موقع أنصار الله . تقرير | علي الدرواني:
في ظل تفاقم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، وتعالي أصوات العالم مطالبة بإنقاذ أكثر من مليوني إنسان محاصر، يصرّ كيان الاحتلال الإسرائيلي على الالتفاف على أي ضغط دولي حقيقي، عبر أساليب مكشوفة ومفضوحة، محاولًا التستر على سياساته في التجويع والحصار والإبادة البطيئة. فما يزال يماطل في فتح المعابر، ويُصدر تصريحات جوفاء عن تخفيف الحصار من خلال مشاهد استعراضية، مثل عمليات الإنزال الجوي المتفرقة، وتسيير عدد محدود جدًا من الشاحنات التي لا تكفي حتى لإطعام حيّ واحد من الأحياء المنكوبة.
وفي محاولة لامتصاص الغضب الدولي، أعلن الاحتلال المجرم عن ما سماه «هدنة تكتيكية» تمتد عشر ساعات يوميًا، تشمل مناطق المواصي ودير البلح وأجزاء من مدينة غزة. وبموجب هذه التهدئة، نفذت القوات المسلحة الأردنية -بالتنسيق مع الإمارات- ثلاث عمليات إنزال جوي للمساعدات الإنسانية والغذائية، لكن سكان غزة وشهود العيان أكدوا أن جزءًا من هذه المساعدات سقط في مناطق اشتباك خطرة، فيما تساقط بعضها الآخر فوق خيام النازحين، ما تسبب بسقوط جرحى بينهم أطفال. وأشارت منظمات الإغاثة إلى أن الإنزال الجوي خيار مكلف، وغير فعّال، ويعرّض حياة المدنيين لمزيد من الخطر بدلًا من إنقاذهم.
على الأرض، لم تتجاوز الشاحنات المسموح بمرورها حتى الآن 78 شاحنة فقط عبر معبر كرم أبو سالم، منها 36 لـ«برنامج الأغذية العالمي»، و6 محمّلة بحليب الأطفال والحفاظات، و5 لـ«المطبخ العالمي»، إضافة إلى 47 شاحنة دخلت من «زيكيم» بينها 20 محملة بالطحين، و11 أخرى للمطبخ العالمي، وفق مصادر أممية. وقد كشف رئيس حكومة العدو المجرم بنيامين نتنياهو صراحةً عن نيته الإبقاء على دخول الحد الأدنى فقط من المساعدات، مهاجمًا الأمم المتحدة التي اتهمته بعرقلة تدفق الإغاثة، زاعمًا أن المنظمة «تكذب وتختلق الذرائع».
جاء هجوم نتنياهو على المنظمة الأممية على خلفية وثيقة صادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، تشير إلى عقبات خطيرة تواجه المنظمات العاملة في الميدان، أبرزها التهديدات المباشرة التي يتعرض لها عمال الإغاثة، والطرق الخطرة أو المقيّدة، والتأخير المتعمد أو الرفض المتكرر لقوافل المساعدات، ما يؤدي إلى إهدار الوقت والموارد ،ويعيق تلبية الاحتياجات العاجلة. كما طالبت «أوتشا» بالسماح بدخول المزيد من السلع الأساسية من القطاع الخاص إلى غزة، مؤكدة أن المساعدات وحدها لا تكفي لسكان يزيد عددهم عن مليوني نسمة.
وفي انتقاد صريح، تساءلت مسؤولة الإعلام والاتصال في وكالة «أونروا»: «لماذا نستخدم الإنزال الجوي بينما يمكننا نقل مئات الشاحنات عبر الحدود؟»، مشددة على أن إدخال المساعدات عبر المعابر البرية أسهل وأسرع وأكثر فعالية وأقل تكلفة، ولن يوقف الإنزال الجوي وحده المجاعة المتفاقمة، بينما لا تزال آلاف الشاحنات تنتظر الضوء الأخضر من الاحتلال للدخول إلى القطاع.
رغم كل ما يروّج له الكيان المجرم من صور إعلامية، فإن الأرقام على الأرض تفضح هذه الادعاءات. فمنذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى اليوم، استشهد أكثر من 59,921 فلسطيني بينهم آلاف النساء والأطفال، وأصيب أكثر من 145,233 آخرين. ومنذ الثامن عشر من مارس 2025 فقط وحتى الآن، ارتقى أكثر من 8،755 شهيدًا إضافيًا وأصيب أكثر من33,192 آخرين. وتحولت المجاعة نفسها إلى أداة قتل متعمدة، إذ توفي 147 إنسانًا حتى الآن بسبب سوء التغذية ونقص الطعام، بينهم 88 طفلًا، وسط انهيار شبه كامل للنظام الصحي.
وتُجمِع التقارير الميدانية والمنظمات الإنسانية على أن تلبية الحد الأدنى من احتياجات غزة تتطلب إدخال ما لا يقل عن نصف مليون كيس طحين بشكل عاجل، إلى جانب 600 شاحنة إغاثية يوميًا محمّلة بالغذاء وحليب الأطفال والأدوية والوقود اللازم لتشغيل المستشفيات ومحطات المياه والصرف الصحي. ومع ذلك، ما زال الاحتلال يرفض إدخال غاز الطهو الذي توقف بالكامل منذ الثاني من مارس الماضي، ويواصل فرض قيود صارمة على التجار، ومنع دخول البضائع الضرورية.
إنقاذ غزة لا يحتاج إلى استعراضات جوية ولا إلى صفقات شكلية، بل إلى ضغط حقيقي يُجبر الاحتلال على فتح المعابر دون شروط، وإدخال آلاف الشاحنات العالقة، وتأمين الوقود والإمدادات، ووقف العدوان فورًا لتمكين فرق الإسعاف والدفاع المدني من الوصول إلى الضحايا تحت الأنقاض وفي الطرقات.
إن المسرحيات الإعلامية لن تنقذ الأرواح، بل تمنح الاحتلال مزيدًا من الوقت لإطالة أمد الحصار، وإبادة ما تبقى من حياة في غزة. إن غزة اليوم لا تحتاج قنابل طحين تُلقى من السماء، بل تحتاج ممرًا مفتوحًا على الأرض، وشاحنات تدخل دون قيود، ووقودًا يعيد الحياة للمستشفيات، ومحطات المياه. وكل يوم تأخير يعني مزيدًا من الشهداء الذين يسقطون جوعًا ومرضًا، بعدما عجز العالم عن حمايتهم من القنابل.
إنقاذ النساء والأطفال والمرضى والجوعى في غزة اليوم مسؤولية أخلاقية وإنسانية لا يمكن التساهل معها. ويجب ألّا يُسمح للاحتلال بأن يقتل أهل غزة مرتين: مرة بالقصف، ومرة أخرى بالتجويع تحت عنوان كاذب اسمه «مساعدات إنسانية».