طوفان الأقصى… وازدواجية المعايير الغربية
“عملية ‘طوفان الأقصى’، التي انطلقت في العام الماضي، لم تكن مجرد حدثًا عابرًا أو نوعًا من أنواع الصراعات الإقليمية. بل كانت صرخة من قلب فلسطين المحتلة، هزت ضمير الإنسانية ونبهت العالم إلى وجود مظلومية عميقة يعانيها الشعب الفلسطيني منذ عقود.
سبقت العملية تهجير العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح في القدس الشرقية المحتلة، بحجة أنها تعيق تنفيذ خطط استيطانية إسرائيلية. هذه الأحداث القمعية، التي تخللتها اعتداءات واستفزازات متكررة من المستوطنين الإسرائيليين، أشعلت فتيل غضب الشبان الفلسطينيين وأدت إلى احتجاجات واسعة النطاق.
كان هناك أيضًا اعتداءات إسرائيلية وتدنيس للمسجد الأقصى المبارك، وتضييقٌ على المصلين، واحتجاز المئات من الفلسطينيين داخله. والمجتمع الدولي، كالعادة، يغض الطرف عن الانتهاكات الصهيونية التي تستوجب التصدي لها، ويتجاهل معاناة الشعب الفلسطيني. عوضًا عن ما يعانيه الشعب الفلسطيني من انتهاكات لكرامته والقتل اليومي الذي يطال الجميع، رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، مع حصار وتهجير وسجون يقبع فيها آلاف من الفلسطينيين، أغلبهم يقضون أعمارهم داخل المعتقلات الصهيونية، ويتعرضون لهدم منازلهم ومصادرة أراضيهم، وممارسة كل صنوف التنكيل والفصل العنصري بحقهم.
وإلى جانب تصاعد الاعتداءات الصهيونية ضد الفلسطينيين، كان الأمريكي يواصل نسج مؤامرة تصفية القضية الفلسطينية تحت عنوان التطبيع مع الكيان الصهيوني. وقد بدأت بعض الدول العربية بدون خجل إعلان تطبيع علاقاتها مع العدو الإسرائيلي على حساب القضية الفلسطينية، واتخذت خطوات متقدمة، منها توقيع اتفاقيات اقتصادية وأمنية. وبات الأمر أكثر وضوحا أن القضية الفلسطينية تمر بمرحلة حرجة و غير مسبوقة تستدعي خطوات ضرورية لإيقاف المؤامرة والحفاظ على تضحيات الشعب الفلسطيني وما قدمه من أثمان باهظة طوال نصف قرن و على ما تبقى تحت ايديهم فكانت عملية طوفان الأقصى.
إن عملية “طوفان الأقصى” لم تكن مجرد انفجار للغضب، بل كانت رسالة واضحة وصارخة، تطالب بالحرية والكرامة للشعب الفلسطيني، وتذكر العالم بأن الظلم لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، وأن الحقوق الإنسانية لا يمكن تصفيتها أو تجاهلها أو إهمالها.
في لحظة حاسمة قررت المقاومة الفلسطينية أن تأخذ زمام المبادرة و نفذت عملية طوفان الأقصى و كشفت هشاشة الكيان الصهيوني وضعف قدراته الاستخبارية والأمنية و أحيت الأمل لدى شعوب الأمة أن الحق لا يمكن يضيع وأن فلسطين يمكن أن يتحرى، إلا أن الموقف الغربي بكله أمام هذه الخطوة أصابه الجنون و كشف عن حقيقته وازدواج معاييره، ففيما يغرق الفلسطينيون في بحر من الظلم والتهميش على مدى نصف قرن، تتجاهل الأصوات الدولية صرخاتهم المنهكة. إنها مأساة طويلة الأمد، يرفض الكثيرون الاعتراف بها أو حتى التفكير فيها.
ازدواجية أمريكية وغربية فاضحة
” طوفان الأقصى“، الحدث الذي أوقف العالم على قدميه، لم يكن مجرد رد فعل مشروع على الاعتداءات الصهيونية، بل كان صدمة غير متوقعة في الوعي الغربي المائل لإسرائيل. عقب هذا الحدث، خفتت الأضواء والنقاشات المطولة حول انتهاكات حقوق الإنسان في أوكرانيا، وفقًا لادعاءاتهم، وخمدت أصوات المنظمات الدولية والمؤسسات المدافعة عن حقوق الإنسان.
توجه الغرب بكامل ثقله إلى “تل أبيب”، مُقدمًا العزاء للصهاينة ومُعلنًا دعمه غير المشروط لحق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها، مُلصقًا بالمقاومة الفلسطينية تهمة الإرهاب ومطالبًا بالإفراج الفوري وغير المشروط عن الأسرى الصهاينة. بدأت الأساطيل الحربية الأمريكية تتجه نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة للدفاع عن الصهاينة، وتوالت الجسور الجوية من مختلف الدول الأوروبية تحمل الأسلحة والقنابل إلى المطارات الصهيونية.
