في العاشر من محرم الحرام، عام 61 للهجرة، لم تكن واقعة كربلاء محطة عابرة في صفحات التاريخ الإسلامي، بل كانت ثورة مدوية قادها الإمام الحسين بن علي، سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في وجه الفساد والانحراف عن قيم الإسلام ومبادئه الأصيلة. لقد مثلت هذه الثورة نقطة تحول مفصلية، بين الحق والباطل، العدل والظلم.

 

لقد وصل حكم بني أمية،  إلى مستويات غير مسبوقة من الاستبداد والترف. فالأموال التي كان من المفترض أن تُنفق في خدمة الأمة وتلبية احتياجاتها، أو في دعم الجهاد لتخليص البشرية من الظلم، أصبحت تُسخر لإشباع نزوات الحاكم وشهواته الشخصية. يتحدث المؤرخون عن قصور فارهة وبذخ لا حدود له، بينما كانت الأمة تعاني من التهميش وتراجع دورها الريادي في نشر العدل. في هذا السياق، أكد السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في إحدى خطاباته أن "الانحراف الأموي وصل إلى درجة التفريط في أولويات الأمة وواجباتها الجهادية، وتحويل ثرواتها إلى أدوات للترف واللهو، بدلاً من أن تكون قوة دافعة لتحقيق العدل ونشر رسالة الإسلام". هذه الحالة من الإفراط في الأنا السلطوية، التي تُقدّم المصلحة الشخصية على مصلحة الأمة، هي ما دفع بالإمام الحسين إلى التحرك.

 

عاشوراء.. صرخة ضد التفريط في دور الأمة

لقد كان الإمام الحسين (ع) يدرك تمام الإدراك أن الأمة الإسلامية هي "رائدة راية العدل في الأرض"، وأنها مكلفة بمهمة عظيمة تتمثل في أن تكون "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، كما جاء في الآية الكريمة. هذا الدور المحوري للأمة، الذي يرتكز على قيم العدل والإنصاف وإقامة القسط، كان مهدداً بالضياع تحت وطأة الحكم الأموي الذي غرق في الملذات والتفريط في الحقوق.

لقد أكد الإمام الحسين (ع) أن الصمت على هذا الانحراف يعني المساهمة في طمس الهوية الإسلامية، وتحويل الأمة من أمة قائدة إلى أمة تابعة ومستلبة. كانت ثورته، إذاً، رفض لحكم فاسد، ودفاع عن مبادئ الدين وحق الأمة في العيش بكرامة ووفقاً لتعاليم الحق. وقد شدد على ذلك في خطبته الشهيرة قبل المعركة، التي نقلتها كتب السيرة والمصادر التاريخية، قائلاً: "إني لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً ولا مُفسِداً ولا ظالِماً، وإنما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أمةِ جدي، أريدُ أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكرِ، وأسيرَ بسيرةِ جدي وأبي علي بن أبي طالب"، عليهم السلام. هذه الكلمات جسدت عمق رؤية الإمام الحسين لدوره كمُصلح لا كطالب سلطة، وكمدافع عن الأمة لا كمعادٍ لها.

بهذا، لم تكن ثورة الإمام الحسين في كربلاء مجرد قصة حزينة في سجل التاريخ، بل هي مدرسة قائمة بذاتها، تعلم الأجيال المتعاقبة أن الثمن الذي تدفعه الأمة مقابل صمتها على الظلم والتفريط في مبادئها هو أفدح بكثير من ثمن المواجهة والانتصار للحق. هي صرخة مدوية لا تزال تتردد أصداؤها، تدعو إلى اليقظة ومقاومة كل شكل من أشكال الاستبداد والانحراف عن سبيل الله والعدل.

