الاعتداء على القرآن وسياسة الخنق بالاستفزاز

||صحافة||

لا يمكننا قراءة جريمة حرق نسخ من القرآن الكريم في أوروبا والعالم الغربي إلا من باب تشجيع العداء بين الشمال والجنوب. فقد توالت التعديات على القرآن الكريم في الولايات المتحدة على يد القس تيري جونز مرتين في 2011 – 2012، وتم تدنيسه بشحم الخنزير من قبل متطرفين في كييف في آذار من هذا العام، وغير ذلك مما يحدث في دول الديمقراطيات العالمية المزعومة في السويد والدانمارك وغيرهما.

تشجيع هذا العداء بين الغرب والعالم المسلم له أسباب كثيرة، وأهمها إحكام السيطرة على العالم من خلال عمليات الترهيب الممارسة، والدفع نحو إرهاب يمكن نسبته للمسلمين، فيما المجتمع الأوروبي يغص بإرهاب العنصرية والتحريض على القتل.

خلال السنوات المئة التي خلت كان المجتمع الغربي يحضر لما يسمى اليوم الإسلاموفوبيا، أو عقدة الخوف من الإسلام، ولكن هذا النوع من أنواع الرعب المرضي أخذ ما بين السنوات 1979- 1991، إجازة قصيرة في عمر التاريخ، وهي سنوات الحرب ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وحلت محلها الشيوعي- فوبيا. فكلما أراد أحد من المفكرين أو المؤرخين أو حتى الصحفيين أن يعيد التفكير ويفضح النظام الرأسمالي الحاكم وعلاقته بنشر المخدرات والحروب العبثية والأمراض في بلاد الديمقراطية والعالم كان يتهم بأنه شيوعي، ويتهم بالتواطؤ مع السوفييت أو الصينيين من أجل تقويض النظام الحر في بلاد الحريات والديمقراطية. فإذا كانت الطبقة المثقفة تخضع لهذا الحجم من الضغط والترهيب فماذا عن فئات المجتمع البسيطة والتي جل ما يهمها هو كيفية دفع أقساط البيوت والسيارات والتأمين الصحي والتأمين على الحياة وتامين الشيخوخة؟ صحيح أن الأوروبي والكندي يتمتع بمروحة واسعة من الخدمات الطبية والتقاعدية والشيخوخة، بعد سن التقاعد، إلا أنه حتى يصل إلى تلك المرحلة من تقديم الخدمات عليه أن يدفع الضرائب المرتفعة.

هذا الكلام نقوله لنشرح أسباب الحقد المتراكمة لدى الشعوب الأوروبية التي تربت على العنصرية، وحتى أن الـ”ناشونال ريفيو” كشفت عن اتهامات بين كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأميركي، وبين رون دوسانتس، حاكم فلوريدا والمرشح المنافس لترامب، حول ادخال مناهج تحاول اللعب على تاريخ العبودية وتعليم الطلاب أن العبودية ساهمت في تعليم “العبيد” مهارات كانوا يفتقدونها. أي أن البيض ما زالوا في الغرب يرون أن لهم فضلًا على الجنس البشري المختلف عنهم وأن لهم ميزات ومهارات خاصة. وقالت في تغريدة لها إن “المتطرفين في فلوريدا يمنعون الكتب في محاولة لإلغاء جزء من التاريخ ويهدفون إلى تعليم طلابنا أن عبودية البشر كانت مفيدة لهم”.

وما يحدث اليوم، مرتبط من ناحية أخرى بتراكم العبء الاقتصادي، وما يراه الأوروبي من أنه نتائج الهجرة التي شهدتها أوروبا ما بعد العام 2015، والتي نتجت عن سلسلة الربيع العربي، ولنكن أوضح سلسلة الربيع الصهيوني التي اجتاحت دولًا كثيرة في العالم، والتي استطاعت تهريب أعداد هائلة من مهاجرين من أفريقيا وآسيا باسم المهاجرين السوريين، والذين يرى الأوروبيون أن احتضانهم وتقديم مقابل لسكنهم والخدمات الاجتماعية والصحية، هي مقتطعة من الضرائب الهائلة التي يدفعونها هم ومن تحصلوا على الجنسيات الأوروبية من المهاجرين القدماء، وحتى هؤلاء يشعرون بالحقد على المهاجرين الجدد لأنهم عوملوا أحسن بألف مرة من التعامل معهم خلال سنوات الثمانينيات والتسعينيات، وفي هذا كلام آخر ولكن يمكنه أن يشرح أسباب الحقد. وهذا يجعلنا نتمعن بما جاء في مقال مترجم للكاتب ERIC MORTENSON: “الجميع يقرؤون من كتاب متهالك، بعيداً عن الحقيقة وعن الحاجات الحقيقية للمجتمع”. وهو بذلك يصف ركوب الحكومات المتطرفة موجات الحقد بين اليمين المتطرف. ويكمل ERIC MORTENSON: “فاليمين الحاكم والسياسيون يركزون على المسائل القديمة وينسون أن العالم تغير! بينما المهاجرون لديهم عقدة عدم الثقة في المجتمع، إنها كوميديا سياسية تجسد مجريات الحياة المتطرفة واختلاف وجهات النظر في المجتمع الفاقد للتوازن”.

هذا في الخلفية الاجتماعية التي تسود في أوروبا بالتحديد، وبدرجة أكبر من شمال أمريكا، لأن الأخيرة هي في الأساس معاقل للمهاجرين، والتي بسبب وجود المحيط الأطلسي استطاعت أن تكون انتقائية في استقدام المهاجرين الجدد منذ الثمانينات وحتى اليوم. وما يحدث اليوم أهدافه مختلفة والسياسات المبني عليها هي أيضاً مختلفة بما يتعلق بحرق نسخ من القرآن الكريم تحديداً، ولكنها بالتأكيد تستفيد من تاريخ الخلفية الاجتماعية وخاصة تلك المبنية على العنصرية الاستعمارية، والتي بنيت على أساسها عظمة أوروبا وجمالها ونظافة شوارعها ونوعية الخدمات التحتية المقدمة فيها والرواتب المرتفعة التي يقبضها موظفوها وعمالها.

ومن أهم أهداف السياسة الكامنة وراء حرق القرآن والسماح بذلك هو استفزاز وزيادة حنق المسلمين ومن ثم خنقهم. والخنق بالاستفزاز يتم من خلال حرق الكتاب المقدس لديهم، لأن التجارب السابقة لم تتعدَّ الردود فيها على حرق القرآن الإدانات والتنديد، مما سمح لمن يريد الاستفزاز بإعادتها مراراً وتكراراً. والاستفزاز متضمن في صعوبة الرد بين الناس العاديين، لأن كلًّا من الإنجيل والتوراة يعدان كتابين مقدسين بالنسبة للمسلمين، ولن يقوم المسلمين بإهانتهما أو رسم كاريكاتورات تقوم بإهانة السيد المسيح أو النبي موسى. وهذا ما سيتسبب بمزيد من الحنق لدى المسلمين، إذ لا يستطيع المسلم في الأساس اعتبار أن الحق وحرية الرأي يكونان من خلال إهانة المقدسات، وإلا بالتأكيد فهو ليس مسلم، وإن كان له مآخذ على الآخرين فهو يحاول الاحتفاظ بها في داخل مجتمعه.

بسبب شناعة الحدث، انطلقت المظاهرات في العراق وطالبت بطرد السفير السويدي ومقاطعة البضائع السويدية. وبناء على ردة الفعل، التي تعد بالفعل شجاعة في العراق ومنها امتدت لدول أخرى، تتالت الدعوات لمقاطعة السويد وانطلقت المظاهرات المنددة، وانطلقت المطالبات بمقاطعة السويد والدانمارك، لأنه إن لم يتم اتخاذ خطوات جدية لمعاقبة مرتكبي هذا العمل الشنيع، وبالتالي وضع حد للشرطة السويدية لإعطاء الرخص لهذا النوع من الأعمال فإن حالة الحنق التي يذهب إليها المسلمون قد تتطور لتصبح حالة عنفية، ولربما هذا ما تريده ما توصف بالكتلة الصفراء المتعصبة داخل السويد. ولذلك فإن القرار بطرد السفير السويدي في العراق، وخاصة أن حرق القرآن كان أمام السفارة العراقية في حالة تحد مباشر من قبل سلوان موميكا لدولته، كان قراراً شجاعاً. خاصة وأن موميكا فعل فعلته بملء إرادته وبتشجيع من الحزب القومي المتطرف “الكتلة الصفراء” الذي ينتمي إليه، متأملاً بتمديد الإقامة في السويد.

