موقع أنصار الله . تقرير | أنس القاضي 

 

أنماط ثابتة وأدوات متغيّرة في السلوك التدخلي الأمريكي
مدخل:

تناولت الحلقة السابقة نماذج تاريخية متعدّدة للتدخلات الأمريكية في أمريكا اللاتينية، من كوبا وغواتيمالا إلى تشيلي ونيكاراغوا وبوليفيا، بوصفها حالات كاشفة لتطوّر أدوات التدخل عبر الزمن مع ثبات أهدافه الاستراتيجية، المتمثّلة في الإخضاع الأمني، ونهب الموارد، والتحكّم بالأسواق والمواقع الجيوسياسية. وفي هذه الحلقة الختامية، تُقدّم الورقة قراءة تحليلية عامة لهذا السلوك العدواني، تُبيّن كيف تتغيّر الأساليب والذرائع بتغيّر السياقات التاريخية، فيما تبقى النزعة الإمبريالية والمصالح الاستعمارية أساساً ثابتًا يواجه مقاومة متواصلة من شعوب أمريكا اللاتينية، ومن شعوب العالم عموماً، بما فيها شعوب العالم العربي والإسلامي، وفي مقدّمتها المقاومة الفلسطينية واللبنانية.

بقاء الهدف الاستراتيجي وتحوّل الذرائع

 يكشف السلوك الأمريكي تجاه أمريكا اللاتينية عن ثباتٍ واضح في الهدف الاستراتيجي، مقابل تحوّل مستمر في الذرائع والخطابات المبرِّرة للتدخل، فمنذ تبلور "مبدأ مونرو" في القرن التاسع عشر، ثم صياغته العدوانية في مطلع القرن العشرين، ظلّ الهدف الأساسي يتمثل في منع تشكّل دول قادرة على إدارة مواردها وسياساتها خارج الإطار الذي تفرضه الولايات المتحدة، غير أن هذا الهدف جرى تمريره تاريخياً عبر أطر خطابية متبدلة، تتكيّف مع السياق الدولي والبيئة الإعلامية السائدة.

خلال الحرب الباردة، تمثلت الذريعة الأساسية في "مكافحة الشيوعية"، كما ظهر في الانقلاب على حكومة خابيير أربينز في غواتيمالا عام 1954م، أو في إسقاط حكومة سلفادور أليندي في تشيلي عام 1973م، ومع نهاية تلك المرحلة، لم تختفِ النزعة التدخلية، بل أعادت إنتاج نفسها تحت عناوين جديدة، مثل "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" و"مكافحة الفساد". وفي المرحلة الأحدث، برزت ذرائع ذات طابع أمني–تقني، من بينها "محاربة التهريب والجريمة المنظمة"، بوصفها غطاءً ملائماً لتكثيف الحضور العسكري والأمني دون إعلان تدخل مباشر.

تُعد فنزويلا في عهد الرئيس نيكولاس مادورو مثالاً معاصراً كاشفاً لهذا التحول الخطابي. فمنذ تصاعد المواجهة بين واشنطن وكاراكاس بعد وفاة هوغو تشافيز (2013م)، وتحديداً مع تشديد العقوبات الأمريكية اعتباراً من 2015م ثم 2017م، لم تتوقف الضغوط عند المستوى الاقتصادي والسياسي، بل اتخذت بعداً أمنياً متزايداً؛ ففي السنوات الأخيرة، ولا سيما خلال 2023–2025م، كثّفت الولايات المتحدة وجودها البحري والجوي في البحر الكاريبي ومحيطه، مبرِّرة ذلك بـ"الحاجة إلى مكافحة تهريب المخدرات والوقود والسلاح، ومواجهة شبكات الجريمة العابرة للحدود".

غير أن قراءة هذا التطور في سياقه الأوسع تُظهر أن هذه الذريعة الأمنية لا تنفصل عن الهدف الاستراتيجي الثابت. فعمليات المراقبة البحرية، وتوسيع نطاق عمل القيادة الجنوبية الأمريكية  (SOUTHCOM)، وتكرار التصريحات الرسمية التي تربط فنزويلا بتهديدات أمنية إقليمية، تؤدي عملياً إلى تطويق الدولة الفنزويلية، وتقييد قدرتها على المناورة الاقتصادية والتجارية، ولا سيما في ما يتعلق بتصدير النفط وتطوير شراكات بديلة مع قوى مثل الصين وروسيا وإيران.

بهذا المعنى، لا تُقرأ "محاربة التهريب" بوصفها غاية بحد ذاتها، بل إطاراً خطابياً يسمح بإعادة عسكرة الجوار الفنزويلي، وإضفاء "شرعية أمنية" على إجراءات ضغط تتجاوز بكثير مسألة الجريمة المنظمة، ويتكرر هنا نمط تاريخي معروف في السلوك التدخلي الأمريكي: تغيير اللغة دون تغيير الوظيفة، حيث يُعاد تعريف التهديد بما ينسجم مع مقتضيات المرحلة، بينما يبقى جوهر الصراع مرتبطاً بالسيادة، والموارد، وموقع الدولة داخل النظام الدولي.

