في وداعِ القارعِ باب الله.. والعابد الأواه السيد العلامة حمود بن عباس المؤيد.. (1)
موقع أنصار الله || مقالات || حمود عبدالله الأهنومي
خلال 2002م تقريباً كنتُ مع والدي وبعض الزملاء نزورُ مراقد أعلام اليمن من أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم الأبرار، وكنتُ رئيسَ الوفدِ الزائر، ولخبرة الوالد – أطال الله عمره – شَغَل منصب مستشار الرئيس للشؤون الجغرافية والتأريخية والأنسابية، وكان لدينا مسؤولٌ مالي هو الأستاذ أحمد الأهنومي، ومسؤولٌ إعلامي هو الزميل الرائع محمد إسماعيل النعمي، ورغم أن هذه كانت حكومة بلا شعب فإن مسؤولها الإعلامي الذي كان هو (الناطق الرسمي)، كان يُتْحِفُنا بتصريحاته المرتَجَلة والجميلة، لكنه فجأة صمَتَ صمت الحجارة الصماء ولم يشأ أن ينبِس ببنت شفة؛ ذلك حينما أفحَمَتْه جلالة مقام السيد العلامة العابد الزاهد حمود بن عباس المؤيد، الأمر الذي جعله يستحق وصف (الصامت الرسمي) على حدِّ قول أستاذنا القدير عبدالحفيظ الخزان حينها.
في ذلك المقام في جامع النهرين.. كنا قد جدَّدنا العهد بسيدي العالم والعابد والزاهد، الذي كان لا يفتأ لحظة واحدة عن الترحيب بزواره ومحبيه وتلامذته والمستفتين الذين يتقاطرون بشكل شبه يومي على هذا المسجد للحصول على فتوى السيد العلامة حمود بن عباس المؤيد، والتي كان كثير منها بمثابةِ حكمٍ نهائيٍّ وبات، ينتظره المختلفون ليضعوا به حدا فاصلا لاختلافٍ كان قد عصف بهم، وربما بلغت قوة فتاواه في التأثير والمقبولية الطوعية أقوى من أحكام المحكمة العليا ذاتها.
شاءت الصدفةُ أن يحطَّ الرَّحْل برجلٍ عراقي بصري، لم أعُد أتذكَّر اسمَه، جاء للسلام، وبذل التحية والإكرام، ويتذكر والدي العزيز حواراً لطيفاً دار بينه وبين سيدي الراحل الحبيب العلامة المؤيد، حيث رحّب به الراحل ترحيب العالِم اليمني المعتزِّ بأرضه، وبصنعانيته، وذهب ليشرح له صنعاء، وكم حوت من كُلّ فن، مستدلا بأن في صنعاء بضعا وعشرين نوعا من أجود أنواع العنب في العالَم، وسائلا عن (تمر البصرة) هل يبلغ عددُ أنواعه مبلغ العنب الصنعاني، فرد البصري سلام بصرته، وحياه بأكثر من أربعين نوعا من أنواع التمر فيها، لكن الحقيقة أن لا البصرة حافظت على (تمرها)، ولا صنعاء حافظت على (عنبها)، في الوقت الذي ظل سيدي المولى الراحل هو هو حتى لقي الله عز وجل.
يعرف معظمُ الناس سيدي المولى الراحل أنه ذاك المفتي الواعظ، الذي عند فتاواه تجثو الركب، وأنه العالم الجهبذ، والزاهد العابد، الذي ركض الدنيا، وقد جاءته مَخطومة مُذعِنة، وحلالا زُلالا، مما ورثه من آبائه؛ لكنهم لا يعرفون كم كان حبه لبلاده اليمن، وكم كان اعتزازه بـ(صنعانيته) المعبِّرة عن نبض الهُويَّة اليمنية الإيمانية، وكم كان يرى في كُلّ منتجات بلاده جمالاً ونضارة وجلالة وحضارة.
