موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الشامي

من صنعاء الى أوروبا فسادُ عفّاش عابرٌ للقارات، في قلب العاصمة الفرنسية باريس، وتحديداً في أحيائها الأكثر فخامة وثراءً، تتكشف اليوم فصولٌ جديدة من تفاصيل استباحة المال العام اليمني التي امتدت لعقود ثلاثة تحت حكم الرئيس الهالك علي عبد الله صالح، القضية لم تعد مجرد اتهامات سياسية تتردد في صنعاء، بقدر ما تحولت إلى ملف قضائي ثقيل على طاولات محكمة الجنايات في باريس، التي ضربت موعداً في سبتمبر 2026 لمحاكمة نجليه، أحمد وخالد بتُهم غسيل الأموال والفساد المنظم، استناداً إلى تحقيقات مفصلة نشرت خفاياها صحيفة "لو باريزيان" الفرنسية.
التقرير الفرنسي -الذي جاء كوثيقة إدانة صارخة- أماط اللثام عن الوجه الآخر لـ "منظومة عفاش"؛ تلك المنظومة التي لم تكتفِ بإدارة الحكم، بل أدارت آلة ضخمة لتحويل مقدرات الشعب اليمني إلى أصول عقارية في "المثلث الذهبي" الباريسي. وبحسب الصحيفة، يواجه الشقيقان تهماً بشراء شقق وقصور فاخرة بقيمة إجمالية ناهزت الـ 16 مليون يورو، وهي أموالٌ صبغت جدران عقارات شارع "غاليلي" و"تيلسيت" و"إيينا" بدماء ومعاناة اليمنيين.

وبهذا التحول الكبير الذي يكشف فقط عن جزءٍ يسير من فساد الأسرة الحاكمة لعقود ثلاثة، تستعد العائلة الحاكمة السابقة لليمن لمواجهة أحد أشد فصول محاسبتها قسوة خارج حدود الوطن. في سبتمبر 2026، سيقف نجلا عفّاش أمام القضاء الفرنسي في قضية تبييض أموال وفساد ظلت مخبّأة في أحد أفخم أحياء العاصمة الفرنسية باريس لأكثر من عقد.
تنقل صحيفة "لو باريزيان" الفرنسية -في تحقيقاتها المتعمقة- كيف تحوّلت أموال عامة يمنية إلى قصور وشقق فاخرة في أرقى أحياء باريس، في قضية تُعدّ الأبرز من نوعها التي تطال عائلة حاكمة عربية سابقة في المحاكم الأوروبية، وما يزيد من خطورتها أنها تكشف عن شبكة مالية عالمية معقدة كانت تمكِّن نظاماً استبدادياً من نهب ثروة بلاده على مدى عقود.

جمهورية عفّاش كمؤسسة فساد

قبل أن نتعمق في تفاصيل القضية الفرنسية، يجب فهمُ السياق الذي جاءت فيه، فقد كشف فريق خبراء الأمم المتحدة المعني باليمن -في تقارير متتالية- أن علي عبدالله صالح (الذي حكم اليمن من 1978 إلى 2012) أسس "نظاماً للفساد المستشري" وصفه التقرير الدولي بأنه "آلة استخراج موحّدة".

بحسب الخبراء الدوليين، جمع صالح ما يقارب 60 مليار دولار خلال سنوات حكمه، من خلال الحصول على حصة من كل عقد بيع للغاز والنفط والأسلحة، ولم تكن هذه المليارات مجرد أرقام في التقارير، بل جسدت نظاماً مالياً معقداً أُنشئ لغرض وحيد: نهب موارد الدولة وإخفائها في شركات واجهة وعقارات عالمية، وفق ما يذهب اليه التقرير الأممي.
في هذا السياق، تأتي القضية الفرنسية كحلقة من حلقات متعددة من التحقيقات الدولية، ففي نوفمبر 2014، بدأ مكتب المدعي العام المالي الوطني الفرنسي تحقيقاً أوليّاً بناءً على إحالة من سويسرا رصدت تحركات مالية مشبوهة بين جنيف وباريس، وقد فتح هذا الباب أمام محققي المكتب المركزي لمكافحة الفساد والجرائم المالية والضريبية (OCLCIFF) للتنقيب في خبايا ثروة العائلة في فرنسا.

كشفت "لو باريزيان" بالتفصيل مسار عمليات الشراء التي تمت بين عامي 2005 و2011، في فترة كانت اليمن تعاني من فقر مدقع وتراجع في الخدمات الأساسية، وقد تم تسجيل جميع العقارات باسم أحمد علي عبدالله صالح (الابن الأكبر، المولود سنة 1972) وخالد علي عبدالله صالح (الابن الثاني).

العقارات الثلاثة الرئيسة:
1. مجموعة شقق شارع غاليلي (الدائرة 8): في قلب الدائرة الذهبية لباريس، اشترى الأخوان عدة شقق في مبنى فخم مقابل 7 ملايين يورو عام 2005، هذه المنطقة -التي تُعدّ من أغلى أحياء باريس- تقع على مقربة من جادة الشانزيليزيه (قوس النصر).
2. شقة شارع تيلسيت (الدائرة 8): على بُعد خطوات من قوس النصر مباشرة، تم شراء شقة فاخرة مقابل 6.5 مليون يورو عام 2010، الموقع الاستراتيجي يعكس حجم الترفيه الذي كان يتمتع به الابنان بصلاحيات مطلقة من أبيهما الذي وجه المليارات إلى الخارج، وأوكلت مهمة إدارتها واستلامها  إلى أبنائه وأقاربه في الخارج.
3. الاستثمار في قصرين شارع إيينا (الدائرة 16): في عام 2011 -وهو العام الذي اضطر فيه والدهما للتنحي بعد ثورة شعبية- أنفق الأخوان 2.5 مليون يورو في شراء قصرين خاصين في أحد أرقى أحياء باريس.

