حدّد اللهُ -سُبحانَه وتَعَالى- للأُمَّـة العربية طريقَ العزة والكرامة والمنعة والقوة، وبيّن لها عواقبَ الانحراف عن هذا الطريق القويم المستقيم، وقص عليها القرآن الكريم قصصًا كثيرةً للاعتبار بما انتهى إليه مصير الضالين المنحرفين، الطغاة المجرمين المستكبرين من الأمم الغابرة على مدى تاريخ الإنسانية الممتد عبر قرون خلت من الزمن، ورفع الله -سُبحانَه وتَعَالى- شأن الأُمَّــة العربية على سائر أمم الأرض؛ فقال عز من قائل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّـة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وطالما التزمت هذه الأُمَّــة الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر تحقّقت فيها الخيرية التي أرادها الله لها.
لكن المؤسف أن هذه الأُمَّــة ومنذ فجر التاريخ الإسلامي انحرفت عن الطريق القويم المستقيم، عندما تكالب الأولون على الدنيا في أول وأخطر انقلاب أسقط عن هذه الأُمَّــة رداء الخيرية الذي كرَّمها الله به؛ فاستبدلت بمعصيتها لأمره كرمَه ونعمتَه بمقته وغضبه عليها، واستحقت مع سابق تحذيره لها عواقبَ هذه المعصية قال تعالى: ﴿وما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ؛ أَفَإِن مَّاتَ أَو قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَٰبِكُمْ، وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شيئًا، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ﴾.
ولقد مثّل ذلك الانقلابُ البدايةَ المشؤومة لما صار إليه حال الأُمَّــة عبر القرون وإلى اليوم، ويعد سببًا لكل ما أصابها من مآسٍ في الزمن الماضي، جسّدتها واقعًا كربلاء آل البيت، وكل كربلاء لحقت بهذه الأُمَّــة بعدها، وكربلاء اليوم في غزة، سببُها ذلك الانقلاب الذي أكّـد ولا يزالُ يؤكّـدُ أن الأُمَّــة ماضيةٌ في الطريق المنحرف بعيدة عن جادَّة الصواب، لم تع ولم تتعلم من حقائق القرآن الكريم ومن وقائع التاريخ، ولم تستوعب بعدُ الآثارَ السلبية والمخاطر الجسيمة المترتبة على ذلك الانقلاب!
ويعد استمرارُ سير الأُمَّــة في طريق الانحراف في زمننا الراهن، أكثر وضوحًا وانكشافًا من الزمن الماضي، ليس بالنسبة لفئة محدّدة، بل لعامة أبناء الأُمَّــة، ومع ذلك لا تزال بعيدة كُـلَّ البُعد عن واجباتها، معرضةً كُـلَّ الإعراض عن عواقب استمرارها في الإخلال بتلك الواجبات، تنفق ترليونات لأعداء الأُمَّــة وأبناؤها يموتون جوعًا في قطاع غزة، متجاهلة بذلك تحذير الله -سُبحانَه وتَعَالى- لها في قوله جل وعلا: ﴿هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ، وَمَن يَبْخَلْ فَــإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ، وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾.
ومثلما سبق لمن سلكوا الطريق المنحرف عن النهج القويم، وزيَّفوا وعي الأُمَّــة، لا يزال سالكو هذا الطريق في زمننا الراهن يزيِّفون وعي الأُمَّــة وبشكل أشد خطورة وتأثيرًا مما سبقهم، مستفيدين في ذلك مما هو متاح من وسائل التأثير المتنوعة، ورغم وضوح الحالة لعامة أبناء الأُمَّــة، بأنها زيف وتضليل وعتها واستوعبتها واستنكرتها الأمم الأُخرى، لا تزال غالبية الأُمَّـة على حالها سائرة في خط انحرافها تلهث وراء سراب يُمَنِّيها به حكامها خدمة لأعدائها؛ لإبعادها عن طريق وَحدتها وعزتها وكرامتها وقوتها، ذلك الطريق الذي أمرها الله عز وجل بالتزامه والسير فيه فقال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جميعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذ كُنتُمْ أعداء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأصبحتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا، كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
ومع أن في هذه الأُمَّــة من يذكّرها بما أوجبه الله عليها، ومحذرًا لها من جسامة المسؤولية المترتبة على تفريطها في هذه الواجبات، مقدمًا حياتَه رخيصةً في سبيل عودتها لطريق خلاصها ونجاتها من تبعات انحرافها، وما لحقها؛ بسَببِه من خزي وذل وضَعف وهوان، واستباحة لكرامتها ومواردها ودماء أبنائها من جانب أعدائها، إلا أنها رغم ذلك تنصب العداءَ لكل مذكِّر لها، وناصح حريصٍ على تغيير حالها، سائرة في ذات المسار، الذي ناصبت فيه العداءَ في سابق عهدها لمن أمرها الله -سُبحانَه وتَعَالى- بمولاتهم في قوله جل وعلا: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.
ومع أنَّ الله -سُبحانَه وتَعَالى- قد بيَّن بشكل واضح لا لَبس فيه ولا غموض، أن النصرَ والفلاح والعزة والغلبة للأُمَّـة على أعدائها، يكمن في اتِّباعها نهجَه القويمَ وطريقَه المستقيم الذي اختطه لها في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَــإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ ورغم كُـلّ ذلك تصر الأُمَّــة على السير في الطريق المنحرف، خلف المنافقين من حكامها وعلماء بلاطهم الذين يعادون أولياء الله ويوالون أعداءه؛ ابتغاء عزة زائفة يرجونها لديهم، رغم أن الله -سُبحانَه وتَعَالى- كتبها قطعًا له وحدَه ولرسوله وللمؤمنين فقال وهو أصدق القائلين: ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
وتستمر الأُمَّـةُ سائرةً خلف المنافقين من حكامها وعلماء بلاطهم في الطريق المنحرف، حتى لو أَدَّى بها ذلك وفقًا لكتاب الله القرآن الكريم، للخروجِ عن دينه القويم والالتحاق بدين مَن يوالونهم من أعداء الله المجرمين الظالمين المستكبرين من اليهود والنصارى تحت عناوين التطبيع، و"اتّفاق إبراهام".
وأخيرًا وليس آخرًا ما يتم الترويج له عن التحالف الإبراهيمي، في مواجهة البقية الباقية من أولياء الله في أرضه، واستمرارُ سير الأُمَّــة في هذا الطريق المنحرف يعني أنها إنما تستبدلُ الكرامة والعزة والقوة والمنعة بالهوان والذل والضَّعف والوهن، وهي بذلك يجسّد واقعًا ما ورد في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أولياء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
صدق الله العلي العظيم.