موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الربيعي 

في الوقت الذي تقدم فيه الولايات المتحدة نفسها كقوة اقتصادية عالمية ذات نفوذ سياسي ومالي واسع، يكشف الواقع عن صورة قاتمة تتعلق بأحد أعمدتها والمتمثل في "القوة الاقتصادية": الدين الفيدرالي المتفاقم بوتيرة تنذر بالخطر. فالتقارير الأخيرة ترسم صورة قاتمة لمستقبل هذه "الإمبراطورية" المالية لواشنطن، كاشفة عن بدايات فصول قصة انهيار اقتصادي قد يعيد تشكيل خارطة الاقتصاد العالمي، فقد تخطى الدين العام الأمريكي حاجز 36 تريليون دولار مطلع عام 2025، وهو رقم لم يكن يتخيله أكثر المحللين تشاؤمًا قبل عقدين فقط. إن المؤشرات تتوالى، والشواهد تتراكم، والأرقام لا تكذب، لتعلن عن واقع ترنح ما قبل الانهيار، وتداعياته التي تلوح في الأفق.

الفصل الأول: عبء الدين المتراكم – تاريخ من الاستدانة المفرطة

لطالما حملت الولايات المتحدة الأمريكية على عاتقها عبء الديون منذ نشأتها. فبعد "حرب الاستقلال"، تجاوزت الديون المتراكمة 75 مليون دولار أمريكي بحلول يناير 1791. ورغم فترة انكماش في الدين عام 1835، سرعان ما عاود الدين الأمريكي الارتفاع بسبب الكساد الاقتصادي.

شهد القرن العشرون تسارعًا في وتيرة تزايد الدين الأمريكي، فخلال الحرب الأهلية الأمريكية، ارتفع الدين بأكثر من 4000%، من 65 مليون دولار أمريكي عام 1860 إلى مليار دولار أمريكي عام 1863، ثم إلى ما يقرب من 3 مليارات دولار أمريكي بعد انتهاء الحرب عام 1865 بفترة وجيزة. وتزايد الدين الأمريكي بشكل مطرد في القرن العشرين، ليصل إلى حوالي 22 مليار دولار أمريكي، بعد أن موّلت أمريكا مشاركتها في الحرب العالمية الأولى.

إن القفزات الحادة في الدين الأمريكي لم تكن وليدة الصدفة، بل كانت نتاج أحداث بارزة تضافرت لتشكل هذا الحمل الثقيل.

السياسة العدوانية الأمريكية أثقلت كاهل اقتصاديها كالعدوان على اليمن وإيران ومساندة العدو الصهيوني في عدوانه على غزة وسابقا حروب أفغانستان والعراق، والتدخل السافر في ليبيا وسوريا وأزمات مالية كالركود الاقتصادي الكبير عام 2008، وجائحة كوفيد-19 عام 2020، كلها كانت محطات مفصلية أدت إلى ارتفاعات حادة في الدين الأمريكي. ففي الفترة ما بين عامي 2019 و2021، ارتفع الإنفاق الفيدرالي بنسبة 50% نتيجة جائحة كوفيد-19، وهو ما دفع الدين إلى مستويات مرتفعة خلال وقت قصير. عمومًا، تُعزى هذه الزيادات الحادة إلى التخفيضات الضريبية، وبرامج التحفيز الاقتصادي، وزيادة الإنفاق الحكومي، وانخفاض الإيرادات الضريبية الناجم عن تفشي البطالة.

أرقام قياسية غير مسبوقة تكشف عن جوهر الأزمة:

•           الارتفاع في قرن من الزمان: سجّل الدين الفيدرالي الأمريكي مع مطلع عام 2025 مستوى قياسيًا بلغ 36.1 تريليون دولار. حيث ارتفع الدين الفيدرالي الأمريكي من 395 مليار دولار في عام 1924 إلى 35.46 تريليون دولار في عام 2024. هذا النمو الهائل، الذي يبلغ أكثر من 89 ضعفاً، يعكس عقوداً من الإنفاق المتزايد وغير المنضبط، وهو رقم لم يكن ليتخيله أكثر المحللين تشاؤمًا قبل عقدين فقط، ويعكس عقودًا من الإنفاق المتزايد وغير المنضبط الذي يفتقر إلى الرؤية المستقبلية.

•           دين يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي: المؤشر الأخطر على صحة الاقتصاد الأمريكي هو نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، والتي تعبر عن قدرة الدولة على سداد ديونها. تجاوزت هذه النسبة 100% في عام 2013، وفي السنة المالية 2024، بلغ متوسط الناتج المحلي الإجمالي نحو 28.83 تريليون دولار، وهو أقل من الدين الأمريكي البالغ 35.46 تريليون دولار. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 123%. هذا الارتفاع الصارخ يعكس حجم الضغط الذي تواجهه الحكومة في ظل عجز مالي متزايد، ويضع علامات استفهام حول قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المستقبلية.

•           تفاصيل تقسيم الديون: يتوزع هذا الدين الأمريكي بين ديون مملوكة للجمهور بقيمة 28.8 تريليون دولار، وديون بين الحسابات الحكومية الأمريكية بقيمة 7.3 تريليون دولار.

الدين العام الأمريكي ، الذي ارتفع بنسبة 122% منذ عام 2015، يعزى بشكل رئيسي إلى زيادة تمويل البرامج والخدمات خلال جائحة كوفيد-19. في المقابل، زادت الحيازات الحكومية الداخلية بنسبة 42% فقط منذ عام 2015، حيث أن إيرادات إدارة الضمان الاجتماعي، وهي أكبر مستثمر في سندات الخزانة، لم تشهد زيادة كبيرة. في عام 2015، كان الدين العام 13.05 تريليون دولار، والحيازات الحكومية الداخلية 5.10 تريليون دولار. وبحلول عام 2025، قفز الدين العام إلى 28.95 تريليون دولار، والحيازات الحكومية الداخلية إلى 7.26 تريليون دولار. هذه الأرقام تعكس اعتمادًا متزايدًا على الدين العام الخارجي لتمويل الأنشطة الحكومية، ما يشير إلى ضعف في الموارد الذاتية.

الفصل الثاني: وحش الفائدة المتزايد – تكلفة الانهيار تلتهم الميزانية

لطالما ظلت نفقات الفائدة على الدين الأمريكي مستقرة نسبيًا بفضل انخفاض أسعار الفائدة، وتصور المستثمرين بأن مخاطر تخلف الحكومة الأمريكية عن السداد منخفضة. لكن هذه الحقبة الذهبية بدأت تتلاشى، مع ارتفاع أسعار الفائدة، لتكشف عن فاتورة باهظة تسددها الإمبراطورية، لاسيما وأن الشواهد الرقمية تفيد ارتفاع متوسط سعر الفائدة من 2.35% في عام 2015 إلى 3.32% في عام 2024. وهذا الارتفاع بالتزامن مع الدين الإجمالي البالغ 35.46 تريليون دولار في عام 2024.

وهذا يعني أن هناك زيادة هائلة في تكاليف خدمة الدين، حيث يُتوقع أن تضيف هذه التكاليف نحو 2.5 تريليون دولار على مدى العقد القادم. هذه التكاليف تعد من أبرز التحديات التي تواجه الحكومة الأمريكية في إدارة الدين العام، خاصة أن أغلب الاستدانة الأمريكية مرتبطة بسندات طويلة الأجل. هذا الرقم يمثل عبئًا إضافيًا ضخمًا على الميزانية الفيدرالية الأمريكية ، وقد تضطر الحكومة الأمريكية إلى الاقتراض أكثر لتسديد الفوائد، ما يخلق حلقة مفرغة من الديون، تدفع البلاد نحو الهاوية المالية.

