خلال الأيام الأولى من سبتمبر الجاري، نفذت القوات المسلحة اليمنية ملحمة عسكرية متكاملة. اتسع ميدانها من البحر الأحمر مرورا بميناء ينبع وصولاً إلى مطار "رامون" في النقب وعسقلان وأسدود ويافا والقدس المحتلة.
أولى العمليات كانت من البحر الأحمر، حيث دوّى الصاروخ اليمني البعيد المدى مستهدفاً سفينة إسرائيلية قبالة ميناء ينبع، على بُعد يزيد عن 800 ميل. اليد اليمنية لم تعد مقيدة، والبحار لم تعد عصيّة على نفوذها. أعقبها بيوم عملية أخرى شمالي البحر الأحمر استهدف سفينة (MSC ABY).
ثم جاءت الضربات تباعاً، لتكشف عن تصعيد نوعي غير مسبوق: صواريخ "فلسطين2" الفرط صوتية المتشظية التي تخترق الأجواء وتُربك الدفاعات، وصواريخ "ذو الفقار" التي تنفذ بدقة إلى عمق يافا ومطار اللد، لتفشل المنظومات الأمريكية والإسرائيلية المتطورة في اعتراضها. كان المشهد أشبه بصفعة مدوية للتحالف العسكري والاستخباراتي الأكبر في العالم، الذي طالما ادّعى امتلاك السماء والأرض.
صاروخ "فلسطين2" المتشظي الفرط صوتي يعاود مهمة إدخال الكيان في مأزق، مستهدفاً للمرة الثانية هدفاً حساساً للعدوِّ الإسرائيليِّ في منطقةِ يافا المحتلة. وفي الجهة الغربية من مدينة القدس المحتلة كان هناك هدف مهم دكته القوات المسلحة بصاروخ "فلسطين2". وفي وقت لاحق صاروخ "ذوالفقار" يستهدف هدفاً مهماً للعدو في يافا، وصاروخ آخر يستهدف مطار اللد، حيث وصل إلى هدفِه بعد فشل كلُ المنظوماتِ الاعتراضيّةِ الإسرائيليّةِ والأمريكيّةِ في اعتراضِه.
ولم يكن سلاح الجو المسير بعيداً عن هذه المعركة. بطائرات "صماد4" استُهدفت هيئة الأركان الإسرائيلية في قلب يافا المحتلة، تلتها عمليات نوعية استهدفت محطة كهرباء الخضيرة، ومطار اللد، وميناء أسدود، وأهدافاً أخرى في العمق المحتل. لم يعد هناك مكان آمن في "إسرائيل"، ولم تعد المدن الفلسطينية المحتلة تعرف الطمأنينة.
أقرت وسائل الإعلام العبرية -بلسان الخوف قبل التحليل- أن الصواريخ اليمنية "ماكرة". صحف ومواقع عبرية كشفت أن بعض الصواريخ أُطلقت برؤوس متعددة تنشطر قبل الاصطدام، لتتحول إلى شظايا وانفجارات متسلسلة في أكثر من موقع. خبراء المتفجرات في الكيان وجدوا أنفسهم يتعاملون مع مشهد غير مسبوق: صاروخ واحد يؤدي إلى ثلاثة أو خمس انفجارات متتالية، يعقّد عمليات الإنقاذ ويكشف هشاشة الدفاعات.
لم يكن هذا مجرد إنجاز عسكري فحسب، بل هو تطور تقني يضع اليمن في مصاف الدول المالكة لأكثر الأسلحة تطوراً في العالم. فالصواريخ الانشطارية ليست مجرد قذائف، بل منظومات ذكية تتحكم في التوقيت وطبيعة التشظي، لتجعل من الأرض المستهدفة حقلاً من الألغام الموقوتة، وتترك العدو في حالة من الرعب النفسي المستمر.
وعلى الجانب الآخر من السماء، وقفت الدفاعات الجوية اليمنية كجدار صلد أمام طيران العدوان. صحيفة "إسرائيل هيوم" نقلت عن ضابط في سلاح الجو الصهيوني اعترافاً مريراً: "التهديد الرئيسي في اليمن هو صواريخ الدفاعات الجوية المنتشرة في كل مكان، وقد أسقطت عدداً كبيراً من الطائرات الأمريكية المسيرة".
وأضاف أن المهمة طويلة وصعبة، والتهديد الرئيسي في اليمن هو صواريخ الدفاعات الجوية اليمنية المضادة للطائرات، مبيناً أن بطاريات الدفاعات الجوية اليمنية متطورة ومنتشرة في جميع أنحاء اليمن. وأشار الضابط الصهيوني إلى تمكن الدفاعات الجوية في اليمن من إسقاط عدد لا بأس به من الطائرات الأمريكية المسيّرة خلال العدوان.
