في زمن تتباهى فيه الأمم بحضارتها، وتملأ المؤتمرات والقمم عناوينها بالحديث عن "حقوق الإنسان" و"الكرامة البشرية"، تُذبح غزة جوعًا، في مشهد لا يترك مجالًا لأي ادِّعاء بالتحضر أَو الأخلاق. لم تعد غزة تُقصف فقط بالقنابل، بل تُجَوَّع حتى الموت، ويُترك أطفالها يذبلون أمام شاشات العالم، دون أن يتحَرّك ضمير أَو ترتجف يد، وكأن ما يحدث لا يعني البشرية في شيء.

لقد أصبح الجوع في غزة سلاحًا أقسى من القنابل، وأشد فتكًا من الغارات، سلاحًا يُستخدم بتخطيط وتواطؤ، وتغطيه الصمت الدولي، وشلل الضمير العالمي. يموت الأطفال؛ لأَنَّ الحليب لم يصل، وتفارق النساء الحياة؛ لأَنَّ دواء الولادة انقطع، ويُدفن المرضى أحياء؛ لأَنَّ المستشفيات خرجت عن الخدمة أَو حُرمت من الأوكسجين والمستلزمات. كُـلّ هذا لا يحدث في غابة منعزلة، بل على مرأى من عالم يدّعي أنه يدافع عن الإنسان.

الصمت الدولي لم يعد موقفًا محايدًا، بل صار شريكًا فعليًّا في الجريمة. كيف يمكن أن نصنّف سكوت الدول الكبرى، والمنظمات الأممية، والمؤسّسات الحقوقية، أمام هذه المجازر البطيئة؟ كيف يمكن تفسير تحوُّل غزة إلى سجن كبير يُعاقب فيه شعبٌ بأكمله؛ لأَنَّه لم يرفع الراية البيضاء؟! هل أصبح الدفاع عن الأرض والكرامة سببًا كافيًا لإصدار حكمٍ جماعي بالإعدام جوعًا وحصارًا على أكثر من مليوني إنسان؟!

في هذا المشهد المظلم، وفي ظل هذا الانحدار الأخلاقي المخزي، يبرز صوت الحق، والموقف النقي، من قيادةٍ لا تزال ترى في فلسطين جوهر الصراع ومركز القضية. السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي – حفظه الله – لم يكن صامتًا، ولم يتذرع بالحصار أَو الظروف. بل كان من أوائل من عبّروا عن موقف واضح وثابت تجاه ما يجري في غزة، مؤكّـدًا أن هذه الأُمَّــة لن تُعذر أمام الله إن خذلت شعب فلسطين، وأن من يتقاعس أَو يصمت فهو جزء من جريمة العصر.

خطابات السيد القائد لم تكن فقط تذكيرًا بواجب الأُمَّــة، بل كشفًا دقيقًا للمؤامرة الكبرى التي تُحاك ضد الشعوب الحرة. لقد عرّى نفاق الإعلام العربي الموجَّه، وفضح دور الأنظمة العميلة التي تتآمر على المقاومة وتشيطنها، بينما تفتح قنواتها لاستضافة مجرمي الحرب الصهاينة، وتُعطي الشرعية للقتلة والجلادين.

إن ما يحدث في غزة ليس مُجَـرّد أزمة إنسانية، بل فضيحة كبرى لسقوط القيم والمبادئ. القضية الفلسطينية تحولت إلى مقياس حقيقي لفرز المواقف، من معسكر يقف إلى جانب المظلوم مهما كانت التكاليف، ومعسكر يتلحف الصمت، أَو يتآمر باسم "السياسة"، و"الاعتدال"، و"الحكمة" الزائفة.

الشعب اليمني، ورغم جراحه العميقة، قدّم نموذجًا في الصمود والوفاء. تظاهر بالملايين، وجمع التبرعات، وعبّر بصدق عن نبض الأُمَّــة الحي. كان موقفه موقفًا إنسانيًّا، أخلاقيًّا، وعقائديًّا، تقوده قيادة قرآنية تدرك أن المعركة مع العدوّ الصهيوني ليست قضية حدود، بل قضية وجود وهوية. وكم كان السيد القائد صريحًا حين قال: "إننا مستعدون بكل ما نملك لنصرة الشعب الفلسطيني، وما بيننا وبين غزة ليس تضامنًا، بل التزام إيمانيٌ وجهاديّ.

أما آن لهذا العالم أن يخجل؟! أما آن للضمير الإنساني أن ينهض من غيبوبته؟! أما آن للحقيقة أن تُقال دون تجميل؟! غزة لا تحتضر بصمت، بل تُغتال كُـلّ يوم على طاولة الأمم المتحدة، وفي مكاتب العواصم الكبرى، وفي نشرات الأخبار التي أصبحت جزءًا من آلة التعتيم والخداع.

التاريخ لا يرحم، والدم لا يُنسى، والشعوب لا تموت. ومن يظن أن غزة ستركع بالجوع، لم يفهم شيئًا من طبيعة هذا الشعب ولا من تاريخ المقاومة. لكن الخزي كُـلّ الخزي لمن سكت، وشارك، وطبّع، وتآمر.

إن من لا يرى في ما يحدث في غزة جريمة، هو شريكٌ في تنفيذها. ومن لا يناصر المظلوم، فقد اختار أن يكون في صف الظالم، وإن تستر بشعارات السلام. غزة اليوم لا تحتاج عواطف، بل تحتاج مواقف. لا تحتاج بكاء المتأخرين، بل وقفة الصادقين.