موقع أنصار الله . تقرير | علي الدرواني

في خطوة لم تكن مفاجئة من حيث التوقيت والدلالة، شنت طائرات العدو الإسرائيلي منتصف الليلة الماضية سلسلة غارات جوية مكثفة استهدفت البنية التحتية الساحلية في اليمن، وتحديدًا موانئ الحديدة، الصليف، رأس عيسى، ومحطة كهرباء في منطقة رأس كثيب. وقد تركزت الضربات على محيط السفينة الإسرائيلية “Galaxy Leader”، التي سبق أن احتجزتها القوات المسلحة اليمنية في نوفمبر 2023، في واحدة من أولى العمليات العسكرية المباشرة التي أعلنت فيها صنعاء انخراطها الفعلي في معركة دعم الشعب الفلسطيني.
الغارات الإسرائيلية، التي جاءت في ظل توحش إسرائيلي متصاعد ضد أبناء غزة، ووسط حديث عن قرب التوصل إلى هدنة، حملت في طياتها أكثر من رسالة. فمن جهة، عكست محاولة إسرائيلية يائسة لإعادة ضبط قواعد الاشتباك مع جبهة الإسناد اليمنية الصاعدة.
استهداف موانئ مدنية تُعد شرايين حياة لملايين اليمنيين، لم يكن سوى محاولة استعراضية ذات طابع عقابي، تؤكد على أزمة داخلية لدى إسرائيل تتعلق بانعدام الأهداف العسكرية المباشرة، والعجز عن مواجهة جبهة لم تعد تعتمد أسلوب المناوشات، بل باتت تملك القدرة على المبادرة والتأثير والردّ المؤلم.

أهداف مدنية وفشل إسرائيلي واضح:

لا تعدم الخرقاء علة، ولا يعدم العدو الإسرائيلي تقديم مبررات مهما كانت فارغة وغير مقبولة، يستند في ذلك إلى الصمت الدولي والدعم الغربي لكل أكاذيبه وإجرامه وتوحشه، وحين يزعم أن الغارات العدوانية على موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى جاءت بدعوى أن هذه المواقع تُستخدم لتهريب الأسلحة من إيران إلى اليمن.
لكن هذه التبريرات لا تصمد أمام أبسط مراجعة للواقع الميداني؛ فالموانئ المستهدفة تُعد شرايين حياة مدنية، مخصصة لاستقبال المواد الغذائية والشحنات التجارية والسلع الإنسانية، ولا تندرج ضمن قائمة الأهداف العسكرية بأي شكل من الأشكال.
استهداف مرافئ وموانئ خالية من الطابع العسكري يعد سلوكا عدوانيا فجا، يتعارض مع القانون الدولي الإنساني، لكنه في الوقت نفسه يعكس دلالة عسكرية وسياسية أعمق، تتمثل في عجز إسرائيلي عن التعامل مع جبهة الإسناد اليمنية، وفشلها في تحييدها ميدانيا.
في ظل اتساع مساحة التأثير التي باتت تفرضها صنعاء، لم يجد الكيان المجرم ما يرد به سوى مهاجمة أهداف مدنية، في خطوة يائسة تعكس مأزقًا حقيقيًا أمام التقدم النوعي والتقني الذي أظهرته القوات المسلحة اليمنية. فهذه الغارات لم تكن سوى اعتراف غير مباشر بالعجز، ومحاولة استعراضية للضغط السياسي والعسكري، لكنها دائما ما تأتي بنتائج عكسية.
إن عدم وصول العدو الى تحديد أهداف عسكرية كمراكز إطلاق أو مواقع تسليح فعلية – إن وُجدت – يجعله يلجأ إلى تدمير أرصفة ومرافئ تُستخدم لنقل القمح والدواء، في خطوة يصفها مراقبون بأنها "وقحة، ويائسة، وتفتقر للحد الأدنى من التوازن العسكري أو الأخلاقي".

اليمن يرد في العمق: سرعة القرار ودقة الهدف

في المقابل، جاء الرد اليمني سريعًا وحاسