“توازن الردع الثالثة”: استئنافُ تأديب السعوديّة
|| صحافة ||
بالتزامن مع زيارة “بومبيو” للمملكة:
نسف مصافي “أرامكو” وأهداف أُخرى في منطقة “ينبع” الصناعية
بـ 12 طائرة “صمّاد3” وصاروخين مجنَّحين وبالستي “جديد” بعيد المدى
خمسة أشهر كاملة مرّت على إعلانِ مبادرة الرئيس المشَّـاط بخصوص وقف الضربات الصاروخية والجوية على السعوديّة مقابلَ وقف العدوان والحصار، وهو الإعلانُ الذي ترافق مع تحذير قائد الثورة السيّد عبد الملك بدر الدين الحوثي من “ضربات أقسى وأشد إيلاماً”، في حالِ عدم تعاطي العدوّ السعوديّ بوضوح وجدية مع المبادرة، التحذير الذي يتجسّد اليومَ بعملية تصنف الأكبر منذُ بدء العدوان، إذ استخدمت فيها 12 طائرة مسيّرة، وصاروخان مجنَّحان، وبالستي بعيد المدى يُكشف عنه للمرة الأولى.
“توازن الردع الثالثة”.. هكذا أسمتها القواتُ المسلحة، في رسالةٍ واضحةٍ باستمرار خط تصعيد الضربات الواسعة والمدروسة على المنشآت الاقتصادية الكبرى في المملكة، وهي تأتي بعدَ أكثرَ من خمسة أشهر من ضربات توازن الردع الثانية على مصافي “بقيق وخريص” في الرابع عشر من سبتمبر الفائت، والتي استندت إليها مبادرة الرئيس، كبرهان عملي على مصير الاقتصاد السعوديّ إذَا لم تستجب الرياضُ للسلام.
بالتالي فَإنَّ العمليةَ الأخيرةَ أثبتت عدة أمور على رأسها: عدم جدية المملكة في السلام، وامتلاك “صنعاء” الكثير من التقنيات والقدرات العسكريّة المتجاوزة للتوقعات، والمعدة للتعامل مع مختلفِ الظروف، وتضاعف كلفة استمرار العدوان مع مرور الوقت، وَأَيْـضاً لا ننسى السقوطَ المدوي لكل المزاعم الأمريكية السعوديّة التي أُعيد تناولها مؤخراً، من خلال تقرير الخبراء الأمميين، وجلسة مجلس الأمن، حول “استحالة” أن يكون هجوم 14 سبتمبر يمنياً.
استئناف “توازن الردع”:
في بيان العملية المعلن، أمس الجمعة، قدّم ناطقُ القوات المسلحة، العميد يحيى سريع، وبشكل موجز، العناوين العريضة للعملية: اسمها، نوعية الأسلحة المستخدمة فيها، نوعية الهدف، مشروعية الضربة.. وتحت كُـلّ عنوان تكمن العديدُ من الرسائل الهامة التي يمكن قراءتها وتتضح من خلال عدة عوامل.
فمن جهة، جاءت عودة عنوان “توازن الردع” بتحديث ثالث، بمثابة إعلان واضح عن استئناف مرحلة عسكريّة نوعية صنعت منذُ منتصف أغسطُس الماضي، تحولات جذرية قلبت الموازين العسكريّة بشكل غير مسبوق، فمنذ ضربة “حقل الشيبة” (العملية الأولى من هذه المرحلة) وُضع القلب النابض للنظام السعوديّ (أرامكو) على مهداف عمليات لم تكن السعوديّةُ قد ألفتها، ومع ضربات “بقيق” و”خريص” تأكّـدت السعوديّةُ من هذا الأمر، وأدركت أن ما تواجهه ليست ردود لحظية عشوائية، بل سلسلة من هجمات شديدة الدقة والاتقان وواسعة المفعول، وهو الأمر الذي دفع بالمسؤولين السعوديّين لإطلاق تصريحات حاولوا فيها إظهارَ تجاوب مع مبادرة الرئيس المشَّـاط.
