3000 يوم صمود: كيف حوّلت صنعاء العدوانَ إلى “مشكلة” لرعاته؟
||صحافة||
3 آلافِ يومٍ مرت منذ انطلاق العدوان على اليمن، بإعلان مفاجئ كشفت لُغتُه ومِنصَّتُه هُــوِيَّةَ صاحب القرار الرئيسي والمصلحة العليا في كُـلّ ما ارتكب منذ ذلك الإعلان وحتى الآن من جرائمَ لم تترك أيَّ حق إنساني أَو قانوني للشعب اليمني إلا وانتهكته بأكثر الصور بشاعة، وكأنما حرص مرتكبوها على أن يضعوا أمام العالم كافة الأدلة والبراهين الممكنة التي تُدينُهم؛ بدافع الاستهتار والغطرسة؛ وباعتبار أن ذلك لن يكون مهماً عندما تتحقّق أهدافهم، غير أنهم اصطدموا بخصم قادم من خارج حساباتهم ومعادلاتهم؛ ليجدوا أنفسهم بعد أكثر من ثمانية أعوام يحاولون تجنب قدراته المتعاظمة التي لم تصبح فحسب دليلاً ثابتاً على حتمية فشلهم الذريع في اليمن، بل فتحت مسارَ تغيير جذري في موازين القوى في المنطقة بكلها.
الخُدعةُ الأمريكية:
كان واضحًا من خلال حرصِ الولايات المتحدة على احتضانِ الإعلان الرسمي للعدوان على اليمن، أن ثمةَ حساباتٍ قد أعدتها واشنطن بعنايةٍ؛ لتوزيع الأدوار، وأن هذه الحسابات لا تتضمن إنكار الدور الأمريكي في الحرب، بل بدا أن البيت الأبيض سعى لجعل إعلان الحرب “محميًّا” من الانتقاد والاعتراض، من خلال تبنيه بشكل رسمي؛ باعتبار أن صدوره من أمريكا يجعله أمراً واقعاً مهماً يصعب تجاوزه، لكن ذلك لا يعني أن واشنطن أرادت فقط توفير “غطاء” للنظام السعوديّ؛ مِن أجل مساندته؛ بل لدفعه نحو تولي مهمة التنفيذ والتمويل للحرب تحت وَهْــــمِ “الحماية” الأمريكية.
مبيعاتُ السلاح وَالمشاركةُ الأمريكيةُ للمعلومات العسكرية في عمليات العدوان أوضحت الصورة أكثر بعد ذلك؛ إذ كشفت أن الأهدافَ الحقيقيةَ للحرب هي أهداف أمريكية خالصة، وأن ما تم إعلانه من أهداف سعوديّة وإماراتية كانت فقط ضمن هامش غايات الولايات المتحدة التي لم تمانع تعرُّضَ الرياض وأبو ظبي للخسائر وللهزائم، بل إنها اتجهت بعد ذلك إلى ابتزازهما لمواصلة المخاطرة بأمنهما واستقرارهما، حتى بعد سقوطِ وَهْم “الحماية” الأمريكية.
صحيحٌ أن السعوديّةَ والإمارات لم تكونا غافلتَين عن حقيقة دورهما التمويلي والتنفيذي، لكنهما مارستا ذلك الدور تحت وهْم وجود “مصالحَ مشتركة” مع الولايات المتحدة الأمريكية (وهو الوهم الذي لا زالت واشنطن تحاول الحفاظ عليه كما يلحظ من حديث مسؤوليها المتكرّر عن “الشراكة الأمنية” مع الرياض وأبو ظبي).
لكن تعارض المصالح المتعلقة باستمرار العدوان على اليمن بدأ بالظهور سريعاً على الواقع، عندما بدأت كفة خسائر الرياض وأبو ظبي تزداد على حساب كفة المكاسب على الأرض، ثم بدأت المخاطر والتهديدات تتجاوز الجغرافيا اليمنية وتصل إلى العمقين السعوديّ والإماراتي وتؤثر على أمن واستقرار البلدين اللذين اكتشفا متأخراً أن مصالحهما أقل أولوية من مصالح الولايات المتحدة في هذه الحرب.
