السيد الحوثي: أُنظُروا للحضارةِ الغربيةِ في أشلاء أطفالكم
بقلم / عبدالملك العجري
في خطابِهِ بمناسبةِ أُسْبُــوْع الشهيد -الاحتفائية التي ينظِّمُها أَنْصَــارُ الله سنوياً؛ لتخليدِ ذاكرة الشُّـهَـدَاء في الوجدان الشعبي- قال السيد عبدالملك الحوثي موجّهاً خطابَه لمنظمات المجتمع المدَني وللمثقفين المدنيين من المُنبهرين بالحضارة الغربية: انظروا إلَى الحضارة الغربية في أشلاءِ أطفالكم في أشلاء نسائكم في القنابل والصواريخِ التي يسكُبونها على رؤوسكم.. في إشارة منه إلَى التناقُضِ الصارخِ بين السرديات الكُبرى في خطابِ الحضارة الغربية كالحُـرِّيَّة والعدالة وحقوق الإنْسَـان والمدَنية.. وَممارساتهم التي تكشفُ زيفَ مضمونِ الخِطَاب الإنْسَـاني، ويركز بدرجة أساسية على الولايات المتحدة.
قد لا تكونُ هذه الجُزئيةُ هي الأهمَّ في خطاب السيد، وقد يكونُ تركيزي عليها نوعاً من الانجذابِ الشخصيِّ لمناقشة مقولات الحَداثة الغربية.
السيدُ الحوثي يقفُ على عَتَبَةِ أيديولوجيةٍ مخاصمةٍ للولايات المتحدة، وعلى هذا الأساس قد يُفسَّرُ تشكيكُه بصدقِ الخطاب الإنْسَـاني والمدَني للحضارة الغربية، كما يبدو غريباً في ظل هيمنة النسَق المعرفي النيوليبرالي الحاكم للمعرفة العالمية الذي يحاكمُ الحوثية كنظيراتها من الحركات الدينية العالم ثالثية أصوليات إسْــلَاموية تُعَدُّ ضَرْباً من الفواتِ التاريخي المناهِض للمدنَية والسرديات الإنْسَـانية للخِطابِ الحداثي الغربي والعولمة الليبرالية.
بصرف النظر عن تشكيك السيِّدِ عبدالملك بالقيِم الإنْسَـانية للغرب، دعونا نختبرْ صدقَ هذه السرديات من خلال مقارَبة تفكيكية للمقولاتها الإنْسَـانية والمدَنية: الحُـرِّيَّة، العدالة، المساواة، حقوق الإنْسَـان.. ليس كمفاهيم نظريةٍ بل كممارسات جزئية يومية، ليس بمناقشة نظرية العقد الاجتماعي لهوبز وروسو والخطاب الليبرالي حول الفرد والحُريّات الفردية، بل في الممارسات السلطوية، في القرارات الأممية، في المواثيق الحاكمة لمجلس الأمن والأمم المتحدة والإجراءات العقابية لهما، في مواقف الحكومات الغربية من التغيير ومطالِب الحركات الاحتجاجية، في صفقات الأسلحة، وحرية السوق، في التمسُّك بالشرعية الشكلية وتجاهل الشرعية الاقتصادية والاجتماعية في ازدواجية المواقف من الشرعية في الـيَـمَـن وسوريا ومصر، في مواقفهم من المشهَدِ الدموي الذي يغطّي وجه المنطقة، في الأشلاء الممزقة والمبعثرة والحصار الشامل للشعب الـيَـمَـني، في قسمتهم الثنوية للعالم طيبين/ أشرار، معتدلين/ غير معتدلين.
موتُ الإنْسَـانِ في الحَدَاثَة الغربية من التنوير إلَى العولمة
يُنسَبُ لخطاب الحداثة نزوعُه الإنْسَـاني وَإزاحةُ “الإله” من موقعه في مركَز الكون في القرون الوسطى وإحلال الإنْسَـان محله كمركَز؛ لكون الإزاحة أَوْ التحول أسماها الفيلسوفُ الفوضويُّ نيتشه “موت الإله”، لكن سَرعانَ ما تبخرت تلك الوعودُ التي بشّرَ بها خطابُ التنوير ويسقط الإنْسَـان عن عرشه وينطحنُ تحت تروسِ الحياة التقنية وتسقُطُ معه السردياتُ الإنْسَـانية الكبرى للخطابِ الحداثي، تُوَّجُ هذا السقوط بالإعلان رسمياً عن “موت الإنْسَـان” وقد نعاه مفكرون كبار أمثال فوكو وَشتراوش والتوسير وهيدجر، فالإنْسَـانُ الذي بشّرت به النزعة الإنْسَـانية ما إِلَّا فكرة عاطفية تافهة.