ذلك وجه وضاء واحد من وجوه سيدي المولى الراحل الجميلة، وجهٌ علق في ذهني على هامش قضية عابرة، أمسكت بخيوطها ذاكرةُ والدي الذي ما فتئ يذكِّرنا بالحادثة والحوار، وكم هي الوجوه الجميلة الأخرى، وكم هي الأبعاد الرائعة التي كان عليها، لا يعرفها إلا من قاده الحظ أَوْ القرب العائلي أَوْ التعليمي أَوْ التربوي إلى جواره الكريم، وفنائه الرحب.
لستُ الوحيدَ الذي انبهر بإخلاصه واستغراق ذاته في الله وما يقرِّب إليه منذ أن رأته عيناي في إحدى فعاليات دورتنا الصيفية في عام 1992م في جامع النهرين، إلى مواعظه الكثيرة والمؤثرة التي حضرناها، وسمعناها في أعوام لاحقة، في جامع الشوكاني، حتى أثقل به كبر العمر عن الحضور، ومنعته الشيخوخة عن الخطابة والإمامة.
إن في رحيل سيدي المولى لعبرة وآية ونذيرا لنا نحن الذين ندعي أننا نسلك ذلك المسلك ؛ ولأن الوقوف على بعض الملامح والدروس التي يمكن استفادتها من سيرته العطرة أمرا ذا أهمية في ظل وضعية خاصة بنا بعد رحيل عمالقة العلم وبقائنا نحن المتعالمين، الذين لا يجيدون التعامل مع بعضهم، فإنني قد آثرت أن أقف مليا حول هذه الشخصية الكريمة، لعلَّ في هذا الوقوف ما يساعدني أنا أولا وآخرين ثانيا على معالجة بعض الإشكالات الحركية والأخلاقية والسلوكية والدعوية التي بالتأكيد كان سيدي المولى الراحل قد تجاوزها، ولم تكلفه الكثيرَ من العناء.
دراسته
نشأ سيدي المولى الراحل في بيئة علمية تقدّس العلم، وتعظِّم الهجرة لطلبه، وترى الفضل كلَّ الفضل في التقلُّب بين ثنايا شظف العيش من أجله وفي سبيله، كان والده السيد العلامة عباس بن عبدالله المؤيد عامل الدولة على منطقة حبور وغربان، من محافظة عمران، وكان رجل دولة من الطراز الأول، حتى قيل في المثل باللهجة الدارجة: (قطع الراس ولا أمر عباس)، غير أن هذا الحاكم الحازم كان ابن زمنه الجميل، ورضيع ثقافته البناءة، فلم يشأْ لأولاده أن يرِثوا مهابة الدولة وجلالة العلم بعقولٍ فارغة من المحتوى المقبول، وأدمغةٍ خاوية على عروشها؛ لذا أرسل بهم إلى هجر العلم النائية عن الدار، والبعيدة القرار، لتعلم القرآن والعلوم الشرعية.
في 1434هـ يقلِّب سيدي المولى الراحل عن جواب لما أثارته مجلة (ثقافتنا)، من بين ركام أشجانه وشجونه عن تلك المرحلة، فإذا به يكشف من غير عمد، أن مرحلة طلبه للعلم كانت مليئة بالمصاعب، والشظف، والغربة، والمشاق، وأنه – وهو ابن عامل دولة – كان يعاني الأمرّين، من انعدام الكتاب، وقلة ذات اليد، فكان ذاك العصاميَّ الهُمام، الذي يَقتطع بعضا من أوقاته المكتظة بالنشاط والتحصيل، في انتساخ الكتب، ليوفِّر لنفسه أولا الكتاب الذي يقرأ فيه دروسه، ولكي يكسب ثانيا من وراء كلِّ كراسة ينتسخها 8 بقش، كان يُواجِه بها بعض أحواله، ويلبِّي شيئا من احتياجات تعلّمه.
