موقع أنصار الله . تقرير 

في غزة، حيث لا شمس تُشرق بطمأنينة ولا ليل يهبّ بالسكينة، يعيش الملايين في حصار الموت، تحت سماء مثقلة بالقصف والدخان. غزة التي حوّلها العدو الإسرائيلي إلى ساحة إبادة جماعية موثقة بآلاف الأدلة، تحوّلت إلى شاهد حيّ على أبشع الجرائم في القرن الحادي والعشرين. وفي واحدة من أكثر اللحظات قتامة في التاريخ الحديث، يشهد قطاع غزة فصولًا متلاحقة من الإبادة الجماعية الموثقة بشهادات لجان التحقيق الأممية والمنظمات الحقوقية الدولية. منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يعيش أكثر من مليوني إنسان في مساحة محاصرة، بين القصف المستمر والحصار الخانق، في ظل غياب أي مكان آمن أو ممر إنساني حقيقي.

وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أعلنت، الأربعاء، استشهاد 98 مواطنا، وإصابة 385 آخرين خلال الساعات الـ 24 الماضية. مضيفة أن حصيلة ضحايا الإبادة الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ارتفعت إلى 65,062 شهيدًا و165,697إصابة. أما منذ 18 مارس/ آذار 2025 حتى اليوم فقد سجلت الصحة 12,511 شهيدًا و 53,656 إصابة، في مؤشر واضح على استمرارية وحجم الخسائر البشرية في غزة.

وفيما يخص شهداء لقمة العيش والمساعدات الإنسانية، أفادت الصحة في غزة بوصول 7 شهداء و87 إصابة إلى مستشفيات قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية، ليصل إجمالي ضحايا لقمة العيش منذ بدء العدوان إلى 2,504 شهيدًا وأكثر من 18,381 إصابة.

في حين سجلت مستشفيات قطاع غزة، خلال الساعات الـ24 الماضية، 4 حالات وفاة نتيجة المجاعة وسوء التغذية بينهم طفل، ليرتفع عدد ضحايا التجويع الإسرائيلي الى 432 منهم 146 طفلا، مشيرة إلى أنه منذ إعلان الأمم المتحدة للمجاعة في غزة تم تسجيل 154 حالة وفاة من بينهم 31 طفلا.

تحقيق أممي: الإبادة جريمة مُعلنة

لجنة تحقيق أممية، برئاسة القاضية الدولية نافي بيلاي، أكدت أن ما يجري في غزة ليس حربًا عابرة، بل إبادة جماعية مكتملة الأركان. فتصريحات قادة الكيان الإسرائيلي، وأفعالهم الممنهجة من قتل وتجويع وتهجير، لم تترك مجالًا للشك: الهدف هو اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، ومحو غزة من الوجود. وأنها وثقت أكثر من 60 ألف دليل على الجرائم، في مشهد يختصر حجم المأساة الممتدة منذ السابع من أكتوبر 2023.

لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة خلصت مؤخرًا إلى أن ما يحدث في غزة هو إبادة جماعية، مؤكدة أن قادة الاحتلال، بمن فيهم رئيس الدولة ورئيس الحكومة ووزير الجيش السابق، حرضوا علنًا على القتل والتهجير. اللجنة وثّقت أكثر من 60 ألف دليل على الجرائم، من القتل المنهجي والتدمير الممنهج للبنية التحتية، إلى حرمان المدنيين من المساعدات الأساسية.

ونقلت وكالة “رويترز” عن لجنة التحقيق الأممية الثلاثاء، قولها إن تصريحات سلطات العدو دليل مباشر على نية الإبادة الجماعية.

وقالت اللجنة، إن رئيس الكيان الإسرائيلي "يتسحاق هرتسوغ" و"رئيس حكومته" بنيامين نتنياهو و"وزير الجيش " السابق يوآف غالانت، حرضوا على ارتكاب إبادة جماعية، وإن سلطات العدو لم تتخذ أي إجراء ضدهم لمعاقبتهم على هذا التحريض.

