في زمنٍ تتكالب فيه قوى العدوان على أوطاننا، وتشتد فيه حلقات الحصار على رقاب الشعوب، تتشابه الجراح وإن اختلفت الجغرافيا؛ فاليمن الجريح وفلسطين الأسيرة يعيشان ذات المأساة، ويتقاسمان الوجع نفسه: حصار خانق، قصف متواصل، احتلال متغطرس، وتواطؤ دولي وصمت عربي مخزٍ.

ومع كُـلّ مؤامرة جديدة، يظل نبض الأُمَّــة في صدور الشرفاء، يتحدى كُـلّ محاولات الكسر والإخضاع، ويحمل على عاتقه أمانة الحرية والكرامة.

 

اليمن.. عَقدٌ من الحرب وصمودٌ لا يلين

منذ اندلاع العدوان على اليمن قبل عقد كامل، لم تكن المعركة مُجَـرّد نزاع سياسي على سلطة أَو موارد، بل كانت حربًا شاملة استهدفت روح اليمن وإرادته الحرة.

سعت قوى الخارج، مدفوعة بأطماع الهيمنة والسيطرة، إلى تمزيق البلاد، وتغذية الانقسام الداخلي، ونهب الثروات، وفرض وصايات سياسية واقتصادية.

لكن اليمنيين – رغم الجوع والدمار وانقطاع الرواتب وتدمير البنية التحتية – لم يفرِّطوا في قرارهم المستقل، ولم يقبلوا أن يكون وطنهم مُجَـرّد ورقة تفاوضية في صفقات الإقليم أَو مسرحًا لإملاءات العواصم الكبرى.

لقد تحوّل اليمن إلى ساحة اختبار لإرادَة الشعوب في مواجهة أعتى التحالفات العسكرية.

أرادوه ذليلًا، فإذا به ينهضُ من تحت الركام، يصنع سلاحه بيده، ويحوّل الحصار إلى فرصة للاعتماد على الذات.

ومن رحم المعاناة، وُلدت قوة رادعة هزّت موازين القوى في المنطقة، وترجمت نفسها على شكل عمليات إسناد للمقاومة الفلسطينية في غزة، وعلى شكل حضور بحري أربك الأساطيل الأمريكية والصهيونية في البحر الأحمر وباب المندب.

 

فلسطين.. الجرح الأعمقُ في قلب الأُمَّــة

في قلب الصراع العربي–الصهيوني، تختصر فلسطين كُـلّ معاني الصمود، وتفضح كُـلّ وجوه الخيانة.

الاحتلال الصهيوني يمعن في القتل والدمار، يسرق الأرض ويهدم البيوت ويستبيح المقدسات، غير آبه بقرارات دولية أَو صرخات إنسانية.

ومع ذلك، فَــإنَّ المقاومة الفلسطينية – رغم الحصار الخانق ونقص السلاح والدواء – تحفر في الصخر طريق التحرير، وتحوّل كُـلّ قطرة دم إلى صرخة مقاومة في وجه الاحتلال.

ما يجري في غزة اليوم ليس مُجَـرّد مواجهة عسكرية محدودة، بل معركة وجود، تذكّر الأُمَّــة بأن عدوها واحد مهما حاولت أنظمة التطبيع أن تغيّر البوصلة.

إن دماء الأطفال على شواطئ غزة هي ذاتها دماء الأطفال في صنعاء وصعدة والحديدة وتعز وإب وذمار وعمران، والرصاصة التي تخترق جسد فلسطيني هي ذاتها التي تقتل يمنيًّا، وإن اختلفت الأيدي الضاغطة على الزناد.

 

الانقسام.. الطعنة الموجعة من الداخل

أخطر ما يواجه الأُمَّــة اليوم ليس سلاح العدوّ وحدَه، بل الانقسام الداخلي الذي يحوّل الخلافات السياسية إلى معاول تهدم الجدار المتبقي من وحدتنا.

في اليمن، ساهمت الانقسامات في إطالة أمد الحرب وتغذية الصراع الداخلي.

وفي فلسطين، ضاعت فرص تاريخية كثيرة؛ بسَببِ الانشقاقات بين الفصائل.

وفي لبنان، نرى كيف يحاول العدوّ اللعب على وتر الانقسام الطائفي والمذهبي لتفتيت الموقف الوطني.

التاريخ يعلمنا أن كُـلّ مشروع تحرّر يبدأ بالوحدة الداخلية، وأن النصر لا يولد في أجواء التشظي.

لقد استطاعت حركات التحرّر في الجزائر وفيتنام وجنوب إفريقيا أن تنتصر؛ لأَنَّها علّقت خلافاتِها أمام بوابة المعركة، وتفرغت لمواجهة العدوّ الخارجي حتى تحقّقت السيادة.

 

تاريخ النضال.. ذاكرة الشعوب الحية

منذ فجر التاريخ، كانت الشعوب الحرة تعرف أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع انتزاعًا.

في ثورات اليمن ضد الاستعمار البريطاني، وفي انتفاضات فلسطين منذ ثورة البراق حتى الانتفاضة الكبرى، كان العدوّ دائمًا هو نفسه: مشروع استعماري استيطاني يريد محو الهوية والسيطرة على الأرض والثروة والقرار.

وفي كُـلّ مرة، كان الثمن دماءً زكية، وكان الرد إرادَة صلبة لا تلين.

اليوم، نحن أبناء هذا الإرث النضالي، وعلينا أن نكون أوفياء لدماء الشهداء، وألا نفرط في الأمانة التي حملوها.

 

اليقين أقوى من اليأس

المعركة طويلة، وربما الطريق محفوف بالتضحيات، لكن اليقين أقوى من اليأس.

ما دام في الأُمَّــة أحرار، ستظل راية التحرير مرفوعة، من صنعاء إلى غزة، ومن عدن إلى القدس، ومن صعدة إلى جنين.

هناك خيط واحد يربط المقاومة والصمود، خط يبدأ من الإيمان بعدالة القضية، ويمر عبر الوحدة الداخلية، وينتهي بالنصر المؤزر مهما طال الزمن.

إن مواجهة العدوان الخارجي تبدأ أولًا بترميم البيت الداخلي، ثم بمد الجسور بين جبهات الصمود في كُـلّ أرجاء الوطن العربي والإسلامي.

فالحرية لا تعرف جغرافيا، والكرامة لا تقبل التجزئة، والنصر لا يقبل القسمة.