عملية “الثلاثين من شعبان”: ضربةٌ بمواصفات مرحلة

|| صحافة ||

وسَّعت القواتُ المسلحةُ دائرةَ نيران ضرباتِ الردعِ الاستراتيجية لتشمَلَ مناطقَ ومواقعَ جديدةً ومهمةً وعلى مدى أبعدَ داخلَ العُمقِ السعوديّ، حَيثُ أعلنت، أمس الاثنين، عن تنفيذِ عملية “الثلاثين من شعبان” بـ17 طائرة مسيَّرة وصاروخاً بالستياً، ضربت مصافي شركة أرامكو في منطقتَي الجبيل (لأول مرة يتم استهدافُها) وجدة، إلى جانبِ مواقعَ عسكريّة حسَّاسة بمناطق جنوب المملكة، في هجوم واسع النطاق يؤكّـد على مضي صنعاء بخياراتها العسكريّة التصاعدية نحوَ إجبار الرياض على وقف العدوان ورفع الحصار بشكل كامل، كطريق وحيد، ولا مجال لأي ابتزاز أَو مراوغة فيه، لتجنب المزيد من هذه الخيارات التي باتت تسبب قلقاً متزايداً ومعلناً لدى الكيان الصهيوني والولايات المتحدة متجاوزة بتأثيرها النظام السعوديّ الذي لم يعد لديه ما يقولُه ولا ما يفعلُه.

بحسب المتحدِّثِ باسم القوات المسلحة، العميد يحيى سريع، تضمّنت عمليةُ “الثلاثين من شعبان” إطلاق 10 طائرات مسيرة من نوع (صماد 3) على مصافي شركة أرامكو، عصب الاقتصاد السعوديّ، في كُـلٍّ من الجبيل وجدة، وإطلاق خمس طائرات نوع (قاصف 2k) وصاروخين بالستيين نوع (بدر1) على مواقع عسكريّة في خميس مشيط وجيزان.

دائرة النار امتدت من أقصى شرق المملكة إلى أقصى غربها، واستمرت الهجمات فيها ليلة كاملة، في دلالة واضحة على سعة نطاق الاكتساح الذي باتت القوات المسلحة قادرة على تحقيقه في الأجواء السعوديّة، الأمر الذي يعني فشلاً ذريعاً ومؤكّـداً لجميع منظومات الدفاع الجوي الموجودة داخل المملكة، وإخفاق القوات الأجنبية (الأمريكية والبريطانية) التي تعمل على تشغيل هذه المنظومات وبالذات في المناطق النفطية، وقد برزت هذه الدلالة أَيْـضاً في عملية اليوم الوطني للصمود، 26 مارس الفائت، التي ضربت أهدافاً على الساحلين الشرقي والغربي للمملكة أَيْـضاً.

إعادة التأكيد على اتساع دائرة النار، وعلى قصر الفترة الزمنية الفاصلة بين العمليات الكبرى، يرسل رسالة واضحة بشأن تثبيت دخول هذا المستوى من الردع، كمرحلة عسكريّة لا كضربات عابرة، لكن هذا ليس كُـلَّ شيء، فهذه المرحلة كما يبدو تضم درجات شدة تتصاعد بمرور الوقت، كاشفة عن مفاجآت جديدة كُـلّ مرة، ومفاجأة العملية الأخيرة، كانت الوصول إلى منطقة (الجبيل) الصناعية التي تبعد أكثر من 1200 كيلو متر عن الحدود اليمنية السعوديّة، والتي تعتبر من أَهَــمِّ المناطق التي تغذي الاقتصاد السعوديّ.

مصفاة أرامكو التي تم استهدافها هناك، تُعرَفُ باسم “ساسرف” وهي مصفاة لتكرير النفط الخام تنتج غاز البترول المسال، والنفثا، والكيروسين، والديزل، وزيت الوقود، والكبريت، وطاقتها التكريرية تصل إلى 305 آلاف برميل يوميًّا، وتقوم بإمدَاد الأسواق المحلية والخارجية بهذه المواد، وتعتبر أحد أبرز المنشآت البتروكيماوية التي يعتمد عليها النظام السعوديّ لتوسيع نطاق موارده، حَيثُ تدر هذه المصفاة أرباحاً إضافية إلى جانب أرباح بيع النفط الخام.

واستهداف هذه المصفاة إلى جانب مصفاة جدة، يوضح أن القوات المسلحة تمتلك خطة متكاملة لمسار الردع الاستراتيجي المتصاعد، ومن الملامح البارزة لخطة هذه المرحلة، استيعاب المزيد من المنشآت النفطية الحسَّاسة في مختلف نواحي المملكة، وبالإضافة إلى الأثر المباشر الذي يحدثه استهداف هذه المنشآت، والذي يظهر في كثير من الأحيان بشكل واضح من خلال مقاطع الفيديو التي توثق حرائق أرامكو عقب الضربات، كما يظهر في “استغاثاتها” بالمجتمع الدولي؛ لحماية “مصادر الطاقة العالمية”، يمثل هذا الاستهداف في جزء منه إنذارًا عمليًّا بوجود، فبعض الضربات تستهدف أجزاء معيَّنةً من هذه المنشآت، أَو خزانات معينة، لتمنح العدوّ فرصة لـ”تخيل” الاستهداف الكامل لهذه المنشآت، علماً بأنه قد تم تقديمُ نماذجَ عملية قريبة لهذا المستوى من الاستهداف في بعض العمليات، أبرزها عمليةُ استهداف مصافي بقيق وخريص الشهيرة.