واستشهدت لجنة التحقيق الأممية بأمثلة منها حجم عمليات القتل، وعرقلة المساعدات، والنزوح القسري، وتدمير مركز للخصوبة لدعم النتائج التي خلصت إليها بشأن الإبادة الجماعية، لتضيف صورتها إلى منظمات حقوق الإنسان وغيرها من المنظمات التي توصلت إلى نفس النتيجة.

وقالت لجنة التحقيق الأممية، إن “إسرائيل تسعى إلى تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، ويجب الضغط عليها من أجل وقف الحرب في غزة وإدخال المساعدات وملاحقة المسؤولين عن ارتكاب الإبادة الجماعية”.

وبناء على التقرير قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، قد إنه سيبلغ المحكمة الجنائية الدولية بشأن فداحة الأوضاع بغزة والضفة. وشدد على أن “ما يحدث في غزة مروع ونشهد الآن تدميرا منهجيا للمدينة”، مشددا على أن الحرب في الأراضي الفلسطينية غير مقبولة أخلاقيا وسياسيا وقانونيا. وقال في مؤتمر صحفي إن إسرائيل عازمة على “الذهاب حتى النهاية” في حملتها العسكرية في غزة وليست منفتحة على محادثات سلام جادة.

من جهته، قال الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين يان إيغلاند إن لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة خلصت إلى ارتكاب إبادة جماعية في غزة. وأوضح أن هذه النتائج ليست مجرد استنتاجات، بل تعكس ما يعانيه زملاؤه ويشهدونه يوميا في مدينة غزة. وأضاف أن القانون الدولي واضح، حيث يقول إنه يجب حماية المدنيين ووصول المساعدات إليهم ومن واجب الدول وقف الإبادة الجماعية.

هذه النتائج، كما تقول اللجنة، ليست توصيفًا عابرًا، بل إدانة واضحة على أعلى المستويات، تضع العالم أمام مسؤولية قانونية وأخلاقية لم يعد من الممكن التنصل منها، إلا أن ما يبدو في أرض الواقع أن الكيان الصهيوني استطاع إخضاع الحكومات والشعوب والهيئات الدولية على حد سواء.

نداءات استغاثة تصمّ عنها الآذان

في موازاة ذلك، أطلق قادة أكثر من 20 وكالة إغاثة دولية رئيسية نداءً عاجلًا لقادة العالم، مؤكدين أن القطاع يقف على حافة مرحلة هي “الأشد فتكًا في تاريخه”. وقالت الوكالات إن الموت لم يعد يأتي فقط من صواريخ الاحتلال، بل من عسكرة المساعدات، حيث يُستهدف الجوعى والعطشى أثناء محاولتهم الوصول إلى كسرة خبز أو جرعة ماء. ورغم هذا، فإن العالم ما يزال عاجزًا أو متواطئًا، بينما غزة تنزف بصمت.

وقال القادة إنما يشاهدونه في غزة ليس كارثة إنسانية غير مسبوقة فحسب، بل إن ما خلصت إليه لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة الآن هو إبادة جماعية، وأضافوا أن الوضع اللاإنساني في غزة لا يُطاق وأنهم شهدوا بأم أعينهم الوفيات المروعة ومعاناة أهل غزة. وأكدوا أن القطاع الفلسطيني على شفا مرحلة تعتبر الأشدّ فتكا في تاريخ غزة، إذا لم يتخذ أي إجراء.

وأشاروا إلى أنه ثبت أن عسكرة نظام المساعدات أمر مميت، حيث تم إطلاق النار على الآلاف أثناء محاولتهم الوصول إلى المساعدات، مؤكدين أن على الحكومات أن تتحرك لمنع استنزاف الحياة في وإنهاء العنف والاحتلال.

الأمم المتحدة نفسها حذّرت من أن عسكرة المساعدات، إلى جانب الحصار المفروض منذ 18 عامًا، حول غزة إلى ما يشبه معسكرًا كبيرًا للعقاب الجماعي، يفتقر إلى أدنى مقومات الحياة.

نزوح قسري ومجازر في "المناطق الآمنة"

أكثر من مليون إنسان في غزة يرفضون مغادرة بيوتهم رغم القصف، متشبثين بالأرض كما يتشبث الطفل بحضن أمه. ومع ذلك، يدفعهم العدو قسرًا إلى الجنوب، إلى مناطق مثل "المواصي"، التي روّج لها كملاذ إنساني، بينما هي في الحقيقة مقبرة جماعية؛ تعرضت لآلاف الغارات أسفرت عن آلاف الشهداء. ما تبقى من غزة حُشر في 12% من مساحتها، في معسكرات تركيز حديثة تفتقر لأبسط مقومات الحياة.

المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أكد، الثلاثاء، أن أكثر من مليون فلسطيني ما زالوا متجذرين في مدينة غزة وشمالها، متمسكين بأرضهم وبيوتهم، ورافضين بشكل قاطع النزوح نحو الجنوب، رغم “وحشية القصف وحرب الإبادة الجماعية” التي يرتكبها العدو الإسرائيلي .

عدد سكان مدينة غزة وشمالها يزيد على 1.3 مليون نسمة، بينهم نحو 398 ألفاً من سكان محافظة شمال غزة، نزح معظمهم قسراً إلى غرب المحافظة، إضافة إلى أكثر من 914 ألفاً من سكان محافظة غزة، بينهم نحو 350 ألفاً اضطروا للنزوح من الأحياء الشرقية للمدينة باتجاه وسطها وغربها حسبما أكد المكتب، والذي أضاف أن منطقة المواصي في خان يونس ورفح، التي تضم حالياً نحو 800 ألف نسمة وتروّج لها سلطات العدو زوراً كمناطق “إنسانية وآمنة”، تعرضت لأكثر من 109 غارات جوية وقصف متكرر أسفر عن أكثر من 2,000 شهيد في مجازر متلاحقة، وتفتقر بشكل كامل إلى مقومات الحياة الأساسية، بما في ذلك المستشفيات والماء والغذاء والمأوى والكهرباء والتعليم، ما يجعل الحياة فيها مستحيلة.

المساحة التي خصصها العدو كمناطق “إيواء” لا تتجاوز 12% فقط من مساحة القطاع، ويحاول حشر أكثر من 1.7 مليون إنسان داخلها، في إطار مخطط لإنشاء “معسكرات تركيز” ضمن سياسة التهجير القسري الممنهج، بهدف تفريغ شمال غزة ومدينة غزة من سكانهما.

في ظل هذه الظروف يعلن العدو الصهيوني بدء توغله وعملياته البرية في مدينة غزة تمهيدا لاحتلالها، مشيرا إلى أن 3 فرق عسكرية (98 و162 و36) بدأت عملية برية واسعة، وذلك على وقع غارات وهجمات مكثفة متواصلة وتصاعدت حدتها منذ ساعات ليل الاثنين. فيما أكد "رئيس حكومة" الكيان الصهيوني المجرم بنيامين نتنياهو

ووفق بيان العدو الصهيوني؛ فإن قوات "القيادة الجنوبية" لجيش العدو "النظامية" وفي "الاحتياط " من الفرق العسكرية 98 و162 و36 “بدأت في اليوم الأخير عملية عسكرية برية واسعة في أنحاء مدينة غزة في إطار عملية ’عربات جدعون 2’”.

وحسب بيان العدو ، فإن قوات "فرقة غزة" ، "الفرقة 143"، “تعمل في حيز الحماية مقابل بلدات النقب الغربي وتنفذ عمليات عسكرية هجومية باتجاه منطقة رفح وخانيونس، وقوات "الفرقة العسكرية 99 " تعمل في منطقة شمال القطاع”.

عزلة في صمت قاتل

في مشهد يلخص القسوة، انقطع الإنترنت والاتصالات الأرضية في غزة بفعل العدوان الصهيوني. خطوة وصفتها منظمات حقوقية بأنها “إبادة في صمت”، تهدف لعزل السكان عن العالم ومنع توثيق الجرائم أو طلب الإغاثة. هذا الانقطاع، إلى جانب نقص الوقود، يهدد بإيقاف عمل المستشفيات وسيارات الإسعاف، ليصبح الموت نتيجة حتمية ليس فقط بفعل القصف المباشر، بل أيضًا عبر حرمان الجرحى والمرضى من حقهم في البقاء على قيد الحياة.