انطلقت عملية الانتقام التي وجد فيها اليهود فرصة لإشباع حقدهم ضد الفلسطينيين، وشُنت عمليات إبادة وجرائم لا مثيل لها لم تستثنِ شيئًا، حتى المستشفيات وسيارات الإسعاف وعمال الإغاثة، في انتهاك صارخ لكل المواثيق الدولية والإنسانية. لكن في نظر الغرب، كل هذا يُعتبر حقًا مشروعًا لإسرائيل، في انحياز مطلق للقتلة والمجرمين.”
في ظل هذا السياق المرير، لا يمكن للمرء إلا أن يستنكر الازدواجية الواضحة في مواقف الغرب، فكيف يمكن أن يحتجب العالم عن رؤية مأساة شعب يعاني تحت وطأة الاحتلال والاضطهاد، في حين يتلقى أزمة في أي مكان آخر من العالم اهتماماً دولياً فورياً؟
نعم، لنلقِ نظرة على أوكرانيا، حيث تتدفق التضامن والدعم الدولي بلا حدود، ولكنها الصمت الرهيب يخيم فوق غزة، حيث تستمر القذائف في الانهمار على منازل الأبرياء دون رحمة. هذا التناقض يكشف أن الدول الغربية تخادع العالم وتبتزهم بعناوين الدفاع عن حقوق الإنسان والعدالة.
لقد رفضت أمريكا ومعها بعض الدول الأوربية الامتثال للقانون الدولي أو لإجماع المجتمع الدولي في مجلس الأمن حيث استخدمت أمريكا حق النقض أكثر من مرة ضد قرارات تدعو لوقف إطلاق النار في غزة ودخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع.. كما امتنعت بريطانيا عن التصويت هذا السلوك الفاضح لم يعد تناقضا وحسب بل نفاقا صارخا ففي نفس الوقت التي تحشد فيها أمريكا دول العالم ضد روسيا وضد دول أخرى بينها اليمن على سبيل المثال نجدها تقف بكل قوة وبكل الوسائل ضد أي قرار يمس بإسرائيل بل يخرج الساسة الأمريكيون بتصريحات عنصرية صهيونية مقيته..
بل وصلت الوقاحة الأمريكية بإطلاق تهديدات لقضاة المحكمة الدولية التي استمعت إلى مرافعات ضد الجرائم الصهيونية من جنوب أفريقيا ودول أخرى .. إنه الإجرام الأمريكي المعهود منذ تأسست هذه الدولة وهي تعيش على الحروب والمآسي وتفتك بالبشرية قتلا وتدميرا..
سقوط الأقنعة
إن الصور الدامية التي يتم تناقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبر شاشات القنوات لجثث الأطفال و النساء المتناثرة و المقابر الجماعية واستغاثة الأطفال التي لم تجد نفعا و مجازر استهداف النازحين ومشاهد اقتحام المستشفيات وقتل المرضى و الأطباء قد هزت ضمائر الأحرار في مختلف دول العالم و بالذات في الدول الغربية فخرجت المظاهرات ففي شوارع أوروبا و أمريكا و نتج عن ذلك حراك طلابي واسع في الجامعات الأمريكية امتد إلى جامعات أخرى في أوروبا ولكن الانظمة الغربية الخاضعة للهيمنة الصهيونية واصلت تعاملها بنفس الطريقة التي تعاملت بها مع جرائم الاحتلال فنشرت عناصرها الأمنية لاعتقال كل من يتضامن مع غزة وطالت الممارسات القمعية كل من يعبر عن غضبه أو موقفه من تلك المشاهد المصورة فتم فصل الكثير من الاكاديميين وطرد الطلاب و امتد السلوك القمعي إلى الشركات و إلى الأندية الرياضية في مشهد آخر يؤكد انحياز فاضح إلى جانب القتلة و السفاحين، فمن يتجرأ على التضامن مع غزة في الغرب يجد نفسه ملاحقاً ومضطهداً، حيث يُنظر إليهم بعين الشك والانتقام.
العقوبات الغربية تجاه من يضامن مع غزة طالت حتى المؤسسات الدولية الإنسانية التي كانت تعمل في غزة مثل الأونروا وغيرها من المنظمات، بل ظهر الكثير من المسؤولين في الدول الغربية يصرحون بأنهم لا يهمهم أطفال فلسطين وما يهمهم هو الدفاع عن إسرائيل..
