حملة الردّة إلى سوريا: سياسة احتواء بعناوين اقتصادية
|| صحافة عربية ودولية || محمد الحسيني/ العهد
العالم كلّه، أو معظمه حتى اليوم، يتجهز لشدّ الرحال إلى سوريا. وحديث الكراهية الذي يعود إلى ثماني سنوات خلت وما قبلها، تحوّل اليوم إلى حديث مودّة وتقدير مفعم بمشاعر الوطنية والانتماء القومي والعروبي. ومن كان يطالب بالأمس برأس الرئيس السوري بشار الأسد يبدي قناعته اليوم أن سوريا الأسد كانت وما زالت حجر الرحى في القضايا العربية، وأنها قبلة الاتجاهات السياسية والدبلوماسية في المنطقة والعالم.
العالم – مقالات وتحليلات
فهل الانتصار الذي أنجزه معسكر الممانعة في سوريا مقابل هزيمة معسكر الاعتدال العربي هو السبب في انقلاب حالة العداء إلى حالة الوفاق والتلاقي، أم أن الحراك الإعماري – الاستثماري الضخم، الذي تترقّبه الشركات الكبرى في سوريا بعد استقرارها، فرض نفسه كواقع دفع الدول العربية والغربية للركون إلى معادلة جديدة تجمع دمشق عناصر تشكيلها وتتحكّم بمعطياتها ومفاصلها، أم أن كل ما يجري لا يعدو كونه مخططاً جديداً أو تغييراً تكتيكياً في قواعد اللعبة؟!
ردّة تأخرت 4 سنوات
ما يجري اليوم كان من المفترض أن يجد ترجمته على الأرض قبل نحو أربع سنوات، حين كانت المعادلة تقضي بتهدئة الوضع في سوريا بشكل تدريجي، والعمل على إعادة الأمور إلى نصابها وصولاً إلى وقف الحرب فيها، وذلك بعد أن فشلت كل السبل في إسقاط الرئيس الأسد فضلاً عن الخوف من التهديد الذي بدأت تشكّله التنظيمات الإرهابية على الاستقرار في الدول العربية والغربية على حد سواء، ما دفع الملك السعودي السابق عبد الله بن عبد العزيز إلى التحذير من مخاطر تغوّل هذه الجماعات الإرهابية، واستجاب هذا الاتجاه لتحوّل السياسة الأمريكية في عهد باراك أوباما نحو التخلّص من هذه الجماعات تحت مظلة “مكافحة الإرهاب”، وانطلقت الرياض آنذاك في عملية “تطهير” واسعة شملت الأجهزة العسكرية والأمنية وتنظيم حملات مداهمة لأوكار تنظيم “داعش” والقبض على خلاياها اليقظة والنائمة في السعودية.
ترامب وابن سلمان أعادا إشعال فتيل النار
ولكن مجيء دونالد ترامب على رأس الإدارة الأمريكية وموت الملك عبد الله وتسلّم الملك سلمان الحكم في السعودية وتحكّم ابنه وولي عهده محمد بمفاصل السلطة أعاد الأمور إلى المربع الأول، لا بل شهدت الأوضاع تصعيداً أمنياً وعسكرياً وضغوطاً سياسية كبيرة وشاملة على سائر الملفات العربية ذات الصلة، بدءاً من افتعال الحرب على اليمن مروراً بمحاولات تخريب الوضع الداخلي في العراق وتسعير أوار الحرب في سوريا وصولاً إلى الضغط المباشر على لبنان. فقد دفع فائض القوة، الذي شعر به ابن سلمان نتيجة الغطاء الأمريكي له، إلى اعتماد سياسة الحرائق الشاملة التي تسبق عملية إعادة الترميم والبناء، وكان الهدف إرساء أنظمة جديدة في الدول العربية في المنطقة، ولا سيما تلك التي تنتهج سياسة الممانعة، وجعلها تسير في الفلك الأمريكي وتشكّل في الوقت نفسه ظهيراً للسياسة السعودية وداعمة لموقعها الريادي للعرب، وتتواءم مع ما هو مرسوم للمنطقة على مستوى الحل الشامل وما حكي عن صفقة القرن.
