الشهادة في فكر الامام علي “عليه السلام”
|| مقالات || عبدالمجيد الحوثي
أطلقت الشهادة في اللغة على:-
1- “الحضور على الواقع عند وقوعه”. ومن ثم يقال: يرى الشاهد ما لا يراه الغائب.
(ﻭﺷﻬﺪﻩ ﻛﺴﻤﻌﻪ ﺷﻬﻮﺩا ﺃﻱ ﺣﻀﺮﻩ، ﻓﻬﻮ ﺷﺎﻫﺪ، ﺟمعه ﺷﻬﻮﺩ، ﺃﻱ ﺣﻀﻮﺭ، ﻭﻫﻮ ﻓﻲ اﻷﺻﻞ ﻣﺼﺪﺭ)، وهذا كما قال تعالى: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) [سورة الكهف : 51] اي لم أحضِرهم عند خلقها حتى يكونوا شهودا عليها، وكما قال تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) [سورة البقرة : 133] اي أم كنتم حاضرين حين حضر الموت يعقوب عليه السلام
2- وتقال على معنى “أداء ونقل الواقع إلى الغير”:
(ﻭﻳﻘﺎﻝ: ﺷﻬﺪ ﻟﺰﻳﺪ ﺑﻜﺬا ﺷﻬﺎﺩﺓ، ﺃﻱ ﺃﺩﻯ ﻣﺎ ﻋﻨﺪﻩ ﻣﻦ اﻟﺸﻬﺎﺩﺓ، ﻓﻬﻮ ﺷﺎﻫﺪ)، فإن كان أداء الشهادة بحق وعلى مقتضى الواقع سميت شهادة حق كما قال تعالى : (َإِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة الزخرف : 86]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) [سورة النساء],
وان كانت بخلاف الحق والواقع سميت شهادة الزور كما قال تعالى في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [سورة الفرقان : 72].
والشهادة في القرآن الكريم اطلقت على المعاني المتقدمة، وأطلقت ايضا على معان أخر منها:
3-“اقامة الحجة وتوضيح الحق للناس ودعوتهم إليه”
حتى لا يكون للناس على الله حجة بأن يقولوا لم يدعنا أحد إلى الحق ولو دعانا لأجبنا كما قال تعالى:(رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [سورة النساء : 165]، ثم بعد إقامة الحجة يقومون بأداء الشهادة امام الله يوم القيامة بأنهم قد أقاموا الحجة على عباده.
وبهذا المعنى اطلق على الرسل صلوات الله عليهم بأنهم شهداء كما قال تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا) [سورة النساء : 41]. وكما قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا).[سورة المزمل : 15].
وبهذا المعنى ايضا أطلق على الأئمة الهداة الدعاة الى الحق من آل البيت عليهم السلام بأنهم شهداء على الناس كما قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).[سورة الحج : 78].
وبهذا المعنى أيضا سمى الله الأمة التي تقوم بدورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ) [سورة آل عمران : 110]، واطلق عليها انهم شهداء على الناس ووسمهم بالوسطية فقال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [سورة البقرة : 143].
معنى الشهادة في سبيل الله
بعد أن عرفنا معاني الشهادة في اللغة العربية والقرآن الكريم، ينبغي أن نعلم أن لفظ الشهادة في عرف الشرع قد غلب استعماله في من يقتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه وإقامة الحق.
وهو ايضا في هذا الموضع مأخوذ من إقامة الحجة والشهادة لله يوم لقائه بالدعوة للناس الى الحق “و قبولهم، أو رفضهم له”
فدم الشهيد الذي سفك في سبيل الله وروحه الطاهرة التي أزهقت في سبيل الدعوة الى الله ونصرة دينه هي أكبر شاهد على أولئك المجرمين الذين حاربوا الله ورسوله وخالفوا الحق وقتلوا الذين يأمرون بالقسط والحق من الناس كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [سورة آل عمران : 21].
فالشهادة في سبيل الله هي بذل الروح والنفس في سبيل الدعوة الى الحق وإقامة الحجة على الناس بما يقطع العذر لهم أمام الله.
و لكن من المهم جدا ان نعلم انه ليس كل من يقتل في المعركة يعتبر شهيدا ويكتب عند الله شهيدا مهما لم يكن قتاله لله في سبيل إقامة الحق والدين ملتزما بالشرع وبالتوجيهات الإلهية في أقواله وأفعاله وجميع سلوكياته؛ إذ كيف يكون شاهدا على من خالف الحق وهو لم يلتزم بالحق في اقواله وأفعاله، فلا يكفي ان يكون الإنسان تحت راية الحق أو مع قيادة محقة أو لأنه يقاتل أهل الباطل في ان يكتب عند الله من الشهداء مهما كانت تصرفاته وأعماله مخالفة للحق ولتعاليم الله سبحانه؛ ولهذا ورد في كثير من الروايات أن أناسا كانوا يقاتلون تحت راية الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم المشركين فيقتلون، فيقال: يا رسول الله، فلان شهيد، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا؛ إنه في النار في عباءة غلها)، (لا؛ إنه لا يدخل الجنة عاص).
الشهادة في فكر ونهج الإمام علي
وأما إذا جئنا الى الشهادة في فكر ونهج الإمام علي عليه السلام فإنا نرى الإمام علي عليه السلام مع ما كان عليه من صفات الفضل وخصال الخير التي تفرد بها؛ فهو :من تربى في حجر الرسول، ونما تحت اشرافه ورعايته، وهو السابق الى الاسلام؛ وأول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهو من قام الإسلام بسيفه كما قال الشاعر:
وبسيفه قامت قناة الدين
لولا سيفه ما قام منه قناه
وهو عيبة علم المصطفى؛ وباب مدينة علمه؛ وهو أخوه، ووصيه، وخليفته من بعده الى غيرها من الفضائل التي لا تحصى لا تحتويها المجلدات الكبار.
ولكن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان مع ذلك حريصاً أشد الحرص على أن لا يفوته مقام الشهادة ودرجتها العظيمة فهو من كان يتمناها في كل معركة يخوضها دفاعا عن الإسلام. بل كان يدعو ويبتهل الى ربه أن يوفقه للشهادة.
ولما مضت عدة غزوات ولم يحصل على الشهادة تقدم الى أخيه وقدوته ومثله الأعلى بالطلب أن يتقدم بالدعاء إلى ربه أن يرزقه الشهادة في سبيله.
ولما مرت عدة معارك لم ينل فيها الإمام علي عليه السلام الشهادة أخذ يعاتب حبيبه ويشكو اليه:(يا رسول الله طلبت منك ان تدعو الله لي بالشهادة وأنا أرى إخواني يستشهدون دوني)، فيرد عليه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (انها من أمامك يا علي ولكن من يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، أما انها ستخضب هذه من هذه -و اشار الى رأسه ولحيته- فكيف صبرك عندها يا علي)، فيجيب الإمام علي بتلك الروحية العظيمة التي باتت تعشق الشهادة في سبيل الله وتعرف قدرها ومنزلتها، فتعتبرها وسام شرف ودرجة رفيعة، يحمد الله الانسان ان منحه إياها، فيقول الامام علي عليه السلام مجيبا على حبيبه المصطفى: (ليس ذلك من مواطن الصبر يا رسول الله بل هو من مواطن الشكر).
هكذا عاش الامام علي عليه السلام طيلة حياته وهو يحلم بالشهادة في سبيل الله ويبذل حياته للجهاد في سبيل الله، “لا يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه”، بل كان كما قال عليه السلام: “والله لابن ابي طالب آنس بالموت من الرضيع بثدي أمه”، وهو القائل عند قتال الخوارج: “والله لأنا أشوق الى لقائهم منهم الى ديارهم”.
وقد كان من إتمام الفضل والشرف لأمير المؤمنين عليه السلام أن يرزقه الله الشهادة على يد شر الخلق والخليقة البذرة الشيطانية التي أنتجت منهج التكفير للمسلمين واستباحة دمائهم وأعراضهم، والذين اخبر الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم انهم “شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة”، فكان أمير المؤمنين هو من نال شرف قتل هؤلاء الخوارج المارقين التكفيريين في وقعة النهروان.
وعندما سمعت أم المؤمنين عائشة بقتلهم قالت من قتلهم؟؟ فقيل: علي بن ابي طالب، فقالت: أما إنه لا يمنعني ما بيني وبين علي أن أقول فيه ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمعته يقول فيهم :(هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة).
وهؤلاء الخوارج التكفيريون هم من حدثنا عنهم وعن صفاتهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: “يأتي أناس يحسنون القول ويسيئون الفعل”، “يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم”، “يحسبونه لهم وهو عليهم”، “تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وتلاوتكم عند تلاوتهم”، “يحفون شواربهم ويعفون لحاهم”، “أزرهم إلى أنصاف سوقهم”، “يحاربون اهل الاسلام ويدعون أهل الاوثان”، “طوبى لمن قاتلهم وقتلوه”، “لئن أدركتهم لأقتلنهم قتلة عاد”، “هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة”، “يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية”، “هم كلاب أهل النار”.
عندما نستمع الى هذه الاوصاف التي وصف الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بها هذه الفرقة المارقة الضالة ندرك مدى ضرر وخطر هذا الفكر التكفيري على مستقبل الأمة.
ولهذا فلا يستغرب أن يقوم هؤلاء بالتقرب إلى الله -على زعمهم- بقتل أميرالمؤمنين ويعسوب الدين، وسيد الوصيين، وقائد الغر المحجلين؛ أخي رسول رب العالمين؛ ووصيه، وخليفته من بعده، من يدور مع الحق والحق يدور معه، من هو مع القرآن والقرآن معه، من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل الرسول على تنزيله، من يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.
لا غرابة ان يقوم أشقى الخلق بالتربص لاغتيال هذه الشخصية التي انهد بمقتلها عمود الدين وتهدمت أركان اليقين وأظلمت الأرجاء واسود الفضاء.
فتربص اللعين لأمير المؤمنين سلام الله عليه وهو خارج لأداء صلاة الفجر في المسجد فضربه بسيف كان قد صقله بألف دينار وسمّه بألف دينار فشق به هامته المنيفة حتى سال الدم على لحيته الشريفة كما أخبر حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وهنا وفي هذه اللحظة نال أمير المؤمنين ما كان ينتظره بلهفة وشوق منذ أيام شبابه ولم ينله إلا وقد بلغ الثالثة والستين من عمره وعند ذلك يطلق أمير المؤمنين صرخته التي تدل على مدى ترسخ وتجذر حب الشهادة في قلبه وكيانه قائلا:(فزت ورب الكعبة).
فاز لأنه نال شرف الشهادة في سبيل الله، فاز لأنه سار على النهج القويم الذي يؤهله لأن يكون من الشهداء مع كل ما ناله من الفضل والشرف في مسيرة البذل والعطاء اللامحدود التي قضى عمره بأكمله في سبيلها فصلوات الله عليك يا أمير المؤمنين يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث الى ربك مرضي القول مشكور السعي تحمل لواء الحمد وتقف تسقي المؤمنين على حوض الرسول الأمين وجعلنا الله ممن سار على دربك واهتدى بهداك ورزقنا الشهادة في سبيله بحق محمد وآله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.