مشاريع التمكين الاقتصادي ودورها في القضاء على مشكلتَي البطالة والفقر
موقع أنصار الله || مقالات || علي عبدالله صومل
يقول اللهُ تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُـلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [سورة إبراهيم].
فهذه الآياتُ الكريمةُ تقرّر بوضوح: أن الله قد حشد للإنسان في هذا الكون الفسيح كُـلَّ مصالحه ومنافعه، ووفّر له الموارد الكافية لإمدَاده بحياته وحاجاته المادية، ولكنَّ الإنسان بظلمه وكفرانه هو الذي ضَيّع على نفسه هذه الفرصة التي منحها الله له (إِنَّ الْإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، فظلمُ الإنسان في حياته العملية وكفرانه بالنعمة الإلهية هما السبب الأَسَاسي للمشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان.
يتجسّد ظلم الإنسان على الصعيد الاقتصادي في سوء التوزيع، وتجسد كفرانه للنعمة في إهماله لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبي منها، فحين يُمحى الظلمُ من العلاقات الاجتماعية بالتوزيع وتجنيد طاقات الإنسان للاستفادة من الطبيعة واستثمارها تزول المشكلة الحقيقية على الصعيد الاقتصادي، وقد كفل الإسلام محو الظلم بما قدّمه من حلولَ لمسائل التوزيع والتداول، وعالج جانب الكفر بما وضعه للإنتاج من مفاهيم وأحكام.
نتطرّق في هذا المقال إلى تسليطِ الضوء على أبرز الحلول الفكرية والسلوكية التي قدمها الإسلام لمعالجة مشكلتَي الفقر والبطالة؛ باعتبَارهما من أخطر المشاكل الاقتصادية التي تلقي بظلالها القاتمة على الحياة المعنوية والمادية لِبَني الإنسان، وتؤثر بصورة مباشرة في خراب البلاد وإهلاك العباد.
حث الله الإنسان على العمل والإنتاج، فالإسلام يهيب بالإنسان إلى استثمار مختلف المجالات (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [سورة الملك].
ويُعتبر الانخراطُ في سبل الكسب المشروع والنشاط في طلب الرزق الحلال فريضة دينية واجبة ووظيفة تربوية ناجعة، فقد رُوَي في المجموع الحديثي والفقهي للإمام زيد بن علي –عليهما السلام– حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي -عليهم السلام- قال: (جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: يا رسول الله أي الكسب أفضل؟ فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: عمل الرجل بيده، وكل بيعٍ مبرورٍ فَـإنَّ الله يحب العبد المؤمن المحترف، ومن كَدَّ على عياله كان كالمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ).
ورُوي في نفس المصدر أَيْـضاً ما لفظه: حدثني زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي -عليهم السلام-، قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (كفى بالمرء إثماً أن يُضَيِّعَ من يَعُول، أَو يكون عيالاً على الناس)، فبواسطة الانتقال من سلبية البطالة القاتلة والخمول المفقر إلى إيجابية الحركة المنتجة والعمل المثمر، يحقّق الإنسان العامل المحترف المنتج لنفسه ولأفراد أسرته -الذين يجب عليه العناية بهم والإنفاق عليهم– أسباب الحياة الحرة الكريمة والشعور بالكرامة المعنوية والسعادة النفسية، ومهما يكن العمل عظيم المشقة والجهد أَو قليل الفائدة والربح، فتحمّلُ متاعب ومصاعب البحث عن العيش الكريم مع الحرية والعز خيرٌ من التقلب في بحبوحة النعيم مع العبودية والذل.
ومما رُوي عن الإمام علي -عليه السلام- شعراً:
ونقل الصخر من قلل الجبال
أحب إليَّ من منن الرجال
يقول الناس لي في الكسب عار
فَـإنَّ العار في ذل السؤال
ومن أبلغ ما يروى عن شرف العمل، أن ابن سيناء -الفيلسوف والطبيب المعروف، قضى فترة طويلة من عمره في السياسة والوزارة لعدة ملوك- جاء في أحد الأيّام مع غلمانه وحاشيته وعليه أبهة السلطنة والحكومة، وقصد العبورَ من أحد الأزقة، فشاهد كنّاسا يكنس الطريق ويتمتم ببعض الكلمات، وكان ابنُ سيناء ذا سامعة قوية، فسمع ذلك الكنّاس وهو يحدث نفسه ويردّد بعضَ الأشعار، ومن ذلك أنه قال:
إنني أكرمتك يا نفس من الذل
حتى تستريحي من هموم الدنيا
فسمع ذلك ابن سيناء وضحك، وذلك أن هذا الرجل كناس، وهو عمل حقير وتافه، ويمن على نفسه أنه قد احترمها وحفظ كيانها وشخصيتها، فتقدم إليه وقال له: كيف تقول هذا الكلام والحقيقة أنك قد أهنت نفسك، أفلا تعمل عملا أفضل من هذا العمل تكرم به نفسك؟! وما شرف هذا العمل؟!، فنظر إليه الكناس وعرف من ظاهر الحال أن هذا المتكلِّم هو الوزير فقال: إن الخبز الذي يأتيني عن طريق هذا الشغل الخسيس، أفضل من أن أتحمل ثقل المِنَّة من رئيس، فخجل ابن سيناء وتصبب وجهُه عرقًا وذهب.
لقد حرم الإسلامُ القادرين على العمل والنشاط الاقتصادي من الضمان الاجتماعي، ومنعهم من الاستجداء ليسد عليهم ذرائع التهرب من العمل المثمر.