تضم قائمة شيوخه العشرات من أعلام تلك المرحلة، كما تضم قائمة مقروءاته الكثير من الكتب في مختلف المجالات العلمية والثقافية، ومن بينها كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري؛ وفي هذا إشارة إلى خطورة مسلكنا اليوم في هذه المرحلة، وتقاعسنا عن طلب العلم، وعن نشره، والاهتمام به، وتبين كم من المسافات الشاسعة الذهنية والتوعوية والثقافية قد طوّحت بنا عن تنكُّب هذه الجادَّة المحمودة التي توارثها هؤلاء السلف كابرا عن كابر، فصرنا (رؤساء جُهالا يُسْألون فيُفتون، فيَضلون ويُضلون) على حد عبارة أحد أحاديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، إلا مَنْ عصم الله، مقارنة بما كان عليه أولئك السلف الكرام.
ولستُ بحاجة إلى سَوقِ القصص وذكر الحوادث التي حث فيها سيدي المولى الراحل طلاب العلم على الاهتمام بطلب العلم، واعتباره “أفضلَ وظيفة تحت أديم السماء”، فمواعظه الكثيرة تفيض بهذه الفكرة فيضانا، ولا يختلف حولها اثنان.
مواعظه وإرشاده
في التسعينيات من القرن الماضي وفي العقد الأول من القرن الجاري الواحد والعشرين طغت موجات الفكر الوهابي والثقافة السلفية المتعصِّبة على صنعاء وغيرها من مدن اليمن، بدعمٍ وتشجيعٍ وتمويلٍ من سلطة صنعاء، وأسيادها في الرياض، وانعكس هذا فرزا طائفيا ومذهبيا بشكل حاد داخل المجتمع، وبات حديث المساجد هو (الضم والسربلة)، وكان سَجْنُ من يقرأ (آية الكرسي) بعد الصلاة جهرا عقوبة من عقوبات أقسام شرطة مذبح في صنعاء، وكذلك عزل مَن أذن بـ(حي على خير العمل)، وغير ذلك، وفي المقابل بدأت تظهر مراكزُ تحاول الانتصار لمذهب أهل البيت عليهم السلام والدفاع عنه في مواجهة هجمة شرسة وعنيفة وضارية، فبدأ الانشداد المذهبي ينعكِس على المساجد وعلى فرز مرتاديها.
غير أن (جامع الشوكاني) كان أندر المساجد التي يؤمها الناس على اختلاف مذاهبهم، وترى فيه المنتسبين إلى جميع المذاهب، والتيّارات الدينية والاجتماعية والثقافية؛ ذلك أن خطاب ومواعظ سيدي المولى الراحل كانت جامعة للقلوب، عاصمة من العيوب، و”من القلب وإلى القلب”، استطاعت أن تكسر القيود المفتعلة من قبل السلطة وأدواتها، وأن تقدِّم نموذجا مختلفا ورائدا للعالِم المسلِم، والخطيب المخلص في عمله لله، الذي يتحرك في مسار الشد إلى الله، وتعزيز حالة الارتباط به تعالى، والثقة فيه، والنظر إليه، والإخلاص له.
لا أحد ينكر لذة تلك المواعظ، ولا أحد ينسى تقاطر الجماعات الكثيرة والكثيفة من أماكن بعيدة لسماعها في يوم الجمعة، وللتبرك بزيارة شيخا الجليل الوقور، الذي لا تشعُر وأنت تقف بين يديه إلا أنك أمام زين العابدين، أَوْ ولدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن أَوْ الحسين عليهم السلام.
وشتان بين مسجد كان يدعو مصليه إلى الإخلاص لله وذكر الله في كُلّ أوان وحين، وإلى الأخلاق الفاضلة، والطرائق المحمودة، ومسجدٍ يلعن منبرُه مخالفيه، ويوزِّع التهم، والألقاب والشتائم على كُلّ من لا يروق له، بل ويحرِّض على علماء يمنيين ويفتري عليهم المعائبَ والتشويه، ويعمل على تمكين النفوذ الوهابي في اليمن من ذلك الحين، ليخبِرنا الزمانُ أن ذلك العمل كان يراد منه التهيئة للقبول بهذه الحالة القائمة من العدوان الهمجي الإجرامي.
وللحديث بقية..