في وداع القارع باب الله .. والعابد الأواه السيد العلامة حمود بن عباس المؤيد (2)
موقع أنصار الله || مقالات || حمود عبدالله الأهنومي
في هذه الحلقة يحلو الحديث عن بعض مآثر هذا القارع على الله بابَه، والراحل إليه، والتي سأتناولها في هذه العناوين، لعل الله ينفعني والقراء الأعزاء بها.
الحاااااصل .. في خشية الله
انفجرتُ بالبكاء والضحك في آنٍ وأنا أشاهِد مقطعا على اليوتيوب لعالمَيْنِ جليلين، من أبرز علماء العترة الطاهرة في اليمن، يسألُهما تلميذهما المُدِلُّ عليهما أثناء تصويره لهما، عن ما بلغاه من العمر، فيجيبانه ووجوههما تتلألا بشرا ونورا وبهاء وجلالا، كانت أسئلة ذلك المصوِّر (وهو الأستاذ قحطان الآنسي) تخفي وراءها محبتَه الاستكثارَ في السؤال، على غرار قول الشاعر:
وكثيرٌ من السؤالِ اشتياقٌ …. وكثيرٌ من ردِّه تعليلُ
ولما استخلص السائل أن عمر سيدي الراحل كان ذلك الحين 94 عاما، انطلقَتْ ذروة الإثارة من فم سيدي الراحل بجوابه الختامي، بقوله: (الحااااصل)، أي العمر على هذا النحو هو الحاصل، مرافقة لضِحكةٍ كانت أجمل من الصبح إذا تنفس.
لم يكن هناك أجمل من مفاكهة سيدي المولى الراحل إلا ابتساماته النادرة، ولم يُضَارِع جِدّيته الرصينة سوى يقينِه بعظم الباري تعالى في وعيه وقلبه وعقله؛ ذلك أن أيَّ مُتحدِّثٍ منا معه كان يشعر أن نصف الرجل ونصف وعيه ونصف عقله ونصف روحه فقط كانت حاضرة في مقام الدنيا، لكنَّ بقيتَه كانت تحلِّق في عالَمٍ آخَر، كانت ترفرف في دار أخرى، كانت تأنس لحضورٍ آخر، لقد كان مستغْرَقا في تعظيم الله وتوقيره وإجلاله وخشيته؛ ولهذا لم يكن لديه استعداد للحضور في عالم الدنيا ولو بشيء قليل، أو بمتاع بسيط.
وعلى جلالة قدره المنيف، وبهاء محياه الوضاء، وسيماه القدسية الزاهية، لا تستطيع أن تجد تفسيرا لنظرات ذلك الشيخ الوقور، وطبيعة علاقته بالآخرين، سوى أنه ذلك الرجل الذي كان يحضر قومَه منه لسانُه الرطب بذكر الله والعظة والتذكير، وقلبُه المفعم بالمحبة والإخلاص، أما فكره وآماله وطموحاته ومستقبله فقد كان في مكان آخر، إنه ليس سوى الآخرة وما أعد الله فيها من نعيم للمطيعين، ومن عذاب مقيمٍ للعاصين، فهو والجنة كمن قد رآها، فهو منعَّمٌ فيها، وهو والنار كمن قد رآها، فهو فيها معذّب، كما وصف أمير المؤمنين عليه السلام المتقين.
لقد استغرق حب الله وتعظيمه والانشداد إليه جميع تفاصيل حياته، ولهذا كان حضور الله في قلبه، ووعيه، وتحركه، وعظاته، وعلمه، وتعليمه، وعلاقاته، بشكلٍ لم يدع للدنيا فيها نقيرا ولا قطميرا.
لا تكاد خطبة من خطبه، ولا موعظة من عظاته، ولا مجلس من مجالسه، تخلو من نصيحته للحاضرين إياه بأن “لا تنسوا ذكر الله”، ودعوتهم إلى ذكر الله، وأن يكون الله حاضرا بعمق في وعيهم، وفكرهم، وأرواحهم.
“أن لا ننسى الله أبدا أبدا”، “لا ننسى الله طرفة عين”، “لا في سفر ولا في حضر ولا في ليل ولا نهار”، “لا تلهوا عن ذكر الله”، “اذكروا الله كثيرا في الليل وفي النهار وفي الأسحار وفي السر والإعلان”، هذه العبارات وما شاكلها هي العبارات التي كان يسمعها المستمعون لمواعظه، وهي التي كانت تتكرر على لسان الرجل في كثير من المواقف، لسانه الذي تعلَّقت أنياطه بمحبةِ الله وتعظيمِه وتذكُّرِه الدائم والمستمر.
قرع الباب وانتظار الجواب
وإن أعجبْ فمن إيصائه الدائم لنا معشرَ طلاب العلم أن نقرعَ باب الله في كل أوان وحين، وتعجبني تلك الفلسفة الجميلة، التي تجعل المرء مسؤولا عن أعماله واتجاهاته، وأن عليه أن يبذُل جهدا ولو بقرع باب، أو دقه، وبنداء الباري، حتى تنفتح له أبواب التوفيق، والسداد، والخير، والهداية.
