ما الذي دفع الإمام الحسين ‹عليه السلام› -سبط رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله، علم الهدى وقرين القرآن -إلى ذلك التحرك الذي ضحى فيه بنفسه، وضحى فيه بأسرته وأهل بيته، وضحى فيه بالبقية الباقية من أهل الوفاء الذين كانوا أوفياء معه، ما هو ذلك التحدي؟ ما هي تلك الأخطار؟ ما هي تلك الأحداث؟.

حينما نعود إلى تاريخ الأمة نجد أن الانحرافات الكبرى في واقع الأمة، وأن المتغيرات التي عصفت بالأمة نتج عنها أمر خطير للغاية، نتج عنها وصول "يزيد" إلى التحكم برقاب المسلمين وهو شخصٍ مجرمٍ ظالم مستكبرٍ طاغيةٍ مستهتر بالإسلام جملة وتفصيلاً، لا قيمة عنده لشيء في الإسلام، ولا من الإسلام، مستهترٍ حتى برسول الإسلام وبالقرآن الكريم، مستهترٍ بالأمة الإسلامية كلها، يرى فيها الرعية العبيد، يرى فيها الأمة التي يريد أن يركعها و يخضعها ويستعبدها له بكل ما تعنيه الكلمة.

 وصول الطاغية "يزيد" كان نتيجة الانحرافات السابقة إلى موقع القرار والسلطة، والحكم؛ أميراً على الأمة، قائداً للأمة، زعيماً للأمة، سلطاناً على الأمة؛ كان يمثل خطورة كبيرة جداً على الأمة في كل شيء، ابتداءً في هويتها الإسلامية، ومبادئها، وقِيَمِها، وأخلاقها، يمثل خطورة حقيقية على الإسلام بكله جملة وتفصيلاً.

ولذلك كانت المسألة مسألة خطيرة جداً، يترتب عليها نتائج كارثية في واقع الأمة، يترتب عليها هدم حقيقي لكل الجهود التي كان قد بذلها وقدمها رسول الله محمد ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› ، ومن معه من المؤمنين، وذهاب لكل تلك التضحيات سدى، واستئناف للجاهلية بشكل أبشع وأسوأ مما كانت عليه، وبشكل فظيع في واقع الأمة من جديد؛ فلذلك الإمام الحسين ‹عليه السلام› كان ببصيرته العالية، بعلمه، بفهمه الصحيح، وهو قرين القرآن الكريم، شخَّصَ حقيقة  ومستوى الخطر، وبالتالي اتخذ قراره في طبيعة الموقف فتحرك.

 

الإمام الحسين يقدم أروع الأمثلة في كربلاء

 وقف الإمام الحسين في كربلاء أمام أصحابه وهو يُقدِّم لهم التطورات الأخيرة ويقول لهم: «ألا وإن الدعي ابن الدعي» لأن الجهة الأخرى التي كان يقودها عُبيد الله بن زياد معروف عنه أنه هو وزياد بن أبيه من قبله هم أبناء زنا، وأتوا من ساحة الرذيلة والفحشاء والمنكر. وغريب كيف وصلت الأمة أن تبتعد عن سبط رسول الله، و حفيد رسول الله، عن الطهر والصلاح والخير، إلى حيث ساحة الجريمة والفساد والرذيلة والفحشاء والمنكر والهوان.

 «ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركَّز بين اثنتين» قدم خيارين «بين السلة وبين الذلة» بين سل السيوف والحرب والقتل والقتال، أو الذلة، الإذلال للناس، هذا سلوك ومنهج يعتمده الطغاة، لا يقوم كيان للطغاة إلا بإذلال المجتمع. ولذلك من أعظم ما في الإسلام هو أنه يُربِّيك على العزة فيجعلك إنساناً عزيزاً لا تقبل بأن يُذلّك الآخرون، ولا أن يستعبدوك، ولا تقبل بأن تعيش مظلوماً قابلاً للظلم،  قد تكون مظلوماً لكنك تواجه الظلم وتواجه الطغيان، وتقف ضد الظلم، لكن أن تقبل بالظلم وتتولى الظالمين، وتقدِّس الظالمين، وتمجِّد الظالمين، وتخضع للظالمين، وتُوْلي شؤونك وأمورك إلى الظالمين، هذا ما لا يقبل به الإسلام.

الإمام الحسين ‹عليه السلام› حين قدموا له هذين الخيارين: إما أن يعيش ذليلاً قابلاً بالاستعباد، يخضع ويقبل بكل ما يريده منه يزيد، قال ‹عليه السلام›: «ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة وبين الذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وأرحام طهرت ونفوس أبيَّة وأنوف حميَّة من أن نُؤثِر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

 دروس من وحي الثورة الحسينية

(لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل)؛ لأنه في خط الحرية في درب الإيمان لا مكان للذل ولا مكان للاستسلام ولا مكان للاستكانة ولا مكان للخنوع .. عندما يكون هناك مساومة بين العزة وبين الذلة، بين الامتهان وبين الكرامة، فإن الخيار الوحيد للإنسان المؤمن الحر العزيز الأبي هو أن لا يقبل بالذلة أبدًا؛ لأن الله لا يقبل لعباده بذلك).

