من كربلاء الطفّ إلى غزة فلسطين، تمتدُّ خيوطُ الدم والشهادة، ويُعاد رسم المشهد التراجيدي الأكبر في ذاكرة الإنسانية، حَيثُ لا يزال الحقّ يُذبح، والماء والغذاء يُمنَع، والخيامُ تُحرق، والأبطال تسفك دماؤهم، والأطفال يُذبحون في حجور آبائهم، تحت سمع العالم وبصره.
إنها ليست مقارنةً عبثيةً بين حادثتين متباعدتين زمانًا ومكانًا؛ بل هي مرآةُ الوجع الذي يتكرّر بذات البشاعة، ويتّحد في الجوهر وإن اختلفت الأدوات والطغاة المجرمين.
الزمان يدور، والمكان يتبدل؛ فإذا بنا في القرن الحادي والعشرين نرى غزّةَ هاشم تُعيدَ مشهد الطفّ، لا على صحراء العراق؛ بل على شاطئ المتوسط، حَيثُ تتقاطع المأساة وتتشابه الدماء، كأن السيوف لم تُغمد، وكأن الحسين وآل بيته يُقتلون من جديدٍ كُـلّ يوم، في وجوه أطفال غزة وأُمهاتها ومقاوميها.
في مسرح الألم العربي والإسلامي، ثمة جراحٌ لا تندمل، ومآسٍ لا تموت مهما توالت القرون، إنها كربلاءُ الطفّ، الفاجعةُ التي وقعت في العاشر من محرم عام 61 هـ، حين سُفك دم الإمام الحسين بن علي -عليهما السلام- وأهل بيته وأصحابه على أرض نهر الفرات، وغزة هاشم، المدينة الفلسطينية الصامدة، التي تعيشُ اليوم كربلاءها اليومية على شاطئ المتوسط، وتحترق كُـلّ صباح بصواريخ الاحتلال وقذائف الموت والحصار.
في كربلاء، قرّر جيش يزيد أن يسبقَ السيفَ بالماء، فقطعوا عن مخيَّم الحسين الماءَ لثلاثة أَيَّـام، وكان نهر الفرات على مرأى ومسمع، يجري أمامَ العطاشى، وكأن الحياة تُعرض على من قرّر أن يموت واقفًا.
وفي غزة، يتجاوز الحصار شهره الحادي والعشرين، تتكرّر فيه كربلاء بصورةٍ أشبه في القسوة والإيغال؛ قطعٌ لكل مظاهر الحياة، حرمانٌ من الغذاء والماء، منعٌ للدواء، وإغلاق للمعابر، وكلّ ذلك تحت صمتٍ دوليّ فاجر، ونفاق إنسانيّ مريع.
في الطفّ، ارتقى أبطال الحق واحدًا تلو الآخر؛ الحرّ، مسلم بن عوسجة، زهير بن القين، القاسم، العباس، ثم ارتقى الحسين -عليه السلام- وهو ينزف بين السماء والأرض، يدعو للحقّ، ولا يطلب إلا نصرة الدين والعدالة.
وفي غزة، تتكرّر المأساة يوميًّا، طفلٌ يُدفَن بجانب أبيه، أُمٌّ تفقد أبناءَها الأربعة دفعة واحدة، مجاهدٌ يقف تحت القصف، يعرف أنه ماضٍ إلى الموت، ولكنه لا يتراجع، وكأنّ العباس يعيد سيرة عطشه في كُـلّ مجاهدٍ يحاول إيصال الماء لعائلته، وكأنّ الحسين يعود في هيئة كُـلّ شهيدٍ يُذبح في ميدانه دون أن يجد ناصرًا أَو معينًا.
ومن أبشع فصول كربلاء، ذلك المشهد الذي اشتعلت فيه النار في خيام النساء بعد ارتقاء الإمام الحسين؛ فيما هربت زينب وحرائر آل البيت بين اللهيب والدخان، يحملن الأطفال، ويبحثن عن ماءٍ أَو مأوى، وفي غزة، هناك خيام وبيوت تحترق وتهدم فوق رؤوس أهلها.