إن الوجه الإنْسَـاني للغرب قناعٌ ظاهري يُخفي تحته قبحاً إنْسَـانياً فضيعاً لم يؤدِّ الترشيد العقلاني إلَى الحُـرِّيَّة والعدالة والمساواة بل إلَى تشيئة الإنْسَـان وتسليعه.
يقول فوكو لم يكن المجتمعُ التالي على الثورة الفرنسية مجتمعاً يضمن الحُـرِّيَّة والعدالة، بل مجتمعٌ يضمن الأداء الجيد من قبل كُلّ فرد لأدواره المحددة له سلفاً، المجتمع الذي يسير بدقة وكفاءة الآلة. ولم تكن ممارسة السياسة فيه على أساس نموذج العِقد الاجتماعي، بل على أساس الضغوطِ والمساومات والإكراهات، ولم يكن مجتمعَ الحقوق بل مجتمعُ الواجبات والالزامات والتعليمات، لا مجتمع الإرَادَة العامة بل مجتمع الطواعية الآلية..
وفيما كان الفلاسفة والقانونيون يبحثون في نظرية العقد عن أنموذج أولي؛ من أجل إعادة بناء الجسم الاجتماعي، كان العسكريون ومعهم التقنيون المتخصّصون في الانضباط يعدون الإجراءات من أجل الإكراه الفردي والجماعي للأجسام.
الليبرالية الغربية تتأسَّسُ على الفردية الغرائزية والمنفعة الشخصية وتاليه السوق وتسليع الإنْسَـان الثقافة والعقل والجسم الفرد الواحد، الخطابُ السياسي الليبرالي هو صوتٌ انتخابي واحد، والحُـرِّيَّة في نظر الاقتصادي الليبرالي لا علاقة لها بتحريرِ الإنْسَـان بل بتحرير الرأسمال الاقتصادي.
تفصل المسألة الاقتصادية عن الأخلاق والعدالة الاجتماعية بتركيزها المفرِط على الربحية، على أيَّةِ اعتبارات أخلاقية أَوْ اجتماعية، حيث الإنْسَـان في ظلِّ نظام اقتصاد السوق، كما يقول ماكس فيبر، مسكون في أعماقه بأخلاق تعظيم الربح وتحسين النجاعة، متنكباً عن كُلِّ ما هو مقدَّس وجليل باعتباره شاغلاً عن النجاح في العالم الدنيوي.
هذا الفراغ الذي لحظه الفيلسوفُ في بُنية الحضارة الغربية منذ قرن على مستوى الفرد ومستوى المجتمع والدولة ونهب ثروات الشعوب وبسط هيمنتهم على الضفة الشرقية.
مشاهد القتل والموت والدماء والأشلاء الممزقة والمبعثرة لم تحرّك الضمير الإنْسَـاني ولم توقظ الهاجع الحضاري لدول الغرب.
إنْسَـانيةُ الغرب إنْسَـانيةٌ جغرافيةٌ تتبخَّرُ على حدودِ الضفة الشرقية للبحر المتوسط.
الغربُ الرأسمالي لا علاقةَ له بالأخلاق ولا بالمفاهيم الإنْسَـانية التي أَصْبَـحت بمثابة دُعابة سَمِجَةٍ على لسان دول المركَز الرأسمالي، وإلا لكنا رأينا لها أثراً على ما تقترفُه طائراتُ مخبول الرياض في الـيَـمَـن من أعمال وحشية وهمجية تخلو من أيِّ غرض عسكري أَوْ سياسي سوى العقاب والإذلال.
التناقضُ الصارخُ في التعامل مع القضايا الإنْسَـانية وازدواجية المعايير الأخلاقية له علاقة بنظرة الثقافة الامبريالية الغريبة الفوقية للآخر غير الغربي كشعوب دُونية أقل قدراً وذات حقوق ومطالب أقل.