ومما روي عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ- في ذلك أنه قال: (لا حظ في الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب)، وروي عنه أَيْـضاً أنه قال: (ملعون من ألقى كَلَّهُ على الناس).
إن الإسلام يريد لأبناء الأُمَّــة المحمدية أن يكونوا رواداً في ميادين العلم والعمل بمفهومها الواسع وميدانهما الشامل، فإمعانُ النظر في عجائب الخلق وبدائع الصنع وإعمال الفكر في الآيات الباهرات المبثوثة في آفاق السماوات والأرض، أول الواجبات على هذا الإنسان لكي يهتدي بهذه المخلوقات إلى معرفة الخالق العليم الحكيم القادر، ولكي يهتدي المؤمنون من خلال هذا التأمل والتدبر إلى استخراج الخيرات والثروات المودعة في هذه الأرض ويسترشدون بروائع الصنع الإلهي في هذا الكون، إلى تعلم الابتكار والإبداع في شتى مجالات التصنيع، وللأسف الشديد أننا أقفلنا عيوننا وعطلنا عقولنا وسبقنا الآخرون في هذا المجال؛ لأَنَّهم فتحوا عيونهم وحركوا عقولهم وسخّروا طاقاتِهم وطوروا قدراتهم حتى طوَّعوا البر والبحر والفضاء لمد رواق هيمنتهم ووجودهم وإحكام قبضة سيطرتهم ونفوذهم.
نعيشُ في عصر ثورة العلم واقتصاد المعرفة والسباق الحضاري في عالم التكنولوجيا الحديثة والمتطورة، وينبغي أن نكتشفَ مواهبنا ونؤهل كفاءاتنا ونلتفت إلى الرقي بمستوى كوادرنا في شتى مجالات العطاء والمسئولية، من تربية الدجاج وزراعة الحبوب حتى تحقيق جميع متطلبات التمكين الاقتصادي والأمن الغذائي، ومن تأهيل كوادر الهندسة والطب إلى تخريج كبار العباقرة في مجال التكنولوجيا الحديثة وعمال المصانع الذين يساهمون في تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتأكيد الاستقلال الحضاري، ويرفدون القوة العسكرية واليقظة الأمنية بالقوة العقلية والمنعة الاقتصادية.
الهيئةُ العامّةُ للزكاة في سبيل ذلك بدأت تخطو خطواتها العملية البناءة وتدشّـن مشاريعها الاستراتيجية العملاقة، وتدخل معترك البناء للعامل النشيط المنتج، وتدفعه إلى استخراج كنوز الثروة المودعة في جوف الطبيعة، والإفادة منها في إرساء دعائم التنمية وبناء صروح النهضة، وذلك عن طريق ما وضعت من خطط نهضوية مدروسة من شأنها تفعيلُ الطاقات المعطلة وتحرير القدرات المكبلة، والهيئة العامة للزكاة تستهدف بهذه الوثبة الشجاعة تحقيق حزمة إنجازات في خطوة شاملة متعددة الأبعاد، نلخصها في الجمل التالية:
1- تحقيق التكافل الاجتماعي والتوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع.
2- إخراج الفقير من حَــدّ الفقر والعَوَز إلى حَــدّ الغنى والاكتفاء، حتى لا يبقى تحت نير الحاجة ورحمة الاستجداء.
3- رفد الاقتصاد الوطني بالمنتج المحلي والتصنيع الشعبي، بما يساهم في تحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي والنصر الاقتصادي.
4- القضاء على ظاهرة البطالة؛ باعتبَارها مرضا اجتماعيا يعطل الطاقة ويشل الحركة، وينتج عنها انحراف خُلُقي وانحطاط قيمي، فكثير من الأمراض الأخلاقية والأعمال الشائنة والفاسدة والإجرامية وليدة البطالة، فيدُ الفارغ في الشر -كما يقال-، فالهيئة تبادر إلى تصريف الطاقات الكامنة في العاطلين عن العمل في ما يبني ويفيد قبل أن يتم تصريفُها في ما يهدم ويضر.
5- تحقيق الكرامة المادية للفقير ليتحرّر من ذل الفقر وسجن الفاقة، وتحقيق الحرية المعنوية للغني ليتحرّر أَيْـضاً من خطيئة تألِيه المال وعبادة الثروة.
6- تأكيد المبادئ الاقتصادية الإسلامية المتضمنة لعدالة التوزيع والتداول السلعي والنقدي بين أفراد المجتمع المسلم؛ كي يساهم المساهم في تحريك عجلة الاقتصاد ودعم حركة الإنتاج بدلا من اكتناز الثروة أَو تركيزها وحصرها في جيوب محدودة؛ باعتبَار هذا الاكتناز أَو التركيز حالة ممقوتة ومدمّـرة، فالمال شبيه بالدم يجب أن يصلَ إلى كُـلّ أفراد المجتمع كما يصل الدم إلى كُـلّ أعضاء الجسد، وَإذَا تمركز الدم في عضو معين سبب له الانفجار المدمّـر، وَإذَا غاب عن بعض أعضاء البدن توقفت عن الحركة وأُصيبت بالشلل التام، وشبيه ذلك تماماً ما يحدثه المال أثناء انحباسه في جيب واحد أَو انقطاع وصوله إلى جميع أفراد المجتمع الإنساني المترابط، وَأَيْـضاً المال عصب الحياة كما أن الدم إكسير الحياة.
* كتاب (اقتصادنا) للسيد الشهيد محمد باقر الصدر صـ328.
* أورد هذه القصة الشيخ الشهيد مرتضى مطهري في كتاب التربية والتعليم صـ358-359.