وأردف قائلاً: "تهديد الدفاعات الجوية في اليمن كبير، واليمنيون مستعدون، وكان علينا توفير أفضل مسار للطائرات، والتأكد من أن الطيارين يشعرون بالأمان". واعتبر أن لدى القوات الجوية الأمريكية مبرراً وجيهاً لأخذ تهديد الدفاعات الجوية في اليمن على محمل الجد مع إعلان إسقاط 16 طائرة متطورة من طرازMQ-9.
هذا الاعتراف يختصر الكثير. فاليمن لم يعد مجرد مُرسل للصواريخ، بل صار قادراً أيضاً على حماية أجوائه، وإسقاط أحدث الطائرات الأمريكية من طراز MQ-9. هكذا تتجلى المعادلة الكاملة: قوة هجومية في العمق، وقدرة دفاعية تحصّن الداخل.
لم يملك قادة الكيان إلا أن يلوذوا بالملاجئ. صحيفة "هآرتس" العبرية كشفت أن نتنياهو اضطر لعقد جلسة "المجلس الوزاري المصغر" في ملجأ محصن، في خطوة تعكس حجم الرعب الذي يعيشه العدو. أيُعقل أن يتحول "رئيس وزراء" الكيان الإسرائيلي -الذي طالما تباهى بالقوة- إلى رجل يبحث عن جدار يحتمي به من صواريخ اليمن؟!
البيانات المرتبكة للشرطة الإسرائيلية تكشف بدورها حجم الأزمة: دعوات للمغتصبين للابتعاد عن شظايا الصواريخ، وتحذيرات من الألغام الصغيرة التي تخلّفها. أصبح العدو مشلول الحركة، محاصر الخيال، عاجزاً عن إقناع المغتصبين بأن السماء فوقهم آمنة.
وفي هذا الصدد، أصدرت شرطة العدو الصهيوني بياناً أوضحت فيه أنه "تم العثور على 3 مواقع لانفجارات ثانوية في (لواء المركز) عقب إطلاق صاروخ من اليمن"، في إشارة إلى انفجار الرؤوس المتعددة التي حملها الصاروخ اليمني، والتي تؤكد فشل خيارات العدو الدفاعية أمام هذا النوع من الردع.
وأضافت شرطة العدو في بيانها: "نحذر من بقايا متفجرة، وندعو إلى الابتعاد عنها والإبلاغ عبر مركز الطوارئ". وهو الأمر الذي يكشف حجم الرعب والإرباك الذي تسببه هذه النوعية من الصواريخ، ما يضع العدو أمام مأزق جديد.
وتعقيباً على العملية النوعية التي نفذتها القوات المسلحة اليمنية الأربعاء، أعلن "جيش" العدو الصهيوني أنه "بعد إجراء فحوصات تبين أن الصاروخ الذي أُطلق صباح اليوم من اليمن كان عنقودياً".
وتؤكد هذه المعطيات أن الصواريخ اليمنية الانشطارية متعددةَ الرؤوس باتت تشكل ردعاً غير مسبوق، يزيد جبهة العدو الداخلية قابلية للانفجار أكثر من أي وقتٍ مضى.
ولا تكمن عظمة الموقف اليمني فقط في القوة التدميرية للصواريخ والطائرات، بل في الأثر النفسي والمعنوي الذي تتركه هذه الضربات. فحين يدخل ملايين المغتصبين إلى الملاجئ عند سماع صافرات الإنذار، وحين يعيش القادة في قلق دائم من أين تأتي الضربة المقبلة، يصبح السلاح أداة حرب نفسية موازية للقوة العسكرية.
إنها معركة على الوعي، بقدر ما هي معركة على الأرض. اليمنيون لا يرسلون صواريخهم فقط لإحداث دمار، بل ليقولوا للعالم إن زمن الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية قد ولّى، وإن شعباً صامداً تحت الحصار قادر على قلب الموازين.
منذ أخذت على عاتقها مهمة تحييد القدرات العسكرية اليمنية، وتبنيها للتحالفات الدولية(حارس الإزدهار، أسبيدس) لإسناد الكيان الصهيوني، تتجه واشنطن للانحدار بشكل ملحوظ إثر تراكم الفشل الناتج عن الثغرات الكبيرة التي ظهرت في أسلحتها وخاصة البحرية. بين الفينة والأخرى تطالعنا التقارير الأمريكية بإخفاق جديد يكمن وراء فشلها في البحر الأحمر.