التأكيدات التي تكرّرت مؤخّراً بخصوص إدراك السعوديّة لضرورة الخروج من اليمن، تعني أن الرياض اكتشفت بعد ثلاثة آلاف يوم، أن “المصلحة المشتركة” التي دفعتها للتحَرّك في العدوان، كانت تقع على هامش مصالح أمريكية خَاصَّة، وعدم قدرة الرياض على التصرف إزاء هذه الحقيقة، يوضح أن الصورة التي بدت عليها العلاقة بين الطرفين في لحظة إعلان الحرب قبل ثلاثة آلاف يوم، لم تكن أبداً صورة أطراف لديها مصالح مشتركة، بل طرف ينفذ إرادَة طرف آخر تحت وهْم “حمايته”.
اليمن.. خصمٌ لا يخضعُ للحسابات التقليدية:
عمليًّا، وبعد ثلاثة آلاف يوم، لم تتحقّق لا “المصالح المشتركة” بين دول تحالف العدوان وأمريكا، ولا مصالح أمريكا الخَاصَّة المتعلقة بالحرب، والسبب الأبرز كان أن الحسابات المشتركة والخَاصَّة لأطراف معسكر العدوّ، عجزت عن التعامل مع الخصم.
لقد وزّعت واشنطن الأدوار، وضمنت انطلاق الحرب واستمرارها بأدوات إقليمية ومحلية، لكنها جعلت “الحسمَ” متعلقاً بهذه الحسابات، وتجاهلت الطرف المقابل في الحرب؛ اعتماداً على تقديرات بأنه حتى إن حدثت مقاومةٌ شرسة فَــإنَّها ستظل في إطار محدود يمكن السيطرة عليه، والحقيقةُ أنها حتى لو كانت توقعت أكثرَ من ذلك لن يؤثر ذلك على ما نتج؛ لأَنَّ كُـلَّ الأطراف في معسكر العدوّ -بما في ذلك أمريكا- قد اندفعت بأقصى طاقاتها ولم تدخر جُهداً في محاولة تحقيق الحسم.
ما حدث هو أن الولاياتِ المتحدة لم تتوقعْ أصلاً حجمَ ونوعيةَ المقاومة اليمنية للعدوان، كما أن هذه المقاومة لم تكن محكومة بالمعادلات التي تبني عليها الولايات المتحدة توقعاتِها وتقديراتها؛ وهذا هو التفسير الوحيد المنطقي لفشل ترسانة الخبرات والإمْكَانات والمال التي تملكها دول العدوان في حسم المعركة غير المتكافئة، ثم عجزها عن وقف تصاعُدِ وتعاظم قدرات الجيش واللجان الشعبيّة.
صحيحُ أن الفشلَ لم يقتصرْ على الجانب العسكري، لكنه عادةً الجانب الذي يمكن إخضاعُه للحسابات والمعادلات، وبالنظر إلى حجم إمْكَانات العدوّ فَــإنَّ فشله في تحقيق أهدافه يعتبر نتيجةً صادمة، وحتى إن تم الالتفاف على هذه الحقيقة، فَــإنَّ الفشل في مواكبة تطور قدرات صنعاء (التي بدأت من الصفر وفي ظروف صعبة ومتواضعة) لا تفسير له سوى أن المقاومة اليمنية جاءت بمعادلات وحسابات جديدة غير تقليدية وليست مفهومة للخصم، وهذه النتيجة صادمة بالتأكيد؛ لأَنَّها لا تؤكّـد حتمية فشل العدوان في اليمن، بل تبقي باب المفاجآت مفتوحاً على نتائجَ أُخرى تأثيرُها أوسعُ وأطولُ أمداً؛ وهو ما يجعل قرارَ الحرب أكثرَ من مُجَـرّد خطأ في التقدير بالنسبة للعدو.. إنه بوابة جهنم.