اليوم لم يعد صوت أهل غزة يصل إلى العالم، وكأنما أراد العدو الصهيوني أن يُبيدهم في صمت مطبق، بلا شهود. قُطعت شرايين الحياة والتوثيق، فعُزلت المستشفيات عن المرضى، وعُزل الأطفال تحت الركام عن صرخاتهم الأخيرة. حتى طلب النجدة بات مستحيلًا، وصار الانقطاع أداة قتل إضافية، موازية للقصف المباشر.

حصار الغذاء والدواء

منذ شهور طويلة تمنع سلطات العدو الصهيوني إدخال الغذاء والدواء، وتحاصر المساعدات خلف المعابر. مستشفيات غزة على وشك الانهيار التام، إذ مُنع إدخال الوقود اللازم لتشغيل المولدات، وتوقفت محطات الأكسجين وسيارات الإسعاف. حتى مستشفى الرنتيسي للأطفال لم يسلم، فتعرض لقصف مباشر، تاركًا عشرات المرضى والأطفال دون علاج أو مأوى آمن، فقد أقدم العدو على استهداف المستشفى في ساعة متأخرة من مساء الثلاثاء، وعلى إثر هذا العدوان غادرت 40 حالة المستشفى بحثا عن أماكن آمنة والنجاة بأطفالهم نتيجة القصف، فيما تبقى 40 مريضا مع مرافقيهم، و12 حالة عناية مركزة، و30 من طاقم المستشفى.

وزارة الصحة الفلسطينية أفادت، اليوم الأربعاء، بأن العدو الإسرائيلي يفشل وبشكل متعمد محاولات منظمة الصحة العالمية لإدخال الوقود إلى مستشفيات محافظة غزة. وأضافت الوزارة في بيان صحفي، أن سلطات العدو تمنع توريد كميات الوقود اللازم لتشغيل المولدات الكهربائية في مستشفيات غزة يعني توقف الخدمة الصحية بشكل كامل.

وأشارت إلى أن الأزمة تُهدد توقف عمل مجمع الصحابة الطبي ومستشفى الخدمة العامة ومحطة الأكسجين المركزية وسيارات الإسعاف ومستشفيات أخرى ستتوقف خلال أيام فقط. وأكدت أن توقف محطة الأكسجين المركزية وسيارات الإسعاف في محافظة غزة يعني أننا أمام كارثة صحية وإنسانية خطيرة، وأضافت أن العدو يصر على منع منظمة الصحة العالمية من استخدام طرق بديلة لإيصال الوقود لمستشفيات غزة والشمال.

جيل محطم نفسيًا

الجانب الأكثر مأساوية يبقى الأطفال: نصف مليون طفل في غزة، بحسب تقديرات اليونيسف، يعانون من صدمات نفسية حادة. هؤلاء الأطفال الذين نشأوا بين الركام وفقدوا ذويهم، يُطلب منهم اليوم أن يختاروا بين البقاء تحت القصف أو الفرار إلى مخيمات نزوح تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.

المتحدثة باسم اليونيسف، تيس إنغرام، أكدت في اتصال عبر الفيديو من مخيم المواصي، أن “من غير الإنساني أن نتوقع من نصف مليون طفل، تعرضوا لعنف وصدمات نفسية على مدار أكثر من 700 يوم من الصراع المستمر، أن يفروا من جحيم لينتهي بهم المطاف في جحيم آخر”.

وأضافت إنغرام: “ليس أمام الناس خيار جيد، إما البقاء في خطر دائم، أو الفرار إلى مكان يعرفون أنه خطير أيضًا”. وأشارت إلى سقوط بعض الأطفال ضحايا خلال محاولتهم جلب المياه في مخيم المواصي، مؤكدة رؤيتها لأعداد كبيرة من السكان يفرون على الطريق الرئيسي خارج مدينة غزة هذا الأسبوع.