لم تغِبْ عنه عبارة “دُقَّ باب الله” في معظم وصاياه ونصائحه، وحين نصح طلاب علم، قال لهم: “دقوا على الله بالعلم”، وكأنه يستشعر أنه على المهتدي أن يبذل سببا في الهداية، وأن أبواب الرحمة ليست حظوظا عمياء، تصيب الخاطئ والعاثر، بل هي مسؤولية تهيِّئ لمسؤولية أعظم، وهي بابٌ لا بد من طرْقِه ليلج بك إلى أبواب أسعد وأفخم، وكأن الطرق هو إشارة المرور وكلمة سر العبور من القلوب إلى الحق تبارك وتعالى، مؤذنة بأنها على حالة من التهيؤ والاستعداد ما يجعلها منتفعة بهدايته تبارك وتعالى.
يحتفظ يوتيوب بدرسٍ مرئي، حريٌّ بأي طالب علم أن يطَّلِع عليه، ليعرف حرص سيدي الراحل رضوان الله عليه على العلم، وعلى الإفادة، حتى وقد أنضاه الدهر بحدثانه، وكان فيه ينصح حيَّ شيخنا العلامة الشهيد الدكتور المرتضى المحطوري، والشيخ العالم الدكتور محمود ممدوح المصري، والسيد العلامة أحمد بن لطف الديلمي، في زيارتهم له في عام 1934م، أي قبل أربع سنوات، بتلك النصيحة التي لم تخل منها موعظة ولا خطبة، إنها الدق على باب الله، وأنه الكريم الذي لا يرد من دقَّ بابه، وفي سياق تلك النصيحة أورد سلام الله عليه، شطر بيت علِق في ذاكرته التي أثخنتها الأيامُ العتاق، والسنون الطوال، وهو: (فمَنْ دقَّ باب .. كريمٍ فتَحْ)، ولما أعاد شيخنا المحطوري ذلك البيت مع السابق له، بقوله:
ولُذْ بالمتاب .. أمام الذهابْ
فمن دقَّ باب .. كريمٍ فتح
إذا بسيدي الراحل سلامُ الله عليه يتلفَّتُ تلفُّتَ المحتاج، ويشتاق اشتياق الولهان، لدواة وقرطاس، ليستكتب ذلك البيت؛ لكي يتيسر له حفظه وهو صاحب الذهن المكدود بوعثاء السفر في طريق الزمان الطويل والشاق.
يا ألله .. ما أحرصَ هذا الإنسان على العلم، لا بل ما أكثرَ انشغالَه بنفسه عما سواه، وما أكثر تحليق ذاته بعالَم القُدس، وما أجملَ أدبَه في حضرة مولاه الباري الخالق، وما أكثرَ حثَّه على التحرُّك بفاعلية نحو الله عز وجل؛ لهذا كان يوصي بطَرْقِ وقرعِ باب الله الكريم، والمتَّعظ بحقٍّ يعي ماذا يعني أن تدُقَّ بابَ كريمٍ عظيمٍ غنيٍّ، ومَنْ شأنُه هذا لا يمكن أن يعود قاصدُه خاوي الوفاض.
وهل مرت على مسمع أحدنا موعظة لم يكرر فيها سلام الله عليه حثه على قرع باب ذلكم الكريم تبارك وتعالى.
كم ردّد بصوته العذب على مسامعنا:
إقرعِ الباب ونادي .. يا رفيقا بالعباد
أنا عبدٌ وابن عبدٍ .. وإلى الحفرة غادي
ليس لي زادٌ ولكن حسن ظني فيك زادي
زادنا أيضا .. حسن الظن
إن فلسفة (قرْع باب الكريم) التي ظلَّ سيدي الراحل – وهو المتعلق بأهداب الله، والواقف خلف بابه دوما – يُشنِّف بها الأسماع في مواعظه، تخفي بقدر ما تُظهِر حسنَ ظن ذلك العابد الزاهد بالله تعالى، وأنه كان شديد الخشية لله، في الوقت الذي كان فيه عظيم الرجاء له تعالى، وفي تلك المعادلة الكريمة فاز الأولياء الصالحون، وحلَّق الأنبياء والمرسلون.
حسنُ ظنه بالله تعالى، وانقطاعُه إليه، شغَلَه عن هموم الدنيا، وعلائق العباد، وآفات المشاحنات، وأبعده تماما عن حالة النزاع والخلاف مع أي شخص آخر في هذا العالَم، بل وذهب به بعيدا عن البحث عن عيوب الآخرين، وسوء الظن بهم؛ لا بل كان بإحسانِه الجزيل والواسع لعامة الناس وخاصتهم إنما يتحرك في سَوْحِ الكريم وفي فنائه الخَصْب؛ لكي يسعد برضاه، ويتجمَّل بالقُرب منه، ويحلو مقامُه لديه.
