موقع أنصار الله . تحليل | أحمد داود
مر عام على جريمة "البيجر" التي ارتكبها العدو الصهيوني في لبنان، والندوب لا تزال حاضرة في الوعي الجمعي، فالحادثة لم تكن مجرد استهداف لمقاتلين أو أجهزة اتصال، بل كانت جرحاً عميقاً في قلب مجتمع كامل، حيث تحولت منازل اللبنانيين إلى بيوت عزاء، والأحلام الصغيرة إلى ذكريات موجعة.
لقد وقع الانفجار على موجتين مختلفتين: الأولى في أجهزة "بيجر" من نوع AR-924 في مثل هذا اليوم، يوم الثلاثاء 17 سبتمبر 2024م حوالي الساعة الثالثة عصراً، والثانية في الأجهزة اللاسلكية من نوع ICOM v82 يوم الأربعاء 18 سبتمبر قرابة الخامسة والربع عصراً، وقد سجلت تلك الانفجارات في مناطق لبنانية مختلفة، لكن الغالبية منها كانت مركزة في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت، وبلغ عدد الشهداء 39 مدنياً، في حين تجاوزت الإصابات 3 آلاف، وكانت أغلبها في العيون واليدين والخاصرة.
ويستخدم جهاز "البيجر" الالكتروني الصغير لاستقبال الرسائل النصية أو الإشعارات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت، وكان يُستخدم بشكل شائع في التسعينيات وبداية الألفية كوسيلة أساسية للتواصل قبل أن تصبح الهواتف المحمولة متاحة على نطاق واسع، وكان مجاهدو حزب الله يستخدمونه في التواصل فيما بينهم عبر الرسائل، معتقدين أنهم سيتمكنون من تجنب تعقب كيان العدو الإسرائيلي لمواقعهم الجغرافية؛ لأن هذه الأجهزة لا تتطلب إنترنت أو شبكة لاسلكية، ولا تستخدم بيانات تحديد الموقع الجغرافي؛ ما يجعلها آمنة نسبياً مقارنة بالهواتف الذكية.
وفي توصيف لما جرى، قال شهيد الإنسانية سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إن العدو أراد -عبر تفجيرات الثلاثاء والأربعاء- أن يقتل نحو 5000 إنسان في دقيقتين، ومن في محيطهم دون أي اعتبار، مؤكداً أن ما جرى هو "عملية إرهابية كبرى"، ومجزرتان كبيرتان، مشيراً إلى أنه "يمكن أن نطلق على ما حدث يومي الثلاثاء والأربعاء بأنه إعلان حرب"، متوعداً بالحساب العسير والقصاص العادل من حيث يحتسب العدو الإسرائيلي ومن حيث لا يحتسب.
لقد تعرض حزب الله لضربة كبيرة على الصعيدين الأمني والإنساني في تطور غير مسبوق في تاريخ المقاومة اللبنانية، فهذا النوع من القتل والاستهداف غير مسبوق عالمياً، ولذلك كان الثلاثاء 17 سبتمبر 2024م والأربعاء 18 سبتمبر 2024م يومين ثقيلين على لبنان.
كان من أبرز أهداف كيان العدو الإسرائيلي -من خلال العملية- توجيه ضربة قاصمة تسقط حزب الله، وتخرجه من معادلة إسناده لغزة، إذ كانت الجبهة اللبنانية تشكل له كابوساً كبيراً، وهجرت معظم سكان شمال فلسطين المحتلة، وحولت بعض المغتصبات إلى مدن مهجورة مثل "عيتا الشعب". يضاف إلى أهداف العملية كسر حزب الله تماماً، وإخراجه من محور المقاومة، والقضاء على دوره الحيوي في المنطقة.
وعلى الرغم من الضربة الموجعة لحزب الله، إلا أن شهيد الإنسانية -وفي خطابه بعد الحادثة- أكد أن لبنان لن يترك غزة، كما تحدى السيد نصر الله نتنياهو وغالانت قائلاً لهما: "لن تستطيعا إعادة السكان إلى الشمال، وهذا هو التحدي بيننا"، غير أن الأحداث كانت تسير إلى الأسوأ، ولم يستوعب اللبنانيون وأحرار الأمة أن الهدف التالي هو سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، والسيد هاشم صفي الدين، وأن حزب الله سيعيش بعدها أياماً قاسية ومؤامرات كبيرة تهدد وجوده المقاوم.
ويقر الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم بوجود ثغرة كبيرة من خلال جريمة البيجر، فعلى الرغم من أن عملية الشراء كانت مموهة، إلا أنه تبين للحزب أنها كانت مكشوفة للعدو الإسرائيلي، كما تبين أن نوع المتفجرات التي وضعت في البيجر "استثنائية"، ولا يمكن كشفها عبر آلية الفحص، ولم يتمكن الحزب من اكتشاف هذه الثغرة، ولهذا كانت العملية ضربة كبيرة جداً لحزب الله.
ويتضح الآن -وبعد مرور عام على هذه الجريمة- مدى فظاعة الحدث، وخبث التخطيط الصهيوني، وتربصه المتواصل بالمجاهدين في محور المقاومة، فمن خلال هذه العملية يتبين أن كيان العدو الإسرائيلي لا يغفل عن محيطه العربي، بل ينسج الخطط وعلى المدى الطويل، حتى يصل إلى غايته بتوجيه ضربات نوعية ضد خصومه، في حين أن الدول العربية والإسلامية تتعامل مع الكيان بنوع من الغفلة وعدم التعمق في سياساته العدوانية التي تستهدف المنطقة.
وإذا كان حزب الله قد اكتوى بالخبث اليهودي الصهيوني، إلا أن أقدامه لا تزال راسخة في لبنان ومحور المقاومة، والصدمات التي تلقاها الحزب قد استفاد منها سريعاً، وعمل على ترميم بنيته وقدراته، لكن الوضع الداخلي اللبناني والإقليمي لا يساعده على النهوض سريعاً، فما بعد "البيجر" جاء اغتيال السيد حسن نصر الله، ثم وصول الجماعات التكفيرية إلى السلطة في سوريا، ثم انتخاب رئيس وحكومة في لبنان تدين بالولاء لأمريكا وكيان العدو، بعد أكثر من 50 يوماً من عدوان صهيوني، ومحاولة تقدم برية فاشلة لاحتلال جنوب لبنان، وصولاً إلى العدوان الصهيوأمريكي على الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وهذه كلها مؤشرات على أن العدو يواصل تنفيذ مخططه الإجرامي لاستكمال سيطرته على المنطقة، ليكون الامبراطور الأوحد لها.
ما حدث في لبنان درس كبير، ينبغي أن يستوعبه الجميع، وفي المقدمة الدول العربية والإسلامية، والتي تعتقد أنها بعيدة عن دائرة الاستهداف، لعوامل كثيرة من أبرزها التطبيع مع الكيان، أو الثقة بالحماية الأمريكية، وما حدث في قطر خير شاهد على ذلك. ولهذا يجب الانتباه لمخططات العدو، وهي رسالة للداخل اليمني، فالعدو بات ينظر إلى الجبهة اليمنية بأنها مصدر خطر كبير عليه، ولا يستبعد أن يبحث عن كل الخطط والوسائل لاستهدافنا، فالحذر هنا مطلوب، والتهاون مع العدو لا يصب في مصلحة أحد.