 

أبعاد تتجاوز الزمان والمكان

ثورة الإمام الحسين (ع) منبعٌ لا ينضب للدروس والعبر، خصوصاً في سياق الأوضاع الراهنة. لقد جسّد الحكم الأموي، بخاصة في عهد يزيد، نموذجاً صارخاً لـ"الأنا" المتضخمة التي تضع مصالحها وشهواتها فوق كل اعتبار. لم تكن المسألة مجرد فساد إداري فقط، بل كانت تحويلاً جوهرياً لبوصلة الحكم الإسلامي. فالأموال التي تُجمع باسم الأمة، والتي كان ينبغي أن تُستخدم في "أداء مهامها الجهادية في تخليص البشرية من الظلم والاستبداد"، حُولت إلى قنوات الترف والبذخ. هذا ما أكده العديد من المؤرخين، منهم الطبري في "تاريخ الرسل والملوك"، الذي أشار إلى حياة البذخ التي كان يعيشها يزيد وعناصره، في تناقض صارخ مع بساطة حياة المسلمين الأوائل.

يُمكن القول إن هذا التفريط لم يكن عفوياً، بل كان نتيجة لخلل عميق في فهم دور الحاكم ومسؤوليته تجاه الأمة. فبدلاً من أن يكون الحاكم خادماً للشعب، أصبح طاغية يُسخر مقدراته لإشباع رغباته. هذا النمط من الحكم يُنتج، بالضرورة، بيئة تُشجع على الظلم وتُغرق المجتمع في حالة من التيه، بعيداً عن أهدافه السامية.

 

الحسين مدافعاً عن هوية الأمة وراية العدل

في المقابل، جاءت ثورة الإمام الحسين (ع) كرفض قاطع لهذا الانحراف. لقد كان الإمام يرى بوضوح أن الأمة الإسلامية ليست مجرد تجمّع بشري، بل هي "رائدة راية العدل في الأرض". هذه الريادة ليست شرفاً فحسب، بل مسؤولية عظيمة تستلزم العمل الدؤوب على إقامة القسط والعدل في كل مناحي الحياة. استدل الإمام الحسين، بقوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)، ليُشير إلى أن الرسالة المحمدية تهدف إلى إضاءة دروب البشرية بالحق والعدل.

إن خروج الإمام الحسين (ع) لم يكن سعياً وراء سلطة، بل كان عملاً مبدئياً لإيقاظ الوعي الجمعي وإعادة الأمة إلى مسارها الصحيح. لقد أراد أن يُعيد تعريف الهوية المجتمعية لهذه الأمة، وأن يُبرز دورها كـ"قوة" تسعى لنصرة المظلوم وإقامة العدل. هذه الثورة، من هذا المنطلق، لم تكن موجهة ضد شخص بقدر ما كانت موجهة ضد مبدأ، ضد فكرة أن تُسلب الأمة إرادتها وتُحرف عن هدفها الأصيل في قيادة البشرية نحو الخير.

 

إيقاظ الوعي وتشكيل الهوية.. صدى تاريخي محفز للتحرر

إن ثورة الإمام الحسين (ع) في كربلاء في صحراء التاريخ، كانت زلزالاً هزّ أركان الخلافة الأموية، وأحدث تداعيات عميقة على مسار التاريخ الإسلامي برمته، وما زالت تأثيراتها واضحة على المقاومة ضد الظلم والاستبداد في العصر الحديث. لقد أصبحت كربلاء ومنهج الإمام الحسين مناراً لكل من يرفض الخضوع للطغيان.

 لقد كشفت ثورة الإمام الحسين (ع) الوجه الحقيقي لنظام قائم على القوة والوراثة. دماء الحسين الطاهرة فجّرت حالة من الغضب والاستنكار. لقد بات واضحاً أن هذا الحكم منحرف عن جوهر الإسلام، كما يرى الكثير من المؤرخين والباحثين. يقول الدكتور علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" إن "كربلاء كانت بمثابة الصاعق الذي أشعل فتيل الثورات ضد الأمويين" من خلال:

•           تشكيل الوعي المقاوم: أصبحت كربلاء رمزاً للرفض المطلق للظلم، ومرجعية فكرية وعقائدية للمعارضين للحكم الأموي ومن بعده العباسي. تأسست حركات مقاومة عديدة، استمدت إلهامها من تضحية الإمام الحسين (ع) واستشهاده.

