في عالمٍ اختلّت فيه الموازين، عالمٍ يهيمنُ عليه النفاقُ السياسي والإعلامي، لم يعد الخلل مقتصرًا على الوقائع وحدها، بل بات كامنًا في المصطلحات نفسها؛ حَيثُ يُعاد تعريف الأشياء على غير حقيقتها، ويُقدَّم الباطل في ثوب الحق، ويُشوَّه الحق حتى يبدو جريمة.
ومن أكثر الأمثلة فجاجةً على هذا الانقلاب المفاهيمي توصيفُ صنعاء، عاصمة الصمود، بأنها "محتلّة"، في مقابل تسمية المحافظات الجنوبية بـ "المحرّرة"، في مشهد يكشف حجم التضليل المتعمد الذي يُمارس على الوعي العام، ولا سيما في خطاب المرتزِقة ومن يقف خلفهم.
فصنعاء، التي يدير شؤونها أبناؤها، ويُتخذ قرارها من داخلها، وتخضع لإرادَة يمنية خالصة، تُوصم بالاحتلال؛ بينما تُقدَّم المناطق الجنوبية التي تتحكم فيها القوات السعوديّة والإماراتية والأمريكية، وتُدار قراراتها من خارج الوطن، بوصفها مناطق محرّرة.
وهنا يبرز السؤال الجوهري والملح: ما هو الاحتلال؟ أهو وجود أبناء البلد في عاصمتهم، أم وجود قوات أجنبية تتحكم بالأرض والقرار والثروة؟
إن ما يجري ليس مُجَـرّد اختلاف في وجهات النظر، بل عملية تزوير ممنهجة للحقائق، تهدف إلى قلب المفاهيم، وتبديل المسميات، وإعادة تشكيل الوعي بما يخدم مشاريع الهيمنة والوصاية.
فالتحرير، وفق هذا المنطق المعكوس، لا يعني السيادة ولا الاستقلال، بل يعني الخضوع للخارج، والارتهان لإرادته، والقبول بتحويل الوطن إلى ساحة نفوذ وصراع مصالح؛ أما الاحتلال، فيتحول إلى تهمة تُلصق بكل تجربة حكم وطني مستقل يرفض الوصاية الأجنبية.
ولكي تكتمل صورة التضليل، تُطلق أوصاف "المليشيات" و"الانقلابيين" على أهل صنعاء، بينما تُمنح صفة "الشرعية" و"الوطنية" لقوى لا تملك من أمرها شيئًا، ولا تتحَرّك إلا وفق إملاءات الخارج.
غير أن الواقع الميداني يفضح هذا الخطاب ويعرّيه؛ ففي عدن، التي يصرّون على تسميتها محرّرة، نشهد انتهاكات لحرمة البيوت، وتفشي الاغتيالات، واستباحة الدماء، وانفلاتا أمنيًّا خطيرًا، وصراعات بين قوى متنازعة على النفوذ والمال والسلاح.
كما تشهد المدينة انهيارا اقتصاديًّا حادًّا تمثّل في تدهور العملة وارتفاع أسعار السلع الأَسَاسية، ما فاقم معاناة المواطنين وأفقدهم أبسط مقومات العيش الكريم.
في مقابل ذلك، تبدو صنعاء، التي يُراد تصويرها كعاصمة غير محرّرة، أكثر استقرارا نسبيًّا على المستويين الأمني والاقتصادي؛ لم تشهد الانفلات الذي تعيشه عدن، ولم تتحول إلى ساحة اغتيالات مفتوحة، كما حافظت على قدر من تماسك المؤسّسات، واستقرار العملة، وتوفّر السلع مقارنة بالمناطق الخاضعة للاحتلال المباشر، واتجهت نحو تعزيز الاعتماد على الذات، وتطوير القدرات المحلية، في ظل حصار خانق وعدوان مُستمرّ.
وهنا تتجلى المفارقة الصارخة: مدينة يحكمها أبناؤها، وتعيش قدرًا من الاستقرار، تُوصم بالاحتلال؛ ومدينة تضج بالقوات الأجنبية، وتُدار من الخارج، وتعيش فوضى أمنية واقتصادية، تُسمّى محرّرة.
أي منطق هذا الذي يجعل السيادة الوطنية تهمة، والارتهان للخارج فضيلة؟
إن هذا الانقلاب في المفاهيم لم يكن ليحدث لولا الخداع الإعلامي، والتضليل المنهجي، واستهداف الوعي الجمعي، خُصُوصًا لدى من اختلطت عليهم الأمور، وفقدوا القدرة على التمييز بين السيادة والارتهان، وبين التحرّر والاحتلال؛ فهؤلاء لم يضلوا الطريق فحسب، بل أصبحوا أدوات لإعادة إنتاج الزيف، وتكريس واقع مشوّه يخدم أعداء الوطن.
ورغم كُـلّ ذلك، تظل الحقيقة عصية على الطمس؛ فالتاريخ لا يُكتب بالشعارات، ولا بالمصطلحات المزيَّفة، بل بالوقائع.
والوقائع تقول إن صنعاء، مهما وُصفت، تظل عاصمة الصمود العربي، تحكم نفسها بنفسها؛ بينما تبقى عدن، مهما سُمّيت، مثالًا صارخًا على فقدان السيادة حين يُدار القرار من الخارج.
وبين هذا وذاك، تتضح معركة اليوم بوصفها معركة وعي قبل أن تكون معركة أرض، معركة تسمية الأشياء بأسمائها، وفضح الزيف، وإعادة الاعتبار للحقيقة مهما حاول المضللون طمسها.