أجمع الواصفون والمتحدثون أنه سلام الله عليه كان جوادا كريما شجاعا، فقلتُ: تلك صفاتُ من أحسن الظن بالله تعالى، ونعوتُ “مَنْ تيقّن بالخلَف فجاد بالعطية”، ألم يقُلْ جدُّه أمير المؤمنين عليه السلام: “إنّ البخل و الجبن و الحرص غرائزُ شتّى، يجمعُها سوءُ الظّنّ باللّه”.
ذات مرة طلب من أحد أبنائه أن يحمِل حقيبتين كبريين ليوصِلهما إلى حيِّ أخيه السيد العالم عبدالله بن عباس المؤيد، وكان ابنه لا يدري ما فيهما، لكنه فوجئ أنهما مكتظتان بالمال، وفوجِئ أن أباه سيدي الراحل يطلب من أخيه توزيعهما على المحتاجين والفقراء، ولما توسل إليه ابنُه المحتاج أن يعطيَه شيئا منهما، بشَّ في وجهه، وقال له: “الذي خلقك سيرزقك .. هذا للفقراء”.
ولما رأيتُ الجماهير التي تدفقت في تشييعه .. سألت رفيقا لي: مَنْ مِنْ هذه الجماهير أحبّ سيدي الراحل لأنه أكسبه شيئا ماديا، أو أمّل فيه خيرا معجّلا؟ وهل تظن أن كل هؤلاء كان سيدي الراحل قد أغدق عليهم النوال، فأحبوه لما في يده؟
بالطبع لا أحد .. لأن موته كان ينبغي أن يكون نهاية تاريخ كسَبَة المال، لا بل إن جميعهم جاؤوا حبا خالصا لله ومن أجله؛ لأنه الذي أحبَّ الله وأقبل عليه دون كلِّ ما سواه، فزرع حبه في قلوب عباده، وأنبت احترامه في وعي خلائقه، وهكذا اللهُ من وجَّه كلّ همه إليه .. سخر له القلوب، وبرَّأه من العيوب.
وبعد هذا ألا يجدر بنا معاشر المتحرِّكين في حقل الدعوة والإرشاد والجهاد أن نتخلَّص من أسوأ الأدواء التي تعصف بمجتمعاتنا، وتمزق ثقتنا ببعضنا، وتجعل الأعمال والنشاطات شذر مذر، إنه سوء الظن بالآخرين، الذي يعبِّر في كثير من موارده عن سوء الظن بالله تعالى، وعن نقصانٍ في أخلاق الأخوة، وفوضى في سيماء الصداقة، وتلكؤٍ في براهين العمل على أساس الأمة الواحدة.
بره بوالديه
والدان كبيران تقدَّم بهما العمر، وبرّحت بهما حوادثُ الزمان، شاء الله أن يبتليَهما بالضعف والمرض والكبر في آنٍ واحد، ليبلوهما أيهما أكثر صبرا، وليبلو ولدهما أيضا كيف يكون برا ووفاء وتجمُّلا وتحمُّلا.
ولنتصور والدا ذا جثة كبيرة، قد حبسه حابسُ الضَّعفِ في زاويةِ غُرفةٍ في البيت، لا يسطيع حراكا ولا انتقالا، حتى إلى بيت الخلاء، ثم تغادره ذاكرته، فلا يميز بين الأشياء، وهناك في الجانب الآخر في زاوية من زوايا ذلك البيت أمٌّ تجعَّد جلدها، وتقحَّف جسَدُها، وأُقعِدَ جسَمُها، وابتُلِيَتْ بمرضٍ عصبي، فلا تستطيع تحريك جسدها، حتى من جانب إلى جانب آخر، فإذا هي في حالةٍ هي أحوج ما تكون إلى المساعدة.
وهناك ولدٌ لهما، قد شُغِف بطلب العلم، وهو الضنين على وقته الثمين، الذي نذره لطلب العلم وتحصيله، وملاحقة الشيوخ البارزين، لكن حال أبويه مجتمعين كان ذلك الحال.
لقد كان سيدي المولى الراحل ذاكم الولد، الولد البار الذي ينام ليلَه قائما قاعدا، لا يبارِح زاوية أمه إلا على صوت أبيه، ولا يصحو من غفوة إلا على منبِّهه الذاتي في الفينة بعد الأخرى، ليحمل جسَدَ والده الضخم على جسمه النحيل إلى بيت الخلاء، وما إن يُعِيده مكانه حتى يرى أن قد حان الوقتُ لتقليب جسد أمه من يمنتها إلى يسرتها، وبينما هو يُكْمِل إطعام أمه لُقمة لُقمة، إذا به يتحرَّكُ لإطعام أبيه بنفس الطريقة، وتمضي السنون به وبهما على ذلك النحو، من غير برَم ولا ضجر، ولا تأفُّف ولا تعفُّف.
هل أجد نصيحة أستخلصها من هذا الدرس العظيم لمعاشر الأبناء والقراء الأعزاء إلا ما ختم به سيدي الراحل من تذكُّره لتلك الحادثة، وتعليلِه ذلك الصبر وذلك البر، وهو قوله سلام الله عليه: “الذي يشتي الجنة (سلعة الله الغالية) ما بِلّا يصبِر”.
أيها القوم:
“الذي يشتي الجنة ما بلّا يصبِر”، والسلام.