لقد تكتل الغرب اقتصاديا وسياسيا لكن هذه المرة ضد أنفسهم وضد المعايير والشعارات التي طالما سوقوها وفرضوها على العالم وسعوا من خلالها لفرض اجنداتهم ومصالحهم ولكن فيما يخص الحقوق الفلسطينية يحاولون أن يلووا بها أعناق الحقائق والوقائع على الأرض بما يؤدي في نهاية المطاف، إلى ما يتلاءم ويتناسب مع ما يريدون، بصرف النظر عن الحق والعدل.. إنها ازدواجية صارخة وفاضحة لم يعد يقبل بها أحد حتى مجتمعاتهم في ظل المشاهد المؤلمة والانتهاك الصارخ للإنسانية في فلسطين.. نجدهم الكثير من مواطنيهم يخرجون ويصرخون في الشوارع وفي وسائل الشوسيال ميديا يعرون هذه السياسة القبيحة.
ولطالما روج الغرب بأن حرية الرأي والتعبير من القيم الأساسية التي يتبناها الإعلام. ولكن ماذا يحدث عندما يتعلق الأمر بإسرائيل؟ هل تظل هذه المبادئ قائمة عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية؟
حرب غزة الأخيرة أظهرت بوضوح انحياز وسائل الإعلام الغربية إلى جانب إسرائيل. على الرغم من الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة، إلا أن بعض وسائل الإعلام تجاهلت هذه الجرائم وركزت على تبريرات للعدوان الإسرائيلي.
هنا بعض الأمثلة على سقوط الأقنعة الغربية:
BBC بالعربية: قامت هيئة الإذاعة البريطانية بفصل مراسلين وتوقيف آخرين مؤقتًا بسبب تغريداتهم حول العدوان الإسرائيلي على غزة. هذا يظهر تحيّزًا واضحًا تجاه إسرائيل .
شبكة MSNBC الأميركية: أبعدت ثلاثة من أبرز مذيعيها من المسلمين، وهم من أبرز المتخصصين بالقضية الفلسطينية، عن الشاشة. هذا يُظهر تراجعًا في حرية التعبير .
دروس من علمية طوفان الأقصى
من العبر الجلية التي استخلصت من عملية “طوفان الأقصى” هي الكشف عن واقع الكيان الصهيوني، مُظهرةً ضعفه وهشاشته على الصعد الأمنية والعسكرية والاستخباراتية. وقد جسدت هذه العملية تأكيدًا للحقائق القرآنية الواردة في سورة آل عمران، حيث يقول الله تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} [آل عمران: 111]. وكشفت عن اخفاق كبير للجيش الإسرائيلي وشلت قدراته وأصيب الصهاينة المغتصبون بصدمة كبيرة جداً.
كما أعادت طوفان الأقصى مركزية القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بعد أن كادت تضيع بسبب التآمر الصيهوأمريكي وبعض الأنظمة العربية ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية واستبدالها بالتطبيع مع العدو الإسرائيلي.
أيضا أظهر الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية وعلى مدى أكثر من نصف عام في مواجهة آلة التدمير والإبادة والدعم الغربي والأمريكي الغير محدود للصهاينة والصمت العربي والإسلامي اللهم إلا من اليمن وحزب الله اللبناني والمقاومة العراقية.. وأن هذا الصمود قد أعاد الأمل بإمكانية تحرير الأرض بسواعد أهلها ورجالها.
من الدروس أيضاً أنها فضحت الغرب وأمريكا وكشفت حقيقتهم وأنهم لا يختلفون من حيث المبدأ ومن حيث العقيدة والتوجه عن الصهاينة وأنهم قتلة مجرمون وكل تلك الشعارات عن حقوق الإنسان وعن الحرية والديمقراطية وعن المرأة والطفل لم تكن سوى عناوين لفرض أجنداتهم ومصالحهم..
كما أظهرت عملية طوفان الأقصى اليهود على حقيقتهم كقتلة سفاحين مجرمين أمام الرأي العام العالمي خصوصا في الدول الغربية التي كان يعتبر نقد إسرائيل جريمة يعاقب عليها القانون ورأينا الكثير من المظاهرات والكثير من الأشخاص يعبرون عن تعاطفهم مع الشعب الفلسطيني ويدينون ما السلوك الصهيوني المجرم..
كشفت أيضا عن فشل أجهزة الاستخبارات الغربية بما فيها الصهيونية والتي تصنف بأنها من اقوى أجهزة الاستخبارات عالميا عن الكشف عن أسرى الصهاينة في محيط صغير مثل مدينة غزة والتي لا يتعدى حجمها عن 360 كلم مربع.. وهذا يؤكد تفوق المقاومة الفلسطينية رغم قدراتها المتواضعة..