تُظهر الحالة الفنزويلية المعاصرة -إذاً- أن التحول من ذرائع أيديولوجية كبرى إلى ذرائع تقنية–أمنية لا يمثّل تخفيفاً للنزعة التدخلية، بل تعبيراً عن قدرتها على التكيّف، وهو ما يؤكد أن ثبات الهدف الاستراتيجي (ضبط المجال اللاتيني ومنع تحوّله إلى فضاء سيادي مستقل) لا يزال يحكم السياسة الأمريكية، حتى وإن تغيّرت المفردات والأدوات المستخدمة لتبريره.

من الانقلابات العسكرية إلى الحروب الاقتصادية

شهدت أدوات التدخل تحولاً نوعياً مع مرور الوقت؛ ففي المرحلة الكلاسيكية، كان الانقلاب العسكري المدعوم أمريكياً هو الأداة المفضّلة، كما في تشيلي مع انقلاب الجنرال أوغستو بينوشيه في 11 سبتمبر 1973م بدعم مباشر من إدارة ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر، أو في غواتيمالا عام 1954م عبر عملية لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أطاحت بالرئيس المنتخب.

لكن مع ارتفاع كلفة الانقلابات المباشرة، سياسياً وإعلامياً، خاصة بعد سبعينيات القرن العشرين، بدأت الولايات المتحدة بالانتقال إلى أدوات أكثر تعقيداً وأقل صدامية ظاهرياً، ففي نيكاراغوا -خلال الثمانينيات- فضّلت إدارة رونالد ريغان دعم ميليشيات "الكونترا" المسلحة بدلاً من التدخل العسكري المباشر، ما أدّى إلى استنزاف طويل الأمد للدولة الساندينية بقيادة دانييل أورتيغا.

أما في المرحلة المعاصرة، فقد أصبحت العقوبات الاقتصادية أداة مركزية، كما في حالة فنزويلا منذ فرض العقوبات الأولى عام 2015م في عهد باراك أوباما، ثم تشديدها بصورة غير مسبوقة خلال إدارة دونالد ترامب الأولى والثانية ويعكس هذا التحول انتقال التدخل من إسقاط الأنظمة بالقوة إلى تفكيك قدرتها على الحكم من الداخل عبر إضعاف الاقتصاد وإرباك المجال الاجتماعي.

الاقتصاد بوصفه المجال الحاسم للصراع

تكشف التجارب التاريخية أن الاقتصاد كان دائماً الساحة الأكثر حساسية في الصدام بين الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية. فحين أقدمت حكومات مثل حكومة أليندي في تشيلي أو موراليس في بوليفيا على تأميم الموارد الطبيعية (النحاس في تشيلي، والغاز والليثيوم في بوليفيا) تحوّل ذلك مباشرة إلى عامل تصعيد في العلاقة مع واشنطن.

في هذا السياق، لم يكن التدخل الأمريكي ردّ فعل على "سوء إدارة" أو "فساد" كما يدَّعي، بل على إعادة تعريف علاقة الدولة بالثروة والملكية. وتؤكد تصريحات هنري كيسنجر عام 1970م —حين قال إنه لا يمكن السماح لدولة بأن تصبح اشتراكية بسبب "عدم نضج شعبها"— هذا المنطق بوضوح، حيث تُقدَّم السيادة الاقتصادية كخطر سياسي يستوجب التدخل.

وفي المرحلة الراهنة، باتت العقوبات المالية، والتحكم بالوصول إلى النظام المصرفي العالمي، ومنع التعامل بالدولار، أدوات مركزية لإخضاع الدول التي تحاول الخروج من هذه المعادلة، كما هو الحال في فنزويلا وكوبا حتى اليوم.

إعادة تشكيل النخب المحلية كمدخل للهيمنة المستدامة

لم يكن هدف التدخل الأمريكي -في أغلب الحالات- هو الحكم المباشر أو الاحتلال طويل الأمد، بل إعادة تشكيل النخب الحاكمة داخل الدول المستهدفة؛ ففي تشيلي، لم يقتصر الانقلاب على إسقاط أليندي، بل أسّس لنظام سياسي–اقتصادي جديد قاده بينوشيه، وفتح المجال أمام سياسات نيوليبرالية أشرف عليها اقتصاديون تلقوا تعليمهم في الولايات المتحدة، عُرفوا لاحقاً بـ"صبيان شيكاغو".

وينطبق الأمر ذاته على غواتيمالا بعد انقلاب 1954م، حيث أُعيدت السلطة إلى نخب موالية للمصالح الأمريكية، وأُلغي أي مسار إصلاحي اجتماعي. وفي بوليفيا -بعد إقصاء موراليس عام 2019م- تشكّلت حكومة انتقالية أعادت فتح البلاد أمام الشركات الأجنبية، قبل أن تعود الحركة ذاتها إلى الحكم انتخابياً، في مشهد يعكس الصراع المستمر على طبيعة الدولة ودورها.