سُلطة الهيمنة المعرفية
النَّسَقُ المعرفي عن الإنْسَـان والحياة والمجتمع للغرب الليبرالي أَصْبَـحت هو الذي يوجِّهُ العالَمَ، وعلى أساسَهِ تُعَدُّ خططٌ سلطوية وإجراءات عقابية.
فالمعرفة في الليبرالية تتمفصلُ، والسلطة بحسب فوكو “ذلك لأنها تقدم شكلاً معرفياً خاصاً عن الإنْسَـان والمجتمع والسياسة، يتجسَّـدُ في نظريات تعاقدية وحقوقية، وتقدم في نفس الوقت آليات انضباطية سلطوية.
المعرفة الليبرالية أصبحت هي التي تصمّم المجال الذي على الأفراد والشعوب والمجتمعات والدول التحرك وتضع القواعدَ التي يسيرون عليها والحدود المسموح لهم بالحركة في إطَارها كما سن نسقاً عقابياً يقعُ تحت طائلته كُلُّ من يتمرد عليه.
من ذلك على سبيل المثال سن الغرب قوانين حقوقية باسم دول العالم كُلّ الدول دون أن يستشيرَها أَوْ يكون لها دور في صياغتها، وفرضها من خلال الأمم المتحدة، ثم سن إجراءات عقابية من خلال مجلس الأمن ومن يخرج عليها من دول العالم يقع تحت طائلة العقوبة.
لقد تم تكييفُ الوثائق الحاكمة للأمم المتحدة والهيئات التابعة للتوائم مع مصالح الدول الكبرى ولذلك تحوّلتا إلَى مؤسستَين لإدارة تناقضات مصالح الدول الكبرى وتقاسم النفوذ بين الدول الخمس أَكْثَــر مما هي هيئات حقوقية وعدلية، ومجلس الأمن أَصْبَـح الذراعَ الأمنية لحماية مصالح الدول الرأسمالية، حتى وإن كان على حسابِ مصالح بقية دول وشعوب العالم، خَـاصَّـةً دول العالم الثالث، وذراعاً عسكرية لمعاقبة الخارجين على ما يسمَّى الشرعية الدولية التي هي في جوهرها شرعيةُ المصالح.
إذا الأصوليُّ البائسُ يقسِّمُ العالَمَ إلَى فسطاطين على أساس الهُوية فيقسِّمُ البراديغم الرأسمالي العالَمَ إلَى معتدلين/ غير معتدلين، طيبين/ أشرار، ليس بالمعنى الظاهري للمفهومين إذَاً يدخل في الصنف الثاني أي مجموعة ترفض تكييف نفسها لشروط الرأسمالية الليبرالية، علماً أن نشوء الجماعات المتطرفة كالقاعدة وداعش لم يكن محصّلة لقراءة شاذة للنص الديني بقدر ما هم ضحايا لجشعِ العولمة الأَمريكية التي شوَّهت آدميتهم ودمَّرت الإنْسَـان بداخلهم.
النموذجُ الثالث مزعومُ الشرعية والديمقراطية التي تختزلُها في أشكال مؤسسية ونظم وصناديق الانتخابات وتقاضي المجتمع إذَا تمرد عليها.
الشرعية الليبرالية شرعية شكلية مفصولة عن الشرعية الاجتماعية والاقتصادية والإرَادَة الشعبية. شرعية تحابي الأغنياء وتنحاز لمصالحهم على حساب الكتلة السكانية المفقرة.
ولا تعير أي اهتمام للسخط الاجتماعي، فكلُّ صنيع من هذا القبيل هرطقةٌ تتنافى وحقائقَ الإيمان بلاهوت السوق المطلقة والمقدسة، ومن يفعلونها إنما هم جموع من المرضى العصابيين أو جمع من المجرمين يحالون إما للعيادات الاكلينكية لتلقّي حقنات إصْـلَاحية يباركها أساطينُ السوق لتهدئتهم وتخديرهم أَوْ يتم التعامُلُ معهم وفقاً لوصايا “علْم الإجرام” المقدّسة عن ظاهرة الجماهير المجرمة كما يسميهم التراث اللاهوت للسوق الليبرالية.
خلاصةُ الكلام الديمقراطية وحقوق الإنْسَـان وَالتحديث أصحبت في ظل العولمة الليبرالية مفاهيم عقابية تدميرية أَكْثَــر مما هي مقولات إنْسَـانية وحقوقية.