لا تستطيع الحكومة السويدية بالتأكيد معاداة العالم الإسلامي إذا ما قرر اتخاذ خطوات مشابهة لما فعله العراق، وبحسب وكالة الأنباء السويدية، في الخميس الماضي /3 آب/اوغسطس/ قررت السويد إنهاء إقامة سلوان موميكا الذي قام بحرق القرآن، فقام الأخير بنشر تغريدة وبالاتصال بإحدى الصحف السويدية مستنجداً بأن السيد مقتضى الصدر ورئيس الوزراء العراقي سيكونان باستقباله وسيحكم عليه بالشنق. ومع ذلك فقد ذكرت وسائل إعلام سويدية أن وكالة الهجرة السويدية تعيد فحص تصريح الإقامة الممنوح “للاجئ عراقي” كان وراء عدة حوادث لتدنيس المصحف في استوكهولم في الأسابيع الأخيرة، الأمر الذي أثار غضب المسلمين في جميع أنحاء العالم. ولذلك فقد اقترح وزير الداخلية السويدي، غونار سترومر، تعديلًا قانونيًّا يهدف لحظر المصحف الشريف في البلاد.

الخميس الماضي كان حافلاً بالأحداث في السويد، فقد اجتمع وزير التجارة الخارجية والتنمية يوهان فورسيل بقائمة من الشركات السويدية من أجل مناقشة التهديدات بالمقاطعة بعد حرق القرآن. وعلق فورسيل: “نعلم أن هناك دولاً فاعلة تريد الإضرار بالسويد والمصالح السويدية، لذلك فقد دعوت العديد من الشركات السويدية التي تجري عمليات حيث رأينا ردود فعل قوية”. فهل المقصود بالدول التي تريد الإضرار بالسويد هي الدول التي تدعو لمقاطعتها أم هي الدول التي دفعت بأمثال موميكا للقيام بهكذا أعمال؟ كلام فورسيل يجب الوقوف عنده وتفنيده ولكن الإجابة عليه تتطلب قراءة في تاريخ العلاقات بين العرب والسويد.

أما في قراءة للصحف ولردود أفعال موميكا فيها، فيظهر منها أن موميكا شخص وصولي، وهو جزء من جماعة متطرفة في السويد يحاول الحصول على اللجوء السياسي، ولو عبر تعريض حياته للخطر باسم “حرية التعبير”، اذ قالت المدعية العامة آنا هانكيو، لصحيفة SvD السويدية، التي تقود التحقيق الأولي حول إذا ما كان الحرق جريمة على تحريض الكراهية: “عليك أن تنظر إلى الوضع برمته لترى إذا ما كان يمكن أن يكون جريمة”، و: “إن الأمر لا يقتصر على تدنيس الكتاب نفسه فحسب، بل يتعدى ذلك إلى الأقوال والأفعال التي حدثت في هذه الأثناء”. سرد ما حدث من تغييرات في السويد من خلال مواقف الحكومة والوزراء وحتى الأحزاب اليسارية المعارضة للحرق، ومنها الحزب الاجتماعي السويدي والحزب الاشتراكي ليس هدفه إظهار ديمقراطية الدولة، بل هدفه إظهار القوة الحقيقية التي تتمتع بها مجتمعاتنا إذا ما وقفت إلى جانب حقوقها الدينية والمدنية والسياسية والأمنية والوطنية، إنها قوة حقيقية تستطيع فرض التغيير حول العالم وقطع حبل الخنق المسلط على رقابنا.

 

العهد الاخباري: عبير بسّام

 

قد يعجبك ايضا