في زمنٍ صار فيه العمر يُقاس بالدقائق، لا بالأعوام فقط، تُثبت الأمم المتقدمة أنها تدرك جوهر الوقت أكثر من إدراكها لأي موردٍ آخر، إنها تقيس تقدمها بمدى قدرتها على تحويل الزمن إلى قيمة مضافة ومكاسب ملموسة، وفي المقابل، نجد أن الأمة الإسلامية – رغم ميراثها الحضاري ودعوتها المتكررة إلى اغتنام العمر، تعيش أزمةً صامتة في إدارة الوقت، أزمةً تتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية والفكرية والمؤسسية، فتقيد قدرتها على اللحاق بركب الأمم.
لدى الأمم المتقدمة، لا يُنظر إلى الزمن بوصفه ساعاتٍ تُستهلك فحسب، بل كعنصرٍ منتج لا بد من استثماره بعناية، ففي اليابان مثلًا، بات مفهوم «إدارة الوقت» ثقافة متأصلة تبدأ من التربية المنزلية وصولًا إلى التعليم وسوق العمل، هناك، يعتبر التأخير جريمة أخلاقية، والإخلال بالمواعيد إخلالًا بقيمة الفرد ذاته، وكذلك في باقي الأمم المتقدمه والمتطورة، ان السر في كل هذه النماذج أن الوقت لديهم رأس مالٍ حيّ، كل ثانيةٍ فيه تُحاسب وتُستثمر، إنه وعي جمعي لقيمة الوقت وهذا أهم أسرار البقاء في قلب التقدم العالمي، حيث يقترن الوقت بجوهر الإنتاجية، فتتشكل دورةٌ تضمن ديمومة الإنجاز وكفاءة الأداء، فتنعكس على الاقتصاد والسياسة والحضور العالمي.
أمّا حين نُلقي نظرةً فاحصة لإدارة الوقت على الأمة الإسلامية، نجد واقعًا مختلفًا؛ فمن تأخر المواعيد إلى طول الاجتماعات غير المجدية، ومن ثقافة التسويف إلى سوء التخطيط، يتجلى ضعفٌ بنيوي في إدراك قيمة الوقت، إنه أمر يتجاوز الفرد إلى الأسرة والمدرسة والمؤسسة والدولة، هذه الحلقة من الفوضى تُفرّخ مزيدًا من التراجع أمام سباق الأمم الذي لا ينتظر أحدًا.
والمفارقة المؤلمة أن الإسلام ذاته جاء بأبلغ الرسائل التي تعلي من قيمة الزمن حيث قال الله تعالى (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، و(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ)، إنها دعوة صريحة إلى صناعة الوعي الزمني للأمة.
كان الشهيد القائد يرى أن إدارة الوقت تبدأ من الإنسان البسيط الذي يدرك مسؤوليته اليومية، ولا يؤجل مهامه ولا يتثاقل أمام الاستحقاقات، حيق قال "كل لحظة تمر من عمر الأمة هي فرصة عمل ومسؤولية جهاد".
إن تفاوت الوعي بين الأمة الإسلامية والأمم الأخرى لا يقتصر على إدارة الوقت واستثمار الفرص فحسب، بل يكشف عن خللٍ أعمق في فهم معركة الوجود والبقاء، ففي الوقت الذي تدرك فيه الشعوب الأخرى أن كل دقيقةٍ تُهدر هي فرصةٌ تفلت، وأن الإنجاز هو السلاح الحقيقي لضمان السيادة والاستقلال، لا تزال أجزاء واسعة من الأمة الإسلامية غارقةً في دوامة الاستهلاك والانتظار، فاقدةً لأبسط قواعد الاستثمار في الزمن والعقل والقدرات.
إن معركتنا الحقيقية اليوم تبدأ من إعادة ضبط بوصلة الوعي: من الفرد الذي يحترم الدقيقة، إلى المؤسسة التي تحوّل الخطط إلى أفعال، إلى الأمة التي تدرك أن تحررها من الهيمنة الصهيوأمريكية لن يتحقق بالشعارات وحدها، بل بصناعة إنسانٍ جديدٍ مسلّحٍ بالمعرفة والوعي والتخطيط والانضباط والقدرة على إدارة الوقت كأعظم مورد لا يُعوّض.
لقد أثبتت تجارب التحرر في كل مكان أن من يملك وعي الزمن يملك القدرة على قلب الموازين، وأن من يهدره يظل رهينة الهيمنة والوصاية الخارجية، لذلك فإن تحرير الأرض والقرار والسيادة يبدأ بتحرير العقول من وهم الفراغ والتسويف، وبناء ثقافةٍ جماعية ترى في كل لحظةٍ مشروعًا للنهوض والإنجاز.
إن ساعة الأمة لا تحتمل المزيد من التبدّد، واليوم قبل الغد يجب أن نعيد تعريف الوقت بأنه روحُ المقاومة وأداةُ البناء ومعيارُ التحرر، فإما أن نستثمره ونكسر به قيود التبعية، أو نتركه يتسرّب من بين أيدينا فتكتب الأمم الأخرى مستقبلنا نيابةً عنّا.