آخر تلك التقارير أصدره معهد البحرية الأمريكية، الجمعة، والذي كشف عن أوجه القصور، ومدى الصعوبات التي واجهتها البحرية الأمريكية في المعركة مع الجيش اليمني في البحر الأحمر. حيث أكد المعهد أن البحر الأحمر شهد أكبر صراع بحري منذ الحرب العالمية الثانية، وأول تعرض مباشر للسفن الحربية الأمريكية لنيران العدو. مضيفا أن التدخل الأمريكي في البحر الأحمر فرض ضغطا هائلا على القوات البحرية الأمريكية، وكشف عن مواطن قوة وضعف في الأسطول.
وكشف أن البحرية الأمريكية واجهت في البحر الأحمر مركبة غير مأهولة تحت الماء في أول حادثة من نوعها في التاريخ العسكري، مؤكدا أن عمليات البحر الأحمر كشفت حدود قدرات مجموعة حاملة الطائرات القتالية وأوجه قصور حاسمة.
ولفت إلى أن مقاتلات الحاملة واجهت صعوبة في جمع معلومات استخباراتية دقيقة، واضطرت للاعتماد على أصول خارجية. كما أظهرت عمليات البحر الأحمر قيودا في تزويد مقاتلات الحاملة بالوقود جوا، وأجبرها على الاعتماد على دعم سلاح الجو بانتظار دخول الطائرة المسيّرة MQ-25 الخدمة.
وأكد أن عمليات البحر الأحمر كشفت صعوبة اكتشاف وتتبع وتدمير الطائرات المسيّرة أحادية الاتجاه التي استخدمها اليمنيون بفعالية. كما كشف أن المدمرات الأمريكية أطلقت في يوم واحد صواريخ توماهوك بأكثر مما أنتجته الولايات المتحدة خلال عام كامل.
وخلص التقرير إلى أن أزمة البحر الأحمر فريدة من نوعها، وتقدم دروسا مهمة لمواجهة خصوم أكثر تطورا في المستقبل. فأزمة البحر الأحمر "منحت الولايات المتحدة فرصة لتجربة أسلحتها وتكتيكاتها عمليا". مؤكدا أن على البحرية الأمريكية استيعاب الدروس في البحر الأحمر بجدية استعدادا لصراعات المستقبل.
المراقبون يرون في العمليات الأخيرة مفاجأة استراتيجية كبرى. لم يكن في حسبان الأمريكي ولا الإسرائيلي أن اليمن "سيجرؤ" على ضرب "هيئة الأركان" في "تل أبيب"، أو على استهداف سفن في البحر الأحمر بهذا العمق. لهذا، فإن ما يجري اليوم ليس مجرد رد عابر، بل بداية لمرحلة جديدة من الردع، قد تشمل أهدافاً أكثر عمقاً وأكثر خطورة في الأيام المقبلة.
اليمن يقف اليوم ليس كبلد صغير محاصر، بل كأمة تحمل مشروعاً للتحرر. قدرته على ضرب عمق "إسرائيل" بأسلحة متطورة قادرة على تخطي الدفاعات الأمريكية والإسرائيلية، تمثل درساً لكل الشعوب المستضعفة: أن الإرادة تفعل ما تعجز عنه الإمبراطوريات.
لقد أثبت اليمن أن الصواريخ لا تحتاج إلى مصانع غربية، بل إلى إرادة تصنع المستحيل. أثبت أن البحر الأحمر ليس ممراً آمناً للعدو، وأن سماء فلسطين ليست ملكاً لطائراته. أثبت أن المغتصبين الصهاينة الذين جاؤوا من أطراف الأرض ليحتلوا أرضاً ليست لهم، سيعيشون في خوف دائم من صواريخ تصنعها أيادٍ يمنية صلبة.
اليمن اليوم يرسم بدمه وسلاحه معادلة جديدة: أن العدو ليس قدراً محتوماً، وأن الدفاع عن فلسطين ليس حكراً على جيوش محيطة بها، بل هو واجبٌ يؤدّيه شعبٌ محاصر، لكنه حيٌّ، ممتلئ بالكرامة والإيمان.
وهكذا، يتحول المشهد اليمني إلى ملحمة عسكرية وأدبية وإنسانية، يكتبها المقاتل في الجبهات، وتردد صداها كل قلوب الأحرار: أن اليمن -رغم الجراح- صار رمحاً في خاصرة الكيان، وصوتاً للقدس وغزة، وصانعاً لمعادلات ردع تتجاوز الجغرافيا، وتكسر المستحيل.