ومن الدروس التي نتعلمها من عاشوراء ما يلي:

التربية على العزة والإباء ورفض الظلم

الإمام الحسين (عليه السلام)  طوال حياته ومنذ صباه كان يرتقي سلم الكمال ودرجات الإيمان ووصل إلى المستوى العظيم . تحرك بروحية عالية إباء وعزة ونفس أبية وأنف حمية لا تقبل بالظلم ولا تستسيغ الباطل، ولا ترضخ لأكابر المجرمين وطغاة الأرض المفسدين، روحية عالية وإباء وعزة، وهو الذي قال حينما أرادوا أن يساوموه على الذل والهوان والاستسلام والخضوع: ((لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد)) هو (عليه السلام) الذي قال: ((ألا وأن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة وبين الذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ونفوس أبية وأنوف حمية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)).

لا نقبل بالذل مهما كانت الظروف

الأمة بحاجة  إلى أن تتعلم، أنه لو خذلنا الخاذلون، و تفرج الكثير من الناس وتخاذلوا وتوانوا، ولو واجهتنا الغربة في مجتمع يرى من الحق غريباً، ومن الباطل مألوفاً ومقبولاً، من مجتمع ينحاز أكثر أبنائه إلى الطغاة والمجرمين، ويخذلون الحق وأهله، يجب أن يكون موقف الإنسان المسلم تربية الإسلام، تربية القرآن هي تعلمك هذا؛ لأن الله يأبى، الله يأبى لا يقبل، لا يقبل لأوليائه أن يقبلوا بالذل، حينما تقبل بالذلة، الله لا يقبل لك ذلك، ولا يقبل منك ذلك، ويعاقبك على ذلك، ((يأبى الله لنا ذلك ورسوله)) ، الله يقول: لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ" الله يأبى للمؤمنين، يأبى لأمة الإيمان، من بقي منهم على الإيمان أن يقبلوا بالذلة، الرسول محمد لا يقبل لأمته، لا يقبل لأبنائه، لا يقبل للسائرين على خطاه وفي دربه وفي صراطه المستقيم أن يقبلوا بالذلة.    

الحذر من عوامل السقوط

الكثير من الجيش الذي تحرك لقتال الإمام الحسين عليه السلام بما فيهم الآلاف الذين كانوا من جيش الإمام علي نفسه لم يكن يخطر ببالهم أنهم يوماً من الأيام سيكونون في ذلك الموقف، يوماً من الأيام يتحركون لقتل سبط رسول الله وهم يعلمون من هو، يعلمون مقامه العظيم في الإسلام ، يعلمون أنه من يجب أن يتبعوه، أن يهتدوا به، أن يحبوه، أن يقدروه، أن يدركوا مقامه العظيم كوريث لجده المصطفى (صلوات الله عليه وعلى آله)، يعرفون فداحة الجرم المرتكب بحقه، ومع هذا فساد النفوس والانحطاط الكبير وضياع القيم والأخلاق والمبادئ، كانت قد أوصلتهم إلى درجة لا يبالون معها بأن يرتكبوا مثل هذا الإجرام، ومثل هذه الحماقة.

نتعلم من الحسين الثبات والعطاء بدون حدود

من مدرسة الحسين نتعلم الثبات الذي لا يساويه ثبات والعطاء بدون حدود والصبر والإباء،  نتعلم الصدق مع الله نتعلم تجسيد قيم الإيمان في مقابل سلاح الطواغيت الذين يعتمدون في فرض هيمنتهم على الوحشية والإجرام يعتمدون على الترغيب ويعتمدون على الترهيب .

نستفيد من الإمام الحسين (عليه السلام) الدرس المطلوب في أن الانتماء الصادق والواعي لمبادئ وقيم القرآن والإسلام والمشروع الإلهي القائم على العدل يفرض ويُحتِّم الموقف ضد الظلم والطغيان والفساد، هو مسئولية، هو عبادة، هو فريضة، هو قربة، هو ضرورة لصلاح الحياة واستقرار الحياة، ويُحتِّم علينا  المسئولية في السعي الجاد والعمل لإقامة العدل في الحياة، والخير في الأرض، هكذا أمرنا الله، هكذا هو ديننا وأساس ديننا.

التضحية في سبيل الله ليست خسارة

من أهم القيم الإباء والعزة؛ لأن الإنسان المؤمن حقاً بعزة الإيمان وبإباء الإيمان مهما كانت قسوة الظروف، مهما كان حجم المخاطر، مهما كان الثمن، لا يقبل نهائياً لا بأن يكون من يهيمن عليه من يحكم توجهه في الحياة هو الباطل هم الظالمون ويستعبده الطاغوت، لا يقبل بذلك، يكون حاضراً لأن يضحي لأن يبذل نفسه في سبيل الله لأن يلحق بالرفيق الأعلى وهو ثابت على الحق صامد على الحق لا يتزعزع ولا يتضعضع لا يؤثر فيه إرجاف ولا يؤثر فيه أحداث ولا يؤثر فيه تكالب الطغاة ولا وحشيتهم ولا فظاعة إجرامهم.