الفصل الثالث: سقف الدين – ورقة التوت التي تكشف المستور

إن سقف الدين الفيدرالي هو مؤشر على حجم الإنفاق الحكومي، وقدرة البلاد على الوفاء بالتزاماتها، ويكشف عن عمق الانقسام السياسي، وضعف الإرادة الأمريكة في مواجهة الأزمة. إنه ستار شفاف لا يستر العجز المتنامي في السياسات الحكومية التي تجاهلت سد الفجوة ما بين ارتفاع في النفقات وتراجع في الإيرادات، في مقابل السير على وتيرة:

•           إقرار رفع سقف الدين وسط انقسام سياسي: في 22 مايو 2025، أقرّ مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون لرفع سقف الدين بمقدار 4 تريليونات دولار، بأغلبية 215 صوتًا مقابل 214. هذا الإقرار، الذي جاء وسط انقسام سياسي حاد، يؤكد أن سقف الدين أصبح مجرد إجراء شكلي لا يعكس حقيقة الإنفاق المفرط، بل يسهم في تفاقم الأزمة. إنه أشبه بقرار زيادة حجم إناء يمتلئ بالماء بدلاً من إغلاق الصنبور المتدفق.

•           زيادة العجز المقدرة: يقدر مكتب الميزانية بالكونغرس الأمريكي أن القانون سيرفع العجز بمقدار 3.3 تريليون دولار خلال العقد المقبل، ما يضيف أعباء جديدة على الاقتصاد الفيدرالي. هذه الأرقام المخيفة تكشف عن عدم وجود رؤية حقيقية لضبط الإنفاق، بل استمرار في سياسة "الاقتراض لسد العجز"، وهي سياسة تفتقر للمسؤولية وتضعف مستقبل الأمة.

الفصل الرابع: الفجوة المالية المستمرة – نزيف بلا توقف

 

مع توالى التحذيرات إلا أن صورة الاقتصاد الأمريكي الذي لطالما قُدم كنموذج للاستقرار، بدأت تهتز تحت وطأة أزمة دين تتفاقم بوتيرة مثيرة للقلق. إن الفجوة المستمرة بين الإيرادات والنفقات الفيدرالية باتت شريان هذا الانهيار، فالحكومة الأمريكية تنفق أكثر بكثير مما تجمعه، متجاهلة تحذيرات متكررة من التضخم المالي واستنزاف الموارد، لتستمر في نزيف مالي لا يتوقف.

جذور الأزمة: تاريخ من التوسع في الإنفاق:

لم يكن هذا النزيف وليد اللحظة؛ فجذوره تمتد عميقًا في تاريخ من التوسع المفرط في الإنفاق. لقد كشفت الصدمات الخارجية، مثل الأزمة المالية لعامي 2007-2009، والركود الكبير الذي أعقبها، ثم جائحة كوفيد-19، عن هشاشة غير مسبوقة في النظام المالي الأمريكي. هذه الأحداث، وإن كانت عواصف عابرة، إلا أنها دفعت مستويات الدين العام إلى أرقام تاريخية لم يكن يتصورها أحد. حتى أن بعض المحللين لم يترددوا في وصف النموذج الأمريكي الحالي بأنه "اقتصاد على حافة الانهيار المؤجل"، وهو وصف يلخص بدقة حالة الإنكار المزمن لواقع مالي يتدهور يومًا بعد يوم.

الأدهى من ذلك، أن هذه الفجوة المالية لم تكن مجرد نتاج لأزمات عارضة، بل سبقت تلك الصدمات واستمرت بعدها، ومن المتوقع أن تتسع أكثر وفقًا للسياسات الحالية، ما يدفع الدين الأمريكي إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ. التقديرات تشير إلى أن الفجوة بين النفقات والإيرادات قد تصل إلى نحو 6.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية السنة المالية 2025. هذا يعني أن برامج الرعاية الاجتماعية الحيوية، التي تعد شريان الحياة لملايين الأمريكيين، قد تصبح غير قابلة للاستدامة دون إصلاحات هيكلية جذرية ومؤلمة.