هذه الضربات (العقابية – التحذيرية) في آنٍ واحدٍ، والتي تتقلص الفترة الزمنية الفاصلة بينها بشكل مُستمرٍّ، تظهر بوضوح الموقع المتقدم لصنعاء اليوم في التحكم بالمشهد وفق خطط متكاملة لا يمتلك العدوّ أي شيء لإعاقتها، فبعد أن كان إطلاق عدد من الصواريخ أَو الطائرات على العمق السعوديّ يأتي ضمن ضربات استراتيجية يتلقاها العدوّ على فترات متباعدة نسبياً، أصبح ذلك عملاً شبه أسبوعي، وبشدة أكبر، وعلى مديات أبعد، (علماً بأن الضربات على المناطق الجنوبية في المملكة باتت شبه يومية)، وهذا يعني ارتفاعَ المخاطر إلى مستوى غير مسبوق بالنسبة للعدو الذي لا يستطيع أن يتعود على ذلك، وهو ينتظر ضربات أشد يعلم أن صنعاء قادرة على توجيهها.

وفي هذا السياق أَيْـضاً، من الملاحَظِ أن القواتِ المسلحةَ لم تعلن بعدُ عن استخدام بعض الأسلحة الجديدة التي أزاحت عنها الستار في معرض “الشهيد القائد”، (خُصُوصاً الطائرات المسيرة) في عمليات ضد العمق السعوديّ، الأمر الذي يعني أن خططاً متكاملةً أُخرى، ولكن في مستوى ردع أعلى، قد تم تجهيزها بأسلحتها وبنك أهدافها، وقد يتضمن هذا المستوى تقليص “الجانب التحذيري” للضربات الموجهة على المنشآت النفطية، التي يتم استهدافها في المستوى الحالي، من خلال دخول هذه الأسلحة التي تمتلك قدرة تدميرية أكبر.

الحقيقةُ أن صنعاء، فيما يخُصُّ ضرباتِ الردع العابرة للحدود، تبدو فعلاً على جُهُوزيةٍ مدهشةٍ لكل الاحتمالات، وبشكل يضمن وجود مفاجآت كبرى دائماً، وهذا ما يجعل كُـلّ ضربة توجّـهها تتجاوز تأثيرها اللحظي، وتحمل ثقل مرحلة كاملة ليس بمقدور العدوّ تجاهلها، وإنْ أصرَّ النظامُ السعوديّ على الاستمرار بالإنكار، فذلك فقط؛ لأَنَّه لا يملك خياراً آخر، لكن لسوء حظها لا تستطيع الرياض أن تفعلَ شيئاً حيال كونها “واجهة” في هذه الحرب، وبالتالي فَـإنَّ تأثيرَ الكبير للضربات سيتجاوزها دائماً وسيظهر بشكل رسمي وغير رسمي في خطاب وسلوك الإدارة الفعلية للعدوان، وهو ما يحدث اليوم، حَيثُ لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية ولا إسرائيل، تخفي قلقَها من التهديد الاستراتيجي الذي يمثله مسار الردع اليمني المتصاعد، ليس في حدود “الحرب الجارية” فقط، بل على مستوى المشهد الإقليمي على الأقل.

أخيراً، ووِفْـقاً لما سبق، فَـإنَّ عمليةَ “الثلاثين من شعبان” بوصفها جُزءاً من مرحلة ردع جديدة بدأت منذ فترة، تجدد وضع العدوّ السعوديّ ورُعاته أمام حقائقَ ثابتةٍ ما زالوا يُصِرُّون على تجاهلها ويظنون أن بوسعهم الالتفافَ عليها، وأبرز هذه الحقائق: أن الوقتَ ليس في صالحهم، وأن كُـلَّ حساباتهم السياسية والعسكريّة القديمة والمبنية على “احتمالات” إخضاع صنعاء بأي شكل، غيرُ قابلة للتحقّق مطلقاً، وهناك حقيقةٌ أُخرى هي: أن صنعاءَ مُستمرّةٌ بالتأكيد على هذه الحقائق وتقديمها بصِيَغٍ عمليةٍ أشدَّ، وأكثرَ إثارةً للانتباه كُـلَّ مرة، وكل المعطيات الموجودة تؤكّـد أن “سقفَ التجاهُلِ” الذي يمتلكُه العدوُّ –إن لم يكن قد انهار فعلاً- ليس أعلى من سقفِ القوةِ التي تمتلكُها صنعاء.

 

صحيفة المسيرة

قد يعجبك ايضا