تكشف هذه الحالات أن التدخل لا يستهدف فقط تغيير الحكومات، بل ضبط البنية الطبقية والسياسية التي تدير الدولة، بما يضمن استدامة التبعية حتى في حال تغيّر الأنظمة.

تسييس "الأمن القومي" وتحويل السيادة إلى تهديد

في المرحلة الأحدث، ولا سيما مع صدور استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025م، أعادت الولايات المتحدة إدراج أمريكا اللاتينية ضمن خطاب "الأمن القومي" الصريح. ولم يعد التهديد مقتصراً على الحركات الثورية أو اليسارية، بل شمل أيضاً الشراكات الاقتصادية مع الصين، أو التعاون العسكري والتقني مع روسيا، كما ظهر في الخطاب الأمريكي تجاه فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا.

بهذا المعنى، تحوّلت السيادة ذاتها (حق الدولة في اختيار شركائها الاقتصاديين والسياسيين) إلى فعل يُقرأ أمنياً ويُواجَه بإجراءات عدوانية. ويشكّل هذا التطور حلقة وصل مباشرة بين التاريخ الإمبريالي القديم والصيغة المعاصرة للتدخل، حيث تُدار الهيمنة اليوم عبر مزيج من الأمن، والاقتصاد، والعسكرة غير المباشرة.

الخلاصة

يقوم السلوك التدخلي الأمريكي في أمريكا اللاتينية على أنماط ثابتة في الهدف والوظيفة، مقابل أدوات متغيّرة تتكيّف مع السياق الدولي. فمن الانقلابات العسكرية المباشرة، إلى الحروب بالوكالة، وصولاً إلى العقوبات الاقتصادية وتسييس الأمن القومي، ظلّ جوهر التدخل واحداً: منع تشكّل دول قادرة على ممارسة سيادة فعلية في القرار الاقتصادي والسياسي، أو في إنتاج نماذج تنموية تتجاوز حدود التبعية داخل النظام الرأسمالي العالمي.

بهذا، لا تُفهم التدخلات المعاصرة في فنزويلا أو غيرها بوصفها استثناءات، بل امتداداً منطقياً لمسار تاريخي طويل، يعيد إنتاج نفسه بأدوات جديدة، ويؤكد أن النزعة الإمبريالية ليست مرحلة منقضية، بل بنية متحوّلة في السياسة الدولية الأمريكية.

الختام:

في الختام، تُظهر تجربة شعوب أمريكا اللاتينية، كما تجارب شعوب آسيا وإفريقيا والعالم الإسلامي، أن الصراع من أجل الاستقلال والسيادة لم يكن حدثاً عابراً في التاريخ، بل مساراً طويلاً ومفتوحاً، يتجدد مع تغيّر أشكال الهيمنة وأدواتها، فعلى الرغم من الكلفة الباهظة التي دفعتها هذه الشعوب نتيجة التدخلات والانقلابات والحصار والعقوبات، ظلّ السعي إلى القرار الوطني المستقل وإعادة السيطرة على الموارد والخيارات التنموية عنصراً ثابتاً في نضالها السياسي والاجتماعي.

ولا يمكن قراءة هذا النضال بوصفه مواجهة محلية مع قوى خارجية فحسب، بل جزءاً من صراع أوسع ضد بنية دولية غير متكافئة قامت لعقود على احتكار القوة والقرار من قبل مركز واحد.

في هذا السياق، يكتسب التحول الجاري في النظام الدولي دلالته الأعمق، فالتآكل المتدرّج لنظام الأحادية القطبية، وصعود قوى دولية وإقليمية منافسة، وتوسّع هوامش المناورة أمام الدول الطرفية، كلها مؤشرات على انتقال بطيء لكنه تراكمي نحو نظام دولي أكثر تعددية. صحيح أن هذا التحول لا يعني نهاية الهيمنة أو اختفاء التدخلات، إلا أنه يفتح مجالاً أوسع أمام الشعوب والدول لإعادة التفاوض على مواقعها، وبناء تحالفات بديلة، وكسر احتكار القرار الاقتصادي والسياسي العالمي.

وعليه، فإن نضال شعوب أمريكا اللاتينية من أجل السيادة لا ينفصل عن نضال شعوب العالم من أجل نظام دولي أكثر عدالة وتوازناً، فمع كل محاولة لكسر التبعية أو إعادة تعريف العلاقة مع المركز، تتراجع قدرة الأحادية القطبية على فرض إرادتها دون مقاومة.

 ومن هنا، يمكن فهم التحولات الجارية لا بوصفها لحظة انتصار نهائي، بل كمرحلة انتقالية تاريخية، يتقاطع فيها النضال الوطني مع التحول البنيوي في النظام الدولي، في اتجاه عالم متعدد الأقطاب، تتسع فيه إمكانيات الاستقلال، حتى وإن ظل الصراع مفتوحاً على احتمالات متعددة.