لم تكن المرة الأولى التي جلستُ فيها أستمعُ إلى إحدى محاضرات السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي، لكنها كانت المرةَ التي شعرتُ فيها أن الكلماتِ لم تعد موجهة إلى الناس عمومًا، بل إليّ شخصيًا.

كنت في مكتبي، والهدوء يلف المكان، إلا من صوت القائد يخترق جدران الروتين الإداري، ويوقظ في داخلي سؤالًا ظل يطرق رأسي لأيام:

"هل نحن نكتفي بالاستماع؟ أم نترجم هذا المشروع القرآني إلى واقعٍ في مؤسساتنا؟"

كانت محاضراته تتكرر أمامي في كل موقف أعيشه داخل أروقة المؤسسة، في تعاملنا مع المواطنين، في القرارات، في الأوراق المتراكمة، في الوجوه المتعبة التي تبحث عن العدالة ولا تجدها بسهولة.

أدركتُ حينها أن هذا المشروع ليس بعيدًا، وليس نظريًا كما يظن بعضهم، بل هو مشروع قابل للتطبيق، بل ضروري، إذا أردنا أن ننهض فعلًا من بين الركام.

الوظيفة ليست سلطة، بل عبء ومسؤولية

في إحدى المحاضرات، قال السيد القائد كلامًا بقي محفورًا في ذهني:

"المسؤولية أمانة، لا ترف، وهي مقام خطير بين يدي الله، قبل أن تكون منصبًا في الدنيا".

حين سمعت ذلك، بدأت أنظر للوظيفة نظرة مختلفة.

أصبحت أرى مكتبي كرُكن من أركان المعركة ضد الفساد، وأصبحت أعيد النظر في كل معاملة أتلقاها: هل أُنجزها بنية الخدمة أم المجاملة؟ هل أطلب "المستندات" لتأخير المواطن أم لتسهيل طريقه؟

وهكذا بدأت أفهم أن المشروع الذي يدعو إليه السيد القائد لا يبدأ بخطط ضخمة، بل بتطهير النوايا أولًا، ثم الانطلاق بخطوات صغيرة، لكنها صادقة.

 

في ممرات المؤسسة.. الغضب صاخبٌ أو مكتومٌ حينًا

تجولت ذات يوم بين مكاتب المؤسسة القضائية، وتأملت وجوه الموظفين والمواطنين. وجدت الشكاوى حاضرة، والغضب أحيانًا مكتومًا، وأحيانًا صاخبًا.

فكّرت في كلمات السيد القائد عن الظلم، وكيف أنه يعتبر الظلم في القضاء من أبشع الجرائم، لأن المظلوم الذي يأتي إلى القاضي لا يملك سلاحًا سوى ثقته بالدولة.

كم من مظلوم خرج من المحكمة وهو أكثر ألمًا؟ كم من غنيٍّ تجاوز الفقير؛ لأن لديه "واسطة"؟

كان السيد القائد يكرر دومًا أن:

"العدل أساسُ الملك، والسلطة القضائية هي صمّامُ الأمان للشعب".

عندها قررتُ أن أبدأ بنفسي. أن أكون أول من يُسرّع الإجراءات، وأول من يرفض المجاملة، وأول من يُنصف من لا صوت له.

 

الوحش المتخفي في جيوب الصمت:

لا أحد ينكر أن الفساد هو العدو الداخلي الأخطر. في أحد خطاباته، قال السيد القائد بوضوح مؤلم:

"العدوان الخارجي لا يستطيع أن يهزمنا، لكن الفساد من الداخل قد يدمّر كل شيء".

فهل كنا ننتظر أن يُصدر أحدهم تعميمًا ليُخبرنا أن الرشوة حرام؟ أو أن تعطيل معاملة المواطن جريمة؟

الخطاب كان واضحًا: المسؤول الذي يصمت عن الفساد، هو فاسد مثله. والساكت عن الحق شيطان أخرس، حتى لو ارتدى زي الدولة.

ومن هنا بدأت أتحدث بصوت عالٍ، ليس صراخًا... بل موقفًا.

بدأنا نراقب بعضنا، نبلغ عن المخالفات، نحفّز النزيه، ونحاصر المستغلين.

ليس لأننا مثاليون؛ بل لأننا قررنا أن نكون من "أنصار الحق" لا شركاء للباطل.

 

القدوة لا تأتي من الكتب.. بل من القلوب

رأيت زملاء لي يتغيرون حين استشعروا أنهم لا يعملون من أجل الراتب فقط، بل من أجل رضا الله وخدمة الشعب.

رأيت قضاةً يعيدون فتح مِلفات قديمةٍ لمظلومين نسيتهم الأدراج. رأيت موظفين يقضون يوم الجمعة في تنظيم الأرشيف بدون أمرٍ من أحد.

هذه الروح الجديدة لم تأتِ من دورةٍ تدريبية، ولا من لائحة إدارية... جاءت من كلمات قائد يخاطب أرواحنا قبل عقولنا، ويحرّكنا بالإيمان لا بالخوف.

 

هكذا نفهم المحاضرات.. وهكذا نعيشها

ليست المحاضرات مجردَ خطاب موسمي، ولا نصوصًا للتداول في مجموعات "الواتساب".

هي بُوصلة، ومِشعَل، ومِرآة. تعلمنا كيف نكونُ أقوياء بلا ظلم، متواضعين بلا ضعف، إداريين نزيهين، وقضائيين منصفين.

وإذا كنا نريد أن نُسهم في بناء اليمن الجديد، فليكن ذلك من خلال التطبيق، لا التنظير.

فليبدأ كل موظف من حيث هو، وليبدأ كل مسؤول بمحاسبة نفسه، قبل أن يُحاسب الناس.

 

المشروع يبدأ بي وبِك.. لا بغيرنا

خرجت من مكتبي بعد انتهاء الدوام، وقد شعرتُ لأول مرة أنني لم أؤدِّ "وظيفتي" فقط، بل قمت بجزء من واجبي الديني والوطني.

كان صوت السيد القائد لا يزال في أذني، وهو يقول:

"إذا صَلُحَ الفرد، صَلُحَت المؤسسة، وصَلُحُ البلد".

فعاهدتُ نفسي أن أبدأ من هنا، من داخل مكتبي، ومن داخل ضميري، وأن أكون شاهدًا لا سامعًا، عاملًا لا ناقلًا.