 

الفصل الخامس: مؤشرات الانحدار وتداعياته على الهيمنة العالمية

إن تداعيات هذه الأزمة تتجاوز الحدود الأمريكية، لتؤثر على مسارات التحول الاقتصادي العالمي. فلقد وقعت الولايات المتحدة في فخ سياساتها المالية التوسعية غير المستدامة، متجاهلة تحذيرات متكررة من التضخم المالي، واستنزاف الموارد، والإنفاق المفرط على حروب خارجية ومشاريع لا تولد عائدًا اقتصاديًا داخليًا. هذه السياسات، التي قادها نفوذ سياسي وعسكري، أدت إلى تآكل القاعدة الاقتصادية للدولة.

مؤشرات الانحدار:

•           عبء الدين على الأجيال القادمة: تشير الفوائد المتزايدة للدين العام إلى أن "مستويات الدين المرتفعة يمكن أن تحل محل الاستثمار الخاص، وتدفع الأعباء المالية إلى الأجيال القادمة". هذا يعني أن الأجيال القادمة ستدفع ثمن السياسات المالية الحالية لواشنطن، ما يحد من فرص النمو المستقبلي، ويضعف القوة الاقتصادية للدولة.

•           الإنفاق الفيدرالي يتجاوز الإيرادات بشكل كبير: في العقود القادمة، من المتوقع أن تشكل برامج الصحة والتقاعد الفيدرالية تحديات مالية طويلة الأجل. الفجوة بين النفقات المتوقعة بنسبة 23.5% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2025، والإيرادات المتوقعة بنسبة 17.0% من الناتج المحلي الإجمالي ستتسع أكثر. هذا التفاوت الصارخ يؤكد أن النموذج الاقتصادي الحالي غير مستدام.

خاتمة: ترنح ما قبل الانهيار وتحول عالمي محتوم

إن التقرير يكشف عن أن الإمبراطورية الأمريكية تعيش مرحلة "ترنح ما قبل الانهيار". فالإجراءات الاستثنائية التي تلجأ إليها وزارة الخزانة الأمريكية، وإن كانت تمنح مهلة قصيرة حتى منتصف سبتمبر 2025، إلا أنها لا تعالج الأسباب الجذرية للمشكلة. يحذر خبراء الاقتصاد من أن استمرار هذا الاتجاه، دون ضبط للنفقات أو إصلاح ضريبي شامل، قد يؤدي إلى أزمة ديون تهدد الاستقرار الاقتصادي للولايات المتحدة. ووفقًا لمكتب الميزانية، فإن العجز المزمن والمستويات التاريخية من الدين قد يضعفان قدرة البلاد على الاستجابة للأزمات المستقبلية، سواء كانت اقتصادية أو جيوسياسية.

إن التأخير في اتخاذ إجراءات جذرية لمعالجة سقف الدين، يمكن أن يخلق مخاطر جسيمة. هذه المخاطر لا تقتصر على الاقتصاد الأمريكي فحسب، بل تمتد لتشمل الاقتصاد العالمي، نظرا لرضوخ الدول للمعادلة الأمريكية المتعلقة بربط اقتصادها بالدولار الأمريكي.

لقد بدأت فصول قصة الانهيار الاقتصادي الأمريكي تتكشف بوضوح. وبينما يتزايد الدين وتتعاظم تكاليف الفائدة، ويستمر الإنفاق المفرط، مع ازدياد عدد المقاطعين للمنتجات الأمريكية تترنح هذه القلعة المالية. وفي ظل هذا المشهد الدرامي، ليس أمام الدول سوى الاستغناء عن الدولار حتى لا تقع ضحية للسياسات الأمريكية الخاطئة.