كما التقت إنغرام بأم تُدعى إسراء، كانت تسير مع خمسة أطفال جائعين وعطاشى، بينهم طفلان حافيان، قائلة إنهم “يسيرون نحو المجهول، دون وجهة أو خطة واضحة، مع أمل ضئيل في إيجاد ملاذ آمن”.

هؤلاء الأطفال الذين شهدوا الموت والدمار بأعينهم، لم يعودوا يعرفون معنى الأمان. يسيرون حفاة جياعًا نحو المجهول، بلا وجهة ولا أمل. كيف يُطلب من طفل لم يتجاوز السابعة أن ينجو من ذاكرة ركامٍ دفن عائلته؟ وكيف يُتوقع من أمة نصفها أطفال أن تنهض من تحت هذا الركام؟

شهادات من قلب الجحيم

أطباء ومتطوعون أجانب رووا ما تعجز الكلمات عن وصفه: أطفال مبتورة أطرافهم، عائلات قُصفت في "المناطق الإنسانية"، جثث تتكدس في المشرحة كما لو كانت منتجات في مصنع للموت. طبيبة فقدت تسعة من أبنائها وزوجها، وعادت بعد ثلاثة أيام لتواصل علاج المرضى. كيف يمكن للإنسان أن يصف مثل هذا الثبات وسط هذا الجحيم؟

صحيفة “إلباييس” الإسبانية نشرت مقالًا للطبيب الإسباني راؤول إنثيرتيس خارّيو، الذي عمل متطوعًا في قسم الطوارئ والتخدير في مستشفيين بغزة بين أبريل/نيسان ويوليو/تموز هذا العام، مستعرضًا شهادته على ما شاهده من مأساة الأطفال والضحايا المدنيين.

وأكد أنه بعد ثلاثة أسابيع فقط من وصوله فقد القدرة على عدّ الأطفال المبتورين والمشوّهين والممزّقين والمحترقين الذين اضطر الفريق الطبي لمعالجتهم، فضلاً عن الذين فارقوا الحياة بينهم. وأضاف: “ثمة غيمة سوداء في رأسي، تتكوّن من صور فظيعة تمنعني من النسيان، فكثيرون كانوا يموتون أمام أعيننا رغم محاولاتنا اليائسة لإنقاذهم، بمن فيهم من لفظ أنفاسه أثناء تقديم الرعاية”.

وتابع: “فقدت القدرة على عدّ عربات النقل أو العربات التي تجرّها الحمير المليئة بالجثث في طريقها إلى المشرحة، التي لم تتوقّف المستشفيات عن استقبالها، كانت تدخل وتخرج كما لو أنّها مصنع يدخل ويخرج منه العمّال، لكنّهم موتى، ظلّت وجوه معظمهم مشدودة برعب، تعكس آخر إحساس لهم قبل أن يُقتلوا”.

ويروي الطبيب الإسباني قصف فتاة في السادسة من عمرها لا تزال صورتها عالقة في ذاكرته، قائلا: “أمسكت بذراعها المبتورة والمحترقة لأزيحها جانبًا لأنها كانت تعيقنا بينما نحاول أن نمنحها فرصة للبقاء، وكانت ترتدي قميصًا داخليًا مطبوعًا عليه خراف صغيرة اضطررنا إلى قصّه لفحصها، ولكنها ماتت فيما بعد ولم أحتفظ باسمها”.

صمت العالم

كل هذه الفظائع تحدث أمام أعين العالم، لكن الصمت هو الرد الغالب. ملايين الأرواح محاصرة بين الركام والبحر، فيما تُغلق الأبواب أمام المساعدات، وتُقابل النداءات الإنسانية ببيانات باردة لا توقف نزيف الدم ولا صرخات الأمهات. غزة امتحان أخلاقي للعالم كله، امتحان فشلت الإنسانية فيه حتى الآن. لكن ما ينبغي أن يعيه المجتمع الدولي أن آثار الجريمة في غزة لن تقف عن حدود القطاع، فنحن أمام عدو منفلت وبلا  قيم ويشكل خطورة على البشرية كلها، والسكوت عليه سيرتد على الجميع بالإجرام والوحشية.