السعودية وسياقات الفشل
لم ينطبق حساب الحقل على حساب البيدر، فإن توالي الحوادث والمستجدّات والدخول الروسي والإيراني على خط التطوّرات العسكرية والميدانية في سوريا، ودخول حزب الله المباشر في سير العمليات الميدانية دعماً للجيش العربي السوري، كانت نتيجته أن السعودية فشلت في تحقيق أي هدف فعلي لها، فصمدت سوريا وتحوّل وجود الرئيس الأسد فيها إلى صمّام أمان، وأخفقت في تغيير المعادلات الميدانية في الحرب على اليمن، ولم تستطع أن تفرض حضورها على الساحة العراقية بعد أن نجح الجيش والحشد الشعبي في القضاء على تنظيم “داعش” وقال الشعب كلمته في اختيار نوابه وتشكيل حكومته، أما في لبنان فإن الفشل الأكبر للسعودية تمثّل في الالتفاف السياسي على القرار الوطني رفضاً للتدخل السعودي الهادف إلى تخريب الاستقرار الداخلي.
مبادرة الاحتواء
سلسلة الإخفاقات هذه دفعت الإدارة الأمريكية – والسعودية التي تمثّل واجهتها التنفيذية – إلى اعتماد سياسة جديدة ومختلفة عبر اقتباس المسعى التركي – القطري الذي بدأ مطلع العام 2012 حيث كانت نيران الفتنة تستعر وتنتشر في سوريا، وسعت الدوحة وأنقرة آنذاك إلى تسويق مبادرة تستهدف احتواء دمشق وفق مبدأ العصا والجزرة، ووضعتا الرئيس الأسد أمام الخراب أو الانصياع، مع ما يستتبع هذا الانصياع من امتيازات اقتصادية ومالية واستقرار أمني، ولكن اليوم السياسة تبدّلت والموازين تغيّرت والمعادلات انقلبت وباتت الأمور تستلزم أداءً جديداً، وحلّت السعودية والإمارات مكان تركيا وقطر في تنفيذ “مبادرة الاحتواء”، التي تضع في رأس أهدافها انتزاع سوريا من الحضن الإيراني وإعادتها إلى الحظيرة العربية على المستويين السياسي والدبلوماسي، أما في تفاصيلها فتحتوي على سلسلة من المشاريع الاقتصادية والتنموية والخطط الإعمارية والاستثمارية، بحيث تتحوّل سوريا إلى ورشة إقليمية متحرّكة وحيوية، تساهم فيها الشركات العالمية الكبرى العربية والغربية، بما يحرّك العجلة الاقتصادية الراكدة حالياً في المنطقة والعالم، ولكن بموازاة هذا السعي ماذا يقول الأسد؟!.
ماذا سيفعل الأسد؟
لا يبدي الرئيس الأسد حماسة أو اندفاعاً للعراضات السياسية الكثيرة، والتي بوشر بها عملياً مع عودة الإمارات والبحرين – وما سوف يليهما في الأيام المقبلة- إلى دمشق، فما كان يجري تحت الطاولة وفي الغرف المغلقة في دمشق بدأ يخرج إلى العلن، ولذا يبدو الأسد غير متعجّل لاتخاذ أي خطوة مقابلة، فالطريق بالنسبة إليه معبّدة باتجاه واحد وتقود الجميع إلى دمشق، وملفات المشاريع الاقتصادية والإعمارية، التي تتحضّر الشركات العربية والغربية على حد سواء للمباشرة بها في سوريا تحت عنوان إعادة الإعمار، كانت وصلت إلى يديه قبل أشهر من خلال مندوبين ومبعوثين عرب وأجانب، ولا سيما من السعودية والإمارات وبريطانيا، جاؤوا إليه في عروض سخيّة تتطلّب موافقته المسبقة على السماح لهذه الشركات بالحصول على عقود استثمارية، ولم يجد نفسه في تلك الفترة مدفوعاً لإعطاء أي وعود فالكل سيأتي إليه ولو بعد حين، وعليه فإن الرئيس الأسد الذي صمد في أوان الحصار والشدّة لن يفرّط بانتصاره في أوان الرخاء وردّة العرب إلى سوريا.