 تتبع مسار الأموال من صنعاء إلى حسابات باريس

نجح المحققون الفرنسيون في رسم خريطة دقيقة لحركة الأموال، وكانت النتائج صادمة: بين عامي 2009 و2011 فقط، أي في ذروة الاحتجاجات الشعبية ضد والدهما، مرّ 30.66 مليون دولار (26.1 مليون يورو) عبر عدة حسابات بنكية مملوكة لأحمد علي صالح في باريس.

كانت الأموال تأتي من اليمن عبر تحويلات مباشرة، غالباً ما كانت تُسجّل كـ"هدايا من رؤساء دول أجنبية" كما زعم الدفاع لاحقاً، لكن المحققين رصدوا أن هذه التحويلات تزامنت مع قرارات سياسية واقتصادية كبرى في اليمن، ما يعزز فرضية أنها عمولات واختلاسات من أموال عامة.

فساد عفّاش في الصحافة الفرنسية

لم تكن "لو باريزيان" الوحيدة التي تناولت الموضوع، فقد نشرت الصحيفة الفرنسية "لوموند" في أكتوبر 2014 تقريراً عن إحالة سويسرية لفرنسا تتعلق بـ"شبكة مالية مشبوهة تشمل شخصيات يمنية بارزة"، وكان هذا التقرير يمهّد الطريق للتحقيق الفرنسي الرسمي.
كما كشفت مجلة "فالور إكتويل" الاقتصادية الفرنسية في 2017 كيف أن "اليمن، الدولة الفقيرة بالموارد، كانت تغذي عقارات باريس الفاخرة"، مشيرةً إلى أن فرنسا أصبحت وجهة مفضلة لأموال الفساد العربي بسبب "السرية المصرفية النسبية والثغرات القانونية".
وفي 2019، بثّ برنامج "كاش إنفستيغيشن" التحقيقي الشهير على قناة "فرانس 5" حلقة خاصة بعنوان "باريس، ملاذ أموال الديكتاتوريات العربية". تناول البرنامج قضية عائلة صالح كحالة دراسية، وعرض لقطات لعقاراتها في باريس مع مقابلات مع صحفيين يمنيين ونشطاء ضد الفساد.
أبرز ما في الحلقة كان توثيقاً لشهادة صحيفة P.O.L.I.T.I.Q.U.E الفرنسية المستقلة التي نَشرت في 2016 قائمة بأغنى 10 عائلات حاكمة عربية، وضعت عائلة صالح في المرتبة الرابعة بثروة تقدر بـ"32 مليار دولار، نصفها على الأقل في عقارات أوروبية".

 تحقيقات فرانس برس: التأكيد الرسمي
نقلت وكالة "فرانس برس" في يناير 2025 (تأكيداً لما نشرته لو باريزيان) تصريحات النيابة الوطنية المالية الفرنسية، مؤكدةً أن "التحقيق يستند إلى أدلة دامغة تربط بين قرارات والدهما السياسية وتحويلات الأموال المصاحبة". وكان هذا أول إقرار رسمي فرنسي بأن القضية تتجاوز مجرد شكوك إلى أدلة قابلة للمحاكمة.

خالد يدير الثروة بالنيابة عن أحمد 
منذ 2015، جُمّدت أصول أحمد علي صالح ووالده بقرار من مجلس الأمن الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية، لكن خالد صالح -الذي تولى "إدارة ثروة العائلة" بعد العقوبات- استمر في التحكم بالأصول عبر شركات واجهة، حسبما كشف التحقيق الفرنسي.

لعب تقرير فريق خبراء الأمم المتحدة دوراً محورياً في بناء القضية الفرنسية، فقد قدّم الخبراء الدوليون وثائق تظهر كيف أن "نظام عفاش كان يستخرج 10% من كل عقد نفطي، و15% من كل صفقة أسلحة"، وقد استخدم المدعون الفرنسيون هذه الوثائق لإثبات "المنشأ غير المشروع للثروة".

من الفقر المدقع إلى النهب المنظم

خلال فترة حكم صالح (1978-2012)، كان اليمن يتصدر قائمة الدول الأكثر فقراً، مع 42% من السكان تحت خط الفقر، بينما كانت عائلة الرئيس تشتري قصوراً في باريس، كانت الحكومة اليمنية تعتمد على المساعدات الدولية لتغطية 40% من ميزانيتها.

كشف تحقيق "لو باريزيان" أن المبلغ المستثمر في العقارات الفرنسية (16 مليون يورو) يعادل ميزانية وزارة الصحة اليمنية لمدة 8 أشهر في 2010، أو كفاية لبناء 32 مدرسة في المناطق الريفية اليمنية.

تكتب الصحيفة الفرنسية في ختام تحقيقها: "عندما ينهار جسر في اليمن لعدم الصيانة، ويُعالج مريض في مستشفى بدون كهرباء، تبقى شقة على شارع إيينا في باريس شاهداً على جريمة استمرت عقوداً". والسؤال الذي يطرحه التحقيق: هل ستكون باريس بداية نهاية الإفلات من العقاب لأسر الحكم الفاسدة؟
الإجابة قد تأتي في سبتمبر 2026، لكن ما هو مؤكد أن فساد عفاش وأسرته تجاوز الحدود المحلية ليُصبح ظاهرة فساد عالمية عابرة للحدود، وحتى للتوقعات، بأرقامها الفلكية الصادمة والتي جعلت عفاش يتربع على عرش إمبراطورية الفساد الأكبر في تاريخ الزعماء اللصوص.