"وسِوى الرومِ خلف ظهرِك رومٌ فعلى أيِّ جانبَيكَ تميلُ".
بهذا البيت الشعري النافذ المسافر خلودًا عبر الأزمان والأجيال خاطب شاعرُ العرب الأكبرُ أبو الطيِّب المتنبي منبِّهًا أحدَ حكام زمانه العرب الذي كان في ذروة المواجهة مع العدوِّ الخارجي اللدود (الروم) قبل أكثرَ ألف عام..
وما أشبه الليلةَ بالبارحة؛ فعدا "رومِ" هذا الزمان أعداءِ البشرية الظاهرين.. ثمة رومٌ خلفَ الظهر كُثُرٌ بل ما أكثرَهم في هذا الزمن الأعوج وما أوقحَهم وأغباهم وأتفهَهم!
هؤلاء هم خوابيرُ العدوّ الأجنبي الغريب وصنائعُه وجُدُرُه، وهم مصداقُ قول الله تعالى: "لَاْ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ"، وأمريكا لا تقاتل إلا من وراء الوكلاء والصنائع والأدوات..
ما يجري في غزة بكل فجائعيته وغرائبيته ومفارقتِه المذهلة يلقي بظِلالٍ ثقيلة شديدةِ الوَقْعِ واللسع والاحترار من التساؤلات حول هؤلاء "الجُدُر" الواقفين بثباتٍ متبلِّدٍ متجمِّدٍ في وضعية الدرع للعدوِّ المجرم وفي مربع التجاهُل والخِــذلان لأعظمِ مظلوميات هذه الأُمَّــة وذروة مآسيها..
هذا في ظاهر الأمر أما جوهرُه وواقعُه فهو تواطُؤٌ واصطفافٌ إلى جانب العدوّ وخيانة لا لَبْسَ فيها.. وكأن القيم، الأخلاق، الكرامة، الصدق، الغيرة، الحَمية، الانتماء، الحرية، العزة، الإباء.. أصبحت مقتنياتٍ متحفية وديكورات خشبية ميتة.. أصبحت قطعًا أثرية لا نبضَ فيها ولا حياة لدى هؤلاء المصطفِّين في طابور "التطبيع" والخزي و"البهذلة" والخيانة والصهينة والأمركة..
فهم ويا للعجب يعطون العدوّ الجزارَ ما يطلب وما يريد بدون تحفُّظٍ ولا ممانعة.
ويلومون وينقُمون في المقابل على إخوتهم المظلومين والمقارعين للعدوان والطغيان والظلم؛ ذودًا عن هؤلاء المظلومين المقتولين قصفًا وحصارًا وتجويعًا!.
يعادون الشعبَ اليمني وشرفاءَ وأحرارَ الأُمَّــة؛ لأنهم ما زالوا على تلك المبادئ والقيم ويقدِّسون هذه المفاهيم والمرجعيات الراسخة في صميم دينهم وضميرهم ومصداقيتهم، ويذودون عنها كأَسَاسيات حياتية وجودية مصيرية لا غنى عنها ولا مجال لديهم للتفريط فيها، بل يضحُّون بالغوالي والنفائس لأجلها.