممكنة: رشاشات ثقيلة، قاذفات قنابل، هاونات".

وأضاف: "نفتح النار في ساعات الصباح الباكر إذا حاول أحد الاقتراب من طابور المساعدات من مسافة مئات الأمتار، وأحيانًا نهاجمهم عن قرب. ولكن لا يوجد أي خطر يتهدد القوات"، وأوضح "لا أعلم بأي حالة إطلاق نار من الطرف الفلسطيني. لا يوجد عدو، لا يوجد أسلحة." وبيّن أن النشاط العسكري في منطقته يُطلق عليه اسم "عملية السمك المملح" – وهو الاسم العبري المكافئ للعبة الأطفال المعروفة بـ "إشارة حمراء، إشارة خضراء".

ضابط يخدم في وحدة تأمين أحد مراكز المساعدات اعترف أن "جيش" العدو يفتح النار على الجياع لمنعهم من الاقتراب، وهذه طريقة لـ"إدارة الإبادة". وقال الضابط إن مراكز التوزيع تحيط بها من الخارج دبابات، قناصة، ومدافع هاون، و"في إحدى المرات توقفنا عن إطلاق القذائف، فاقترب الناس. فاستأنفنا القصف، سقطت إحدى القذائف على مجموعة مدنيين".

أحد الصهاينة  الاحتياط قال إنه طُلب منه إطلاق قذيفة دبابة نحو حشد من المدنيين قرب الساحل، لكن بعد القصف، بدأ المدنيون بالهرب، لتُطلق عليهم وحدات أخرى النار، يُقال لنا إنهم ما زالوا مختبئين ويجب قصفهم، لكنهم لا يستطيعون المغادرة إذا كنا نطلق النار لحظة يركضون".

ومن أخطر ما كشفه التحقيق، هو تورط مقاولين صهاينة في ارتكاب المجازر، حيث يتلقى كل مقاول 5000 "شيقل" عن كل منزل يهدمه في غزة. وقال "جندي" صهيوني: "المقاولون يجنون ثروات، ويتصرفون كأنهم شُرطة. يهدمون ما شاؤوا، قرب طرق المساعدات، وحين يقترب المدنيون، تحدث اشتباكات مزعومة يسقط فيها قتلى."

وأضاف "أحيانًا نقترب من مناطق يُسمح للفلسطينيين التواجد فيها، ثم نقرر أنهم يشكلون خطرًا علينا لنبرر إطلاق النار. كل ذلك فقط من أجل ربح مالي مقابل هدم بيت".

الرضيع ليس مقاتلًا، والعدس ليس حليبًا

الطفلة "جوري المصري” (3 شهور) في مدينة دير البلح كانت رقم 66 في قائمة الأطفال الذين ماتوا بسبب سوء التغذية والجوع، هناك 59 ألف طفل دون سن الخامسة ينتظرون مصير جوري، في ظل انتشار الأمراض المعدية، منها أمراض الجهاز التنفسي، حيث سجلت منذ بداية العام نحو 254 ألف حالة إصابة بالجهاز التنفسي، بينها 337 إصابة بمرض السحايا، ونحو 259 من الحالات الفيروسية. "أطفال غزة لا ينمون بشكل طبيعي ولا يكبرون، وأجسادهم هزيلة، ووجوههم شاحبة، ودموعهم جافة.  17 ألف طفل ماتوا حتى اللحظة، ونحو 9 آلاف امرأة ماتت أيضا، وما يقارب 55 ألف امرأة حامل تعاني من سوء التغذية، ولذلك يولد الأطفال بتشوهات وقبل موعدهم الطبيعي". هكذا يصف الطبيب منير البرش المشهد.

تُظهر مشاهد الرُضّع في حضانات غزة ما يشبه أفلام نهاية العالم، حيث تفتك المجاعة بالأبرياء، والإنسانية تُعلق على حبال السياسة.

هؤلاء الأطفال لا يعرفون معنى “إغلاق المعبر”، ولا يفهمون ما هي “اللائحة السوداء”، ولا يميزون بين الحليب و”شوربة العدس”… لكنهم يعرفون شيئًا واحدًا: الجوع.

إنّ استمرار منع إدخال الحليب العلاجي والغذاء والدواء يؤكد أن ما يجري في غزة ليس مجرد حصار، بل إبادة جماعية بالصوت الخافت.

إن هذه الأرقام والوقائع لم تعد مجرد أرقام لإحصائيات جافة بقدر ما تحولت إلى شهادات حية تدمغ جبين الاحتلال بوصمة الفشل الذريع، وتسطّر بحروف من نور صموداً أسطورياً للمقاومة الفلسطينية، وثباتاً لا يلين للشعب الفلسطيني. لقد أثبتت الأيام الطويلة من العدوان أن كل مخططات الإجرام الصهيوني قد تحطمت على صخرة غزة الأبية، وأن أهدافهم المعلنة لم تتجاوز حدود السراب. فهل يعي قادة العدو أنهم يجرون أذيال الهزيمة في حرب لن يحصدوا منها سوى الخزي والعار، وأن بشائر النصر تلوح في الأفق القريب، و أن الإنسان الفلسطيني سيبقى ثابتاً على أرضه وحقوقه، وأن المستقبل يحمل بين طياته وعداً بتحقيق النصر والتحرير لكافة تراب فلسطين.