استئناف هذه المرحلة مجدداً بعد فترة انقطاع، عبّر عن وقوع المملكة في الخطأ المعتاد في قراءة الواقع، إذ ظنت أن المرحلةَ قد انتهت، مع أَن الأشهر الخمسة الماضية كانت مليئةً بالمؤشرات والرسائل التحذيرية الواضحة، والتي كان على رأسها ضربات صاروخية طالت منشآت لأرامكو نفسها في المناطق الجنوبية للمملكة.
هذا ما أكّـده أَيْـضاً عضو الوفد الوطني عبد الملك العجري الذي علّق على العملية قائلاً: إن “دولَ العدوان تثبت يوماً بعد آخر أنها غيرُ قادرة على التعافي من تقديراتها الخاطئة، وكلما أخطأت في قراءتها لنتائج عدوانها، تخطئ مرة أُخرى في النظر لمبادراتنا الإيجابية مجرد فرصة للدخول في تلهية تكتيكية”.
وأضاف العجري في تصريحات، أمس، أن “دول العدوان تخطئ في إفراغ مبادرتنا من مضمونها لتخدير المجتمع الدولي وترتيب أوضاعها الداخلية واستكمال الحصار”.
اليوم تقف السعوديّةُ مجدّدا أمام الرعب الذي عاينته مرتين من قبل، رعب بقاء “أرامكو” على قائمة أهداف سلسلة الضربات الأقسى للجيش واللجان الشعبيّة، وهو ما يعني التوجّـه المستمرّ والمدروس من قبل “صنعاء” لتدمير الاقتصاد السعوديّ.. والرياض تعرف ماذا يعني ذلك تماماً.
ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن “صنعاء” لم تعلن انتهاء مبادرة الرئيس المشَّـاط، وهي رسالة أُخرى يمكن قراءتها في بيان ناطق القوات المسلحة الذي أوضح أن عمليةَ توازن الردع الثالثة جاءت “ردًّا طبيعياً ومشروعاً على جرائم العدوان والتي كان آخرها جريمة الجوف” وتصريحات رئيس الوفد الوطني وناطق أنصار الله، محمد عبد السلام، الذي أكّـد على النقطة ذاتها، وأضاف أن “شعبنا اليمني لن يتخلى عن حَــقّ الرد ولن يسمحَ للعدو أن يستبيح الدم دون تدفيعه الثمن”.
رسالة مفادها أن “صنعاء” لم تغلق أبواب السلام الجاد، إذَا ما أراد السعوديّ إنقاذ نفطه، وبالتالي إنقاذ وجوده، لكن عليه أن يفهم أن المماطلة في هذا الشأن، والاستمرار بالجرائم والحصار، له ثمن يرتفع مع مرور الوقت، وتزداد معه قوة الردع الذي لن ينتهيَ إلا بانتهاء كامل للعدوان.
من “الشيبة” إلى “ينبع”.. التكلفة تتضاعف:
تحتوي مدينة “ينبع” الصناعية التي استهدفتها عملية “توازن الردع الثالثة”، أمس، على عدة مصاف لشركة “أرامكو” السعوديّة، وهي بحسب المراجع “مرتبطة بشكل مباشر بالثروات البترولية في المنطقة الشرقية، حيث ينقل خط الأنابيب العابر للمملكة الزيت الخام وسوائل الغاز الطبيعي إلى ينبع للتصدير وللاستخدام كوقود ومواد خام للصناعات الرئيسية في المدينة، والتي تقومُ بدورها بتصنيع المنتجات مثل البتروكيماويات السائبة التي تصبح مواد خام لشركات التصنيع المتلقية”، وقد أكّـد ناطقُ القوات المسلحة على أن العملية استهدفت مصافي أرامكو “وأهدافاً حساسة أُخرى هناك”، متوعدا بـ”ضربات أقسى”.