الإنسان المؤمن على مستوى عالٍ من الحضور للتضحية والاستعداد للتضحية. روحية عالية يحملها الإنسان المؤمن لأنه دائماً يتطلع إلى ما عند الله يرجو الله ويرجو ما عند الله ولا يرى في تضحيته في سبيل الله ولا في بذله النفس والروح وبذله المال في سبيل الله أي خسارة يرى أنه رابح مع الله وأن ما يتحقق له حتى من خلال الشهادة هو الحياة الدائمة هو الفوز العظيم هو المقام الرفيع المكانة السامية والعالية عند الله سبحانه وتعالى.

بهذه الروحية الإيمانية التي تحمل الإباء والعزة والاستعداد العالي للتضحية تستطيع الأمة أن تواجه الجبروت، جبروت الظالمين وطغيانهم، ولن يركعها شيء من ظلمهم ولا وحشيتهم ولا فضائع جرائمهم، ستكون الأمة في صمودها في ثباتها في قوتها وتمسكها بالحق أقوى من كل جبروتهم وفوق كل طغيانهم، أكثر صموداً وأعظم استبسالاً، وأقوى ثباتاً في مواجهة الطاغوت، بهذه الروحية تستطيع الأمة أن تقيم الحق وأن تجعل للإسلام سيادة في واقعها يحكم توجهها وتبني عليه واقعها.

من دلالات مأساة كربلاء

•           من دلالات مأساة كربلاء أنها كشفت مدى ما وصلت إليه الأمة من انحرافٍ عن منهج، و مبادئ، ورموز الإسلام الحقيقيين وعن قيم وأخلاق الإسلام.

•           حادثة كربلاء نتاج طبيعي لانحراف حدث في مسيرة هذه الأمة.

•           حادثة كربلاء نستلهم منها العبر والدروس أمام أيٍّ من المتغيرات والأحداث في هذه الدنيا.

•           مما ينطبق على تلك الواقعة أن نعرف عنها أنها انقلاباً في تاريخ هذه الأمة، بدأت خطواته الأولى من بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله)

•           العوامل والأسباب التي صنعت مأساة كربلاء هي نفسها وذاتها التي صنعت مأساة العصر في كل الواقع الإسلامي.

•           عوامل السقوط هي واحدة أمام كل حدث في كل عصر وفي أي زمن، أساسها السلبي الموقف من هدى الله عندما يكون موقفاً سلبياً.

•           حب السلطة من أكبر الأخطار ومن أكبر وأسوأ العوامل التي انحرفت بالكثير من الناس عن نهج الله وكان هذا بارزاً في مأساة عاشوراء.

•           واقع الأمة حقق فعلاً حالة رهيبة جداً من الفجوة والانفصام ما بين هويتها كأمةٍ مسلمة، إسلامها الذي يقوم على أساس اتباعها للقرآن الكريم منهجاً لها وعودتها إلى مبادئه وقيمه.

•           لم يعد الحق معياراً لدى الأمة، تقيس به المواقف ولا تنطلق من خلاله في العمل ولا تلتزم به في الحياة، غُيّبت هذه المسألة .

 

إن شعبنا اليمني اليوم في كثير من المناطق يحيي هذه الذكرى وهو يعيش في واقعه المظلومية التي هي امتداد لمظلومة الإمام الحسين (عليه السلام) وامتداد للمعاناة التي عانتها الأمة في كل مراحل تاريخها من الطغيان اليزيدي، وهو مظلوم يقتل أبنائه رجالاً ونساءً وأطفالاً وهو يستهدف بكل أشكال الاستهداف بدون قيود ولا حدود ولا ضوابط يلتزم بها المعتدون أو يراعيها أولئك الطغاة المجرمون.

ولأن شعبا حمل وسام الشرف الأعلى حينما قال عنه الرسول محمد (صل الله عليه وعلى آله وسلم) فيما روي عنه (الإيمان يمان والحكمة يمانية)، فهو اليوم بحكم هذا الانتماء بحكم هذه الهوية له ارتباط وثيق وامتداد أصيل بالإمام الحسين (عليه السلام)،  يرى في الإمام الحسين (عليه السلام) الأسوة والقدوة وعلم الهدى الذي نحتذي به كمسلمين كمؤمنين نقتدي به نتأسى به نسير في دربه نتعاطى في واقع الحياة ونتعاطى مع المسئولية ونتفاعل مع الأحداث بالمنطلقات وبالمبادئ، والقيم نفسها التي حملها و تمسك بها، تحرك على أساسها الإمام الحسين (عليه السلام) .

شعبنا اليمني العظيم يستفيد من هذه الذكرى ليتزود منها قوة الإرادة وقوة العزم وصلابة الموقف والثبات الدائم والمبدئي المستند إلى جوهر الإسلام وإلى قيمه وإلى الإيمان بحقيقته.