بعد انتهاء المعركة في كربلاء، وقف الطغيان على أطلال الدم، ظانًّا أنه انتصر.. لكنه فوجئ بامرأةٍ مكلومة، واقفة، شامخة، هي زينب بنت علي -عليهما السلام- التي قالتْ للطاغية يزيد في مجلسه: "ما رأيتُ إلا جميلًا.. فكِدْ كيدَك، واسعَ سعيَك، وناصِبْ جهدَك، فو اللهِ لا تمحو ذكرَنا، ولا تميت وحيَنا".
وفي غزة، تقف النساء في مواجهة الموت بنفس الكبرياء: أم شهيد ترفع إصبعَ النصر من فوق جثة ولدها، وزوجة أسير تصرخ في الكاميرا: "لن ننكسر"، وطفلة يتيمة تضع رأسها على كفّ أمّها الشهيدة وتنام.. في مشهدٍ يُذيب القلب، ويوقظ كُـلّ ضميرٍ إنساني.
وما يجعل من كربلاء رمزًا خالدًا هو الصدقُ المطلقُ في الوقوف مع الحقّ، والثبات الكامل أمام الباطل، والتضحية التي لا تنتظر جزاءً دنيويًّا، وغزة اليوم، تحمل ذات الرسالة، بذات الثمن؛ تضحّي، تصبر، تُبقي على جذوة المقاومة مشتعلة، وتقول للعالم: "إن صمتّم عن أطفالنا، فَــإنَّنا نُنشئهم ليكونوا حسينيّين، لا عبيدًا ليزيد العصر".
وإنّي لأقسم غير حانث، إن كربلاء لم تكن لحظة وانتهت، ولا ملحمة وبادت؛ بل صوتٌ مُستمرّ في أذن الزمان، وراية لا تنزل مهما تكاثرت السيوف، وغزّة وإن أثخنها الجراح، وضاقت عليها الأرض بما رحبت؛ فَــإنَّها تكتب سِفر الطفّ المعاصر بحبرٍ من دم، وصبرٍ من نار، وثباتٍ من إيمان.
وإذا كان الإمام الحسين -عليه السلام- قد قال: "إن كان دينُ محمد لا يستقيمُ إلا بقتلي، فيا سيوفُ خذيني"؛ فَــإنَّ غزة تقول: "إن كان تحرير فلسطين والأمة، لا يتم إلا بدمائنا، فخذينا جميعًا يا صواريخ الغدر والصمت".
ومن كربلاءَ إلى غزة، يتقاطع مجد الشهداء وعارُ الطغاة المجرمين.. وما بين كربلاء وغزة خيطٌ واحدٌ من الألم والصبر والانتصار الأخلاقي، وَإذَا كان يزيد اللعين قد ظنّ أنه أسكت صوت الحسين بقتله، فقد ثبت أن صوت الحسين بدأ بعد استشهاده، لا قبله.
وكذلك اليوم، مهما قصفوا غزة؛ فَــإنَّهم لم ولن يُسكِتوا صوتها؛ لأَنَّ غزة كما كربلاء، أرضُ شهادة، ومنبتُ كرامة، ومصنعُ رجالٍ لا يُهزمون.
فهنيئًا للإمام الحسين الذي خُلِقَ ليكون ثورةً متجددة، وهنيئًا لغزة أنها خُلقت لتكون امتدادًا لها، تُعِيدُ للعالم لُغةَ التضحية، ومعنى الجهاد والمقاومة ومقارعة الطغاة الظالمين.. هنيئًا لصوت المظلوم حين يقول: "والله لا نُهزم، ما دامت دماء من قالوا: هيهات منّا الذلّة" تجري في عروقنا.