كيف حوّلت صنعاء العدوان إلى مشكلة لأمريكا وأدواتها؟
ستظلُّ استراتيجياتُ وحساباتُ الصمود اليمني في وجه العدوان محلَّ نقاش لفترة طويلة بالتأكيد، وخُصُوصاً فيما يتعلق بالمواجهة القتالية وفرضِ المعادلات على الأرض، وربما لا يمكن دراستُها بشكل كافٍ في ظل استمرار المعركة، لكن ما زال بالإمْكَان تفحُّصُ النتائج ورؤية المسارات الواضحة للانتصار اليمني الذي يمكن القول: إن من أهم مميزاته هو منطقُه الخاص المتكامل؛ فمعطياته لم تكن تظهر فجأة، بل ترتبت بشكل تصاعدي مُستمرّ جعل من كُـلِّ التحديات والمعوقات بلا تأثير تقريبًا.
من مسارات هذا النصر الاستثنائي التي يمكن تتبُّعُها، المسارُ التي تمكّنت فيه صنعاء وقيادتها من تدمير أَسَاس “المصالح” الذي قام عليه العدوان، من خلال تحويلِ الحرب إلى مشكلة كبرى لأطراف تحالف العدوان نفسه؛ فعمليات الردع العسكري العابرة للحدود مثلًا، وفي الوقت الذي كانت تسبب فيه أضراراً بالغة للسعوديّة والإمارات، كانت “تبني” تهديدًا استراتيجيًّا ثابتاً للولايات المتحدة الأمريكية ولمشروعها في المنطقة بأكملها، سواء فيما يتعلق بالمطامع الاقتصادية أَو حتى بالمؤامرات السياسية والعسكرية، وخروج الكيان الصهيوني عن صمته أكثرَ من مرة للتعبير عن مخاوفه من القدرات اليمنية دليلٌ واضح على ذلك.
صحيحٌ أن الولايات المتحدة لا زالت تدفعُ نحو استمرار العدوان والحصار والاحتلال، لكن ذلك لا يعني أنها تجهلُ تماماً خطورةَ تبعات هذا المسار بعد كُـلّ ما حقّقته صنعاء من إنجازات، وهذا ما تفسِّرُه الطريقةُ التي لجأت بها واشنطن لتفادي هذه الخطورة؛ فهي تدفع نحو حالة اللا حرب واللا سلام؛ لإدراكها أن طريق التصعيد المباشر-وإن كان الجزء الأكبر من عواقبه سيحل بالسعوديّة– سيرفعُ حجمَ التهديد للمصالح والمطامع الأمريكية في المنطقة (وقد حذر الرئيس من أن التداعيات ستكون عالمية)، وبالمقابل فَــإنَّ طريقَ السلام يعني ضمانَ بقاء هذا التهديد وتصاعده وتوسعه بحرية.
لقد فجّرت صنعاء فقاعةَ “المصالح المشتركة” التي كانت تغري السعوديّة والإمارات بمواصلة العدوان والحصار، ثم وجّهت نيرانَها نحو المصالحِ المباشرة للولايات المتحدة (وهي المصالحُ الأَسَاسية التي انطلق منها العدوان)، وبين هذا وذلك، أصبحت الحيلةُ الوحيدة بيد واشنطن هي تجميد الوضع ومحاولة “تقييد” الخطر، وخلق جَوٍّ يتيحُ في الوقت نفسه مواصلة الاستهداف من الداخل، من خلال محاولة فرض مشروع التقسيم، وتكريس واقع الاحتلال، وغير ذلك من الممارسات.
مع ذلك فَــإنَّ هذه الحِيلةَ ليست “حَلًّا”؛ لأَنَّ الطريقةَ الوحيدةَ لاستثمارها هي ضمانُ استمرارها إلى الأبد؛ وهو الأمرُ الذي قد حكمت القيادة الوطنية باستحالته؛ ما يعني أن المشكلة التي تواجهها دولُ العدوان -وعلى رأسها أمريكا- لن تختفي ببساطة، وعاجلاً أم آجلاً، سيكون حتى على واشنطن أن تواجِهَ الحجمَ الحقيقيَّ لـ “مشكلة” استمرار العدوان.
صحيفة المسيرة