توازن الردع السادسة: أمن اليمن مقابل مصالح “العالم”

|| صحافة ||

هَـــزَّةٌ كبرى أحدثتها عمليةُ “توازن الردع السادسة” التي نفّذتها القواتُ المسلحة، مساء أمس الأول، بـ22 طائرة مسيَّـرة وصاروخاً بالستياً، وكان من أبرز أهدافها شركة “أرامكو” في ميناء “رأس تنورة” السعودي، إذ تجاوزت العملية بحجمها وتوقيتها ورسائلها كُـلّ توقعات وحسابات تحالف العدوان ورعاته، وتركت النظام السعودي يتخبط في ذهول، عاجزاً حتى عن إنكار وصول النيران اليمنية إلى هذا البعد، ومذعوراً من تداعيات الانتقال إلى هذه المستوى من الخطر المباشر الذي يهدّد عصب اقتصاد المملكة، وهو الذعر الذي دفعه إلى “الاستغاثة” بالعالم لإنقاذه، مجدّدًا، ليحصل على مجموعة من “الإدانات” المكرّرة لفظاً ومعنى، والتي تكشفُ أن “الرياض” تَدفَعُ اليومَ، وحيدةً، ثمنَ خدمتها لمصالح الغرب الذي لم تعد أساليبه و”أوراقه” قادرة على تجاوز واقع “القوة” الذي تفرضه صنعاء، والذي ينذر بجعل “العالم” شريكاً في دفع ثمن استمرار العدوان والحصار.

بعد ساعاتٍ قليلةٍ من إعلان تنفيذ “توازن الردع السادسة”، قفزت أسعار النفط الخام إلى أعلى مستوى منذ أكثر من عام، حَيثُ بلغ سعر البرميل، بحسب وكالة “رويترز”، إلى ما يقارب 71 دولاراً، كنتيجة مباشرة للعملية العسكرية اليمنية غير المسبوقة، الأمر الذي يعيد دق جرس إنذار “تدمير عصب الاقتصاد السعودي” ولكن بقوة أعلى من أي وقت مضى، فاختيار منطقة الاستهداف لم يكن عفوياً، بل مدروسٌ بعناية لإرسال رسالة يمنية واضحة بأن يدَ القوات المسلحة قادرة على الوصول وبدقة إلى أهم مناطق الاقتصاد النفطي في المملكة، وهي رسالة ينبغي قراءها ضمن سياق سلسلة رسائل لعمليات سابقة طالت عدة منشآت ومناطق نفطية بالغة الأهميّة مثل “حقل الشيبة” ومصافي “بقيق وخريص” ومحطة التوزيع في “جدة” ومحطتي “عفيف والدوادمي”؛ لأَنَّ القوات المسلحة أثبتت من خلال هذه العمليات، وبما لا يدع مجالاً للشك، أنها قادرةٌ على تغطية هذه الأهداف كلها، ولديها الأسلحة المناسبة لتحقيق أدق الإصابات، وبالتالي فبالرغم من الخسائر المباشرة التي تتسبب بها هذه الضربات، إلا أنها تحملُ معها دائماً إنذاراتٍ واضحةً بإمْكَانية تحقيق خسائر أكبر وعلى مساحة أوسع، إذَا استمر العدوان والحصار، والمسار التصاعدي لعمليات الردع يجسد هذه الإنذارات.

تلقى النظامُ السعودي هذه الرسالةَ، بعد أن عجز عن إنكار وصولها المدوي، وأعاد توجيهَها إلى العالم على هيئة نداء “استغاثة” لإنقاذ “مصادر الطاقة العالمية”، في محاولة ليست الأولى من نوعها، للعب دور “الضحية” ووضع المجتمع الدولي في الصورة، للتغطية على حقيقة أن هذه الضربات لم تكن لتحدث لولا شن “العدوان” على اليمن، ثم الفشل الذريع في تحقيق أهدافه، ولكن النتيجة كانت مجموعة من بيانات “الإدانة” مدفوعة الثمن، لا ترقى حتى إلى مستوى “المواساة”.

مع ذلك، ليست هذه “الاستغاثة” فارغة تماماً من المضمون، فالنفط السعودي يعتبر مصلحة بالغة الأهميّة للعديد من الدول “الداعمة” للسعودية في العدوان، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتان لم تُخفيا حرصهما على هذه “المصلحة” عندما أرسلتا قوات عسكرية ومنظومات دفاع جوي إلى المملكة لحماية مناطق ومنشآت النفط، وبالتالي فَـإنَّ التهديد يتجاوز النظام السعودي بالفعل، والرسالة التي تصل هنا إلى “ما وراء السعودية”، مفادُها أنه لا خطوطَ حمراءَ، ولا حدودَ، أمام قوة الردع اليمنية، وأن الضررَ سيصبح “عالمياً” إذَا استمر العدوان والحصار.

