يحمل لنا شهر محرّم الحرام ليس مُجَـرّد زمنٍ في التقويم الهجري، بل لحظةً تهزّ الوجدان، وتوقظ الذاكرة من سُباتِها الطويل، إنّه موسمٌ لتجديد الولاء واستحضار الموقف، حَيثُ تطلُّ علينا ذكرى أليمة وفاجعة كبيرة لم تبرح آثارها أرواح الأحرار، ولم تخبُ شعلتها في ضمير الأُمَّــة، منذ وقعت وإلى هذا الزمن.
هي ذكرى كربلاء، ومأساة عاشوراء، واستشهاد سبط رسول الله الإمام الحسين -عليه السلام-، ذكرى ليست محصورةً في ماضٍ بعيد، بل هي حيّةٌ نابضةٌ تتكرّر كُـلّ يوم، ما دام هناك ظالم ومظلوم، وما دام للحق طريق وللباطل راية.
كربلاء لم تكن جرحًا عابرًا في جسد الأُمَّــة، بل كانت الانفجار الكبير الذي فضح الانحراف، وكشف الزيف، وجعل للحق صوتًا يُدوّي عبر القرون. لم تكن فاجعة كربلاء مأساةً محدودة الزمان، بل صارت معيارًا يُوزَن به كُـلُّ شيء: من الموقف، إلى الصمت، إلى الشهادة.
عاشوراء لم تكن يومًا من أَيَّـام الأحزان فقط، بل هي اليوم الذي فيه ارتفعت راية الحرية الحقيقية، وتجلّى فيه الفرق الجوهري بين من يُتخم بالعروش، ومن يُقدّم رأسه لله دون تردّد. هو اليوم الذي فيه تكسّرت سيوف الباطل على صخرة الدم الزاكي، وبه تناثرت أوهام الطغاة كرماد في مهبّ الريح.
الإمام الحسين -عليه السلام-، سبط رسول الله وريحانته، لم يكن استشهاده فجيعةً شخصية، بل كان مأساةً أمّتية، وعنوانًا للرسالة المحمدية التي رفضت أن تُختزل في الحكم والمُلك، فخرج ليصحّح المسار، ويقيم الحجّـة، ويُحيي الدين بعدما لبسته العروش لباس السلطان، وألبسته الغطرسة ثوب الخديعة.
ما يربطنا بالحسين -عليه السلام- ليس موسمًا ولا مناسبة، بل هو ارتباط عقائدي، وعهدٌ أخلاقي، ودربٌ لا ينقطع. هو فينا، في وعينا، في مواقفنا، في صلاتنا، في رفضنا للباطل، وفي اصطفافنا الدائم مع المظلومين. الإمام الحسين ليس مُجَـرّد بطلٍ من أبطال التاريخ، بل هو علمٌ من أعلام الهدى، منارةٌ تستنهض الضمير، ورايةٌ للهداية لا تنكسر.
هو للحق عنوان، وللحرية روح، وللإيمان اختبار، به نقيس موقفنا من كُـلّ شيء، وبه نعرف إن كنّا نعيش في ظل النبوة، أَو تحت سُقوف الظالمين. هو القُدوة في الثورة على الفساد، والقائد في درب التضحية، والأسوة في الصبر والثبات.
الحسين إمامُ المسلمين جميعًا، ليس لأَنَّه اعتلى العروش؛ بل لأَنَّه اعتلى قمة المبدأ، واستحقّ الإمامة بالصدق والدم والموقف. هو الامتداد الطبيعي للرسالة المحمدية، والوجه المشرق للنهج الإلهي الذي يأبى أن يُفرّغ من محتواه.
إن الحسين ليس اسمًا يُتلى فقط، بل روحًا تُعاش، ونورًا يُستضاء به في زمن التيه. هو الحارس الأخير للحق حين نامت الضمائر، وهو صوت الله في زمنٍ خفتت فيه أصوات المصلحين. من أراد معرفة الإسلام في جوهره، فليكشف وجهه في مرآة كربلاء.