في اللحظة التي يستعيد فيها اليمنيون الذكرى الثامنة والخمسين لعيد الجلاء، تخرج من ذاكرة هذا الشعب أصوات الفجر الذي أشرقت فيه عدن حرة بعد عقود من الاستعمار البريطاني، يومها لم يكن اليمنيون يحتفلون بورقة اتّفاق ولا ببيان سياسي، بل كانوا يصنعون استقلالًا انتزعوه من قلب النار بدماء الشهداء وإصرار الثوار وإرادَة شعب قرّر أَلَّا يعيشَ منكسرًا ولا خاضعًا.
لكن الذكرى اليوم تأتي بطعم مختلف، بطعم مر وحارق؛ لأَنَّ اليمن الذي طرد المستعمر الأول يقف الآن أمام استعمار جديد أكثر وقاحة وأكثر دهاء، استعمار يغير جلده وأسماءه لكنه يحتفظ بذات الهدف، وهو السيطرة على الأرض والثروة والموقع، وبنفس العقلية التي كانت تحكم ضابط الميناء في عدن قبل نصف قرن.
الفرق الوحيد أن الاحتلال الجديد جاء بوجوه يمنية صنعتها أنظمة عميلة ومكونات نفعية غذت الصراعات والتقسيم والارتهان حتى تحولت إلى أدوات في يد الطامعين.
حضرموت التي كانت خزائن اليمن وجسر حضارته ونهضته تتحول اليوم إلى ساحة مفتوحة يتقاسمها المتصارعون على الموانئ وعلى النفط وعلى البحر، قوات تتنازع النفوذ وكل منها تحمل مشروعًا خارجيًّا يخدم من يمولها لا من ينتمي إليها، بينما المواطن يعيش بين الخوف وفقدان الخدمات وتبدل مربعات السيطرة وكأن المحافظة أرض تجارب لمراكز قرار لا ترى في اليمني سوى مادة للاختبار.
وفي المخاء المشهد أكثر فجاجةً، الميناء الذي كان شريان التجارة اليمنية صار قاعدة نفوذ مغلقة لا تخضع لسلطة وطنية ولا لإرادَة شعب، بل لخريطة مصالح مرسومة من وراء الحدود، معارك وانقسامات وأدوات تتبدل حسب رغبة المشغلين والنتيجة واحدة: استنزاف الأرض وتحويل الساحل الغربي إلى منصة لخدمة مشاريع ليست يمنية ولا تحمل لليمن خيرًا.
والحال ذاته في عدن، مدينة الثورة والثوار وعصبُ الاقتصاد اليمني، منارة التحرّر التي تحولت اليوم إلى مربعات أمنية متناحرة تدار بتوجيه المحتلّ، نفس عدن التي ألهمت حركات التحرّر في المنطقة صارت مسرحًا للكراهية والعنصرية والمناطقية ومحطة مفتوحة لتمرير أجندة خارجية تقطع أوصال المدينة وتخنق روحها الوطنية.
ثم تأتي سقطرى، الجوهرة النادرة، درة بحر العرب، الجزيرة التي تحتضن شجرة دم الأخوين التي لا يوجد مثلها في العالم، الجزيرة التي يتغنى بها علماء البيئة والسياحة حول العالم، تحولت إلى محمية مفتوحة للاحتلال، عبث بالأشجار النادرة وصيد جائر وتغيير الهُوية وحتى تغيير رقم الاتصال، كُـلّ ذلك تحت حماية دولية ومظلة شرعية مزيفة سمحت بإدخَال اليمن تحت الوصاية ابتداء من تعطيل الدستور إلى المبادرة الخليجية إلى تحصين القتلة إلى وضع البلد تحت البند السابع واستمرار الحرب السياسية والعسكرية والاقتصادية على الشعب اليمني عشر سنوات كاملة.
لكن ما يجري اليوم كشف كُـلّ شيء، أسقط الأقنعة، فضح المشاريع الاستعمارية الجديدة وجعل الحقيقة واضحة لمن كان مخدوعًا، أما الأحرار فلم ينتظروا هذه اللحظة، قالوها من اليوم الأول: نحن نرفض الوصاية ونرفض الاحتلال، ودفعوا ثمن موقفهم دمًا وحصارًا وتجويعًا ولا زالوا يدفعون ولن يتوقفوا حتى يتحرّر آخر شبر من تراب هذا الوطن؛ لأَنَّهم يدركون أن الحرية لا تقبل القسمة وأن الاستقلال لا يكتمل بنصف سيادة وأن الطريق إلى العزة ليس مفروشًا بالورود.
هنا تصبح ذكرى الجلاء الثامنة والخمسين ليست مُجَـرّد محطة احتفال، بل نداء صريح لليقظة، معنى الاستقلال الحقيقي ليس رفع علم ولا تغيير اسم شارع، بل قدرة شعب على امتلاك قراره وحماية أرضه وصون ثرواته ورفض كُـلّ يد تمتد لتقوده أَو تتحكم به تحت أي شعار كان.
اليمن يقف اليوم أمام مفترق طرق، إما أن يستعيد الروح التي أسقطت الاستعمار الأول، وإما أن يسمح لاحتلال جديد أن يكتب مستقبله وقواعد نفوذه تحت لافتة دعم مزعوم وتحالفات مشروخة وشرعية مستوردة.
من حضرموت إلى المخاء إلى عدن إلى سقطرى تصرخ الأرض أن الاستقلال لم يكتمل وأن الجلاء الحقيقي يبدأ فقط عندما تعود السيادة كاملة وعندما تتساقط كُـلّ المليشيات والولاءات الخارجية وعندما يصبح القرار يمنيًّا خالصًا تصنعه الإرادَة الوطنية الحرة لا أجندات مشغلي الفنادق أَو غرف العمليات الأجنبية.
وفي النهاية تبقى الذكرى نداءً للشعوب التي تعرف أن التاريخَ لا يرحم وأن الأرض لا تحمي نفسها وأن من يفرط بشبر يتنازل لاحقًا عن وطن، وأن اليمن الذي صنع مجده بأيدي أبنائه قادر أن يستعيد حريته وسيادته إذَا التفتت البُوصلة نحو الوطن فقط.