•           تعزيز الهوية الفكرية: ساهمت كربلاء في ترسيخ مفهوم الإمامة والدفاع عن العدل كمحور أساسي في فكر عدد كبير من المسلمين، خاصة لدى أعلام الهدي من أهل البيت وشيعتهم الأبرار، الذين يعتبرون الحسين سيد الشهداء وقدوة في التضحية والفداء. أصبحت عاشوراء ذكرى سنوية تحيي في النفوس قيم الثورة على الظلم والتفاني في سبيل المبادئ.

 

على المقاومة في العصر الحديث.. إلهام لا ينضب

امتد تأثير ثورة الإمام الحسين إلى ما هو أبعد من حدود الزمان والمكان، ليصبح منارة تلهم الحركات المقاومة ضد الظلم والاستبداد في العصر الحديث، بما في ذلك ما نشهده اليوم في اليمن وفي المنطقة:

•           مبدأ الثورة على الظالم: لقد رسخت كربلاء مبدأ أن السكوت عن الظلم ليس خياراً. القول المأثور "كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء" الذي يُردده المقاومون، يعكس فكرة أن قيم الثورة الحسينية ليست محصورة في زمن أو مكان، بل هي دعوة مستمرة لمواجهة الظلم أينما وجد. وقد أكد السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، في العديد من خطاباته، على أن "ثورة الإمام الحسين هي مدرسة تعلم الأمة كيف ترفض الذلة وتواجه الطغيان مهما كانت التحديات؟".

•           روح التضحية والفداء: تُعد تضحية الإمام الحسين وأصحابه في كربلاء نموذجاً أقصى للفداء في سبيل المبدأ. هذه الروح ألهمت الكثير من المقاومين في العصر الحديث على تحمل الصعاب وتقديم التضحيات الجسام في مواجهة قوى العدوان والاستكبار، إيماناً منهم بأن النصر المعنوي للحق يتجاوز الانتصار العسكري أحياناً.

•           رمزية المواجهة بين الحق والباطل: ينظر الكثير من الحركات المقاومة إلى صراعهم مع القوى المهيمنة على أنه امتداد للصراع الأزلي بين الحق والباطل، كما حدث في كربلاء. هذه الرمزية تمنحهم قوة معنوية هائلة وإصراراً على الصمود، حتى في ظل تفاوت القوى. القوات المسلحة اليمنية، في مواجهتها للعدوان، كثيراً ما تستلهم من هذه الروح، وتعتبر صمودها امتداداً لصمود كربلاء في وجه الطغيان.

ولذا، فإن ذكرى عاشوراء ليست عابرة عن سرد تاريخي لسيناريو مأساة فقد قائد عظي فحسب، بل هي دعوة دائمة للتفكير في كيفية الحفاظ على مسار الأمة، وكيفية حمل الراية التي حملها ذلك القائد العظيم في التصدي لأي محاولة تُقلل من شأنها أو تُحرفها عن دورها القيادي في إرساء العدل ومواجهة الظلم. إنها محطة للتزود بقيم التضحية، الإيثار، ورفض الخنوع، وهي القيم التي سعى الإمام الحسين لترسيخها بدمه الشريف.

في الختام، إن ثورة الإمام الحسين لم تكن مجرد حادثة دامية في الماضي فقط، بل هي نبض مستمر يغذي روح المقاومة والصمود في كل زمان ومكان. إنها تذكير دائم بأن قيمة الإنسان تكمن في مدى التزامه بالحق ورفضه للباطل، حتى لو كلفه ذلك حياته.