أهداف على مستوى عال من الأهميّة الاقتصادية والنفطية، تضاف إلى “حقل الشيبة” وَمصافي “بقيق” و”خريص”، وبحسب اقتصاديين، فَإنَّ ضرب مصافي ينبع بعد الأهداف السابقة، يجعل الخسارة التي تكبّدتها الرياض عالية جداً، بالنظر إلى التقارير التي أكّـدت خلال الفترة الماضية، أن مصافي “بقيق” و”خريص” ما زالت تحتاجُ إلى وقت طويل لإصلاحها.
من هنا يتضح أن مرحلةَ “توازن الردع” تكوّن معادلة تتضاعف فيها خسائر الرياض الاقتصادية بشكل مستمرّ مع كُـلِّ عملية، وبصورة تتضح فيها قدرة “صنعاء” على ضمان استمرار هذه الخسائر لأطول فترة ممكنة، من خلال انتقاء الأهداف الحساسة التي لن تستطيعَ السعوديّةُ إصلاحَها سريعا.
معادلة قطع شرايين كان بالإمْكَان أن تصلَ إلى نقطة اللاعودة بالنسبة للسعوديّة، لو لم تقدم صنعاء لها فرصة “المبادرة الرئاسية”، لكنَّ خطرَ الوصول إلى هذه النقطة لا زال قائما، فبعد ثبوت القدرة العالية التي تتمتع بها صنعاء على انتقاء الأهداف الاقتصادية الدسمة، خلال ثلاث عمليات مشهودة، تدرك الرياض أن الأمورَ قد تطور إلى ضرب أكثر من هدف دسم وقطع أكثر من شريان في وقت واحد.. وهو أمر بات متوقعاً من منظور عسكريّ.
هذا التضاعف المستمرّ في كلفة استمرار العدوان يفرض بدوره ضغوطاً سياسيّة مضاعفة على السعوديّة، لصالح صنعاء، فإذا كانت المملكةُ قد خضعت على وقع عملية توازن الردع الثانية، وبدأت الحديثَ عن “سلام” لم تكن جادة فيه، وهي التي لطالما رفضت النزولَ عن شجرة “الحسم العسكريّ”، فَإنَّ العمليةَ الثالثةَ قد تعدل جزءاً جَديداً من السلوك السعوديّ غير المنضبط، وإن لم، فعمليات إضافية كفيلة بتحقيق ذلك، وصولاً إلى فرض كامل الشروط اليمنية، ويمكن قراءة ذلك بوضوح من خلال استذكار تداعيات عملية “بقيق” وآثارها وهي مستمرّة حتى اللحظة.
تشكيلة (صاروخية – جوية) فريدة:
نُفذت “توازن الردع الثالثة” بـ12 طائرة مسيّرة من نوع (صمّاد3) بعيدة المدى، وصاروخين من منظومة (قُدس) المجنَّحة، وصاروخ من نوع (ذو الفقار) البالستي بعيد المدى، يُعلن عنه للمرة الأولى، وجميعُها حقّقت إصابات دقيقة.
تشكيلة أسلحة تعتبر ذروة ما أُعلن عنه من إنتاجات التصنيع الحربي اليمني حتى الآن، وهي أول مرة تستخدم فيها هذه التشكيلة في وقت واحد، كما أنها أول مرة يستخدم فيها صاروخان مجنَّحان في عملية واحدة.
لقد عودتنا القوات المسلحة أن تحتويَ عملياتها الكبرى دائماً على ما يستخدم “للمرة الأولى”، في حرصٍ منها على تأكيد استمرار التطور في القدرات العسكريّة اليمنية الفعالة، والمجموعة التي نقف أمامها اليوم، هي تجسيد واضح لقفزة نوعية هائلة في هذا التطور، يمكن ملاحظتها بشكل واضح إذَا ما عدنا إلى بدايات التصنيع الحربي اليمني، إلى صواريخ “الصرخة” وَ”النجم الثاقب”.
وقد جاء إعلانُ القوات المسلحة عن صاروخ “ذو الفقار” البالستي بعيد المدى، بمثابة إشارة واضحة إلى أن اليمنَ لا زال يمتلك الكثير من المفاجآت، وأن ما ظهر من تطور القدرات اليمنية ليس هو كُـلّ التطور، فهذه هي المرة الأولى التي نشهد فيها إعلاناً عن صاروخ بالستي بعيد المدى من غير منظومة “بركان” ومن غير المنظومة المجنَّحة، الأمر الذي يوضح أن نشاطَ التصنيع الحربي اليمني قد اتسع إلى حدود تتجاوز التوقعات بمسافات كبيرة، ويعني ذلك بقاء عنصر “المفاجأة” دائماً في صف الجيش واللجان الشعبيّة.
ولا يخفى أَيْـضاً أَن استخدامَ الأنواع الثلاثة من هذه الأسلحة في وقت واحد، ينطوي على تنسيق فريد يكشف احترافاً في التصنيع والتوجيه، وهو ما يثبت مجدداً أن تطوّر القدرات العسكريّة اليمنية يقفُ على قاعدة ثابتة وراسخة، ويمضي في مسار متكامل نحو المنافسة العالمية.
رسالةٌ في أُذن “بومبيو”:
أبرز ما احتوت عليه الظروف السعوديّة المتزامنة مع عملية “توازن الردع الثالثة”، كانت زيارة وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو إلى المملكة، والتي زار خلالها قاعدة “سلطان” الجوية جنوب الرياض، والتي تحتوي على قوات أمريكية أرسلتها الولاياتُ المتحدة عقب عملية “توازن الردع الثانية” لدعم المملكة في “التصدي للاعتداءات”.
هكذا، فقد تلت ضربات “ينبع” بياناً يمنياً واضحاً على مسامع وزير الخارجية الأمريكي، مفاده أن قوات الجيش الأمريكي بكله، ومختلف منظومات الدفاع الجوي الأمريكية، وكل التضليلات الإعلامية، لن تستطيع أَن تحول دون ضرب النظام السعوديّ، وأن وقف العدوان هو المخرج الوحيد.. أخبر ترامب بهذا عند ما تعود.
وجلبت الضرباتُ أَيْـضاً رسالةً خَاصَّةً لـ”بومبيو” نفسِه؛ كونه أولَ من زعم أن هجماتِ 14 سبتمبر على منشآت “بقيق” و”خريص” جاءت من إيران وليس من اليمن، وهي الدعاية التي أُعيد تكرارها مؤخّراً من قبل فريق خبراء الأمم المتحدة، وأعضاء مجلس الأمن في جلستهم الأخيرة.
ادعى النظام السعوديّ، أمس، اعتراضَ عدد (لم يحدّده) من الصواريخ اليمنية، لكنه، وبتناقض فاضح، ادعى أنه استطاع تحديد مكان انطلاق تلك الصواريخ (من صنعاء)، وهذا الإعلانُ أثبت أولاً أن الأنظمة والمنظومات الأمريكية في السعوديّة لم تستطع أَن تلاحظ وجود طائرات مسيّرة بالأَسَاس، كما أثبت أن أسلحة “صنعاء” تستطيع الوصول إلى مسافات بعيدة تزيد عن 1300 كيلو متر، وهو ما يعني سقوط الدعاية التي حاول بومبيو وفريق الخبراء ومجلس الأمن ترويجَها لدعم مزاعم مسؤولية إيران عن هجمات 14 سبتمبر، حيث جادلوا جميعاً بأن “صنعاء” لا تمتلك القدرة على تجاوز مسافة ألف كيلو متر، وسقط ذلك الجدال تماما.
أما بخصوص مزاعم “الاعتراض” فقد سقطت كالعادة بمقاطع مصورة وثقتها عدساتُ مواطنين سعوديّين سجّلوا لحظات وصول الصواريخ والطائرات اليمنية إلى أهدافها عبر هواتفهم، في الوقت الذي كان النظامُ السعوديّ يعمل على نشر التحذيرات من تصوير الهجمات، مؤكّـداً بذلك على هشاشته الإعلامية والعسكريّة.
المسيرة | ضرار الطيب