وفي هذا السياق، من المهم إلقاء نظرة على مستجدات الموقف الأمريكي البريطاني بخصوص مِلف اليمن، حَيثُ يبدو أن الدولتين تواجهان اليوم تغييراً لم يكن مخطّطاً له في الحسابات، خَاصَّة بعد محاولة الإدارة الأمريكية الجديدة صرف الأنظار عن دورها القيادي في العدوان بالحديث عن “وقف الحرب” وهي محاولة فشلت سريعا؛ بسَببِ معركة مأرب والتصعيد الصاروخي الجوي ضد العمق السعودي، الأمران اللذان أعادا واشنطن مجدّدًا إلى الواجهة وبصورة أوضح كطرف مباشر في الحرب، وَإذَا كانت صنعاء قد استطاعت أن تخلقَ لدى أعدائها خوفاً كافياً لدفعهم نحو فضح خدعهم، فَـإنَّ لديها بالتأكيد ما تستطيع أن تجبرهم به على البدء بالتعاطي مع الواقع.

سلسلةُ عمليات “توازن الردع” تمثلُ اليومَ مسارَ ضغط رئيسياً، ليس لتأديب النظام السعودي فحسب، بل أَيْـضاً لدفع رعاته في الغرب نحو إنهاء الحرب والحصار بشكل عملي، وَإذَا كانت العمليات السابقة من هذه السلسلة قد سببت تغييرات ملحوظة في الخطاب السعودي الأمريكي بخصوص اليمن (وإن كان بنوايا غير صادقة) فَـإنَّ “توازن الردع السادسة” تنذر بالانتقال إلى ما هو أكبر، ولعل تقليص الفترة الزمنية بين هذه العملية وسابقتها إلى أسبوع واحد فقط، يرسل رسالة تغيير “زمني” في استراتيجية التعامل مع العدوان، وبعبارة أُخرى: إن الوقت الذي سيتاح للعدو لمراجعة حساباتِه سيكون ضيقاً من الآن وصاعداً، وسيتطلب سرعة في الاستجابة لشروط السلام الحقيقي، واستجابة عملية بالضرورة، فمُجَـرّد استمرار ضربات الردع قد أغلق الباب وبقوة أمام كُـلّ المراوغات ومحاولات “التخويف”.

وما ينبغي على دول العدوان ورعاتها التفكير فيه الآن ليس “توقع” حجم وأهداف وتوقيت العملية “السابعة” أَو بحث طريقة لتفاديها بدون إنهاء العدوان والحصار؛ لأَنَّ القوات المسلحة قد أثبتت بالفعل أن لديها دائماً القدرة على “مفاجأة” العدوّ، وتكبيده خسائر مضاعفة. سيزداد عدد الطائرات والصواريخ، وستكون مساحة الاستهداف أوسع، والأهداف “أدسم”، ولن تستطيع الدفاعات الجوية التي سبق أن ثبت فشلها مئات المرات أن تفعل شيئاً، لن تستطيع أَيْـضاً أية ضغوط أممية أَو دولية أن تمنع ذلك، ولا دعايات “التدخل الإيراني”، ولا “العقوبات”، ولا القصف، ولا التجويع، ولا أي شيء آخر، ما لم تمتلك دول العدوان ورعاتها “معجزة” فَـإنَّ الخيار الوحيد لإنقاذ مصالحهم في السعودية هو الاستجابة لشروط صنعاء.

إن الرسالةَ الأبرزَ لاستهداف أرامكو “رأس التنورة” هي أن “شعورَ” السعوديين و”أصدقائهم” في الغرب بأن لديهم “خيارات” أُخرى، ليس واقعياً، بما في ذلك خيار الاتكاء على “الوقت”، وهنا من الضروري أَيْـضاً الحديث عن “الحصار” الذي يتمسك به تحالف العدوان ورعاته؛ باعتبَاره آخرَ سلاحٍ “فَعَّالٍ”، ففعالية هذا السلاح، في الواقع، هي تأثيرُه على المواطنين، كعقاب جماعي، لكن فعاليتَه في “المعركة” ليست كبيرة، فهو لم يستطع الحيلولة دون التنمية المدهشة للقدرات العسكرية، ولم يستطع أن يمنع تقدم قوات الجيش واللجان في الجبهات، ولم تستطع دول العدوان حتى توظيفه بالشكل الذي أرادت لتأليب المجتمع ضد السلطة الوطنية، وعلاوة على ذلك، فَـإنَّ صنعاء تتجه اليوم لتخفيف وطأة هذا الحصار باستعادة مأرب ومواردها، ثم هناك ضربات الردع المتصاعدة التي تفرض معادلة “الاقتصاد مقابل الاقتصاد”، وبالتالي فَـإنَّ الحصار وبرغم وحشية استخدامه كـ”ورقة ضغط”، ليس في الحقيقة خياراً استراتيجياً؛ لأَنَّ صنعاء تمتلك فرصة إنهائه “بالقوة”، ولا مجال أمام دول العدوان لفصله عن شرط “وقف العدوان” على طاولة المفاوضات.

 

صحيفة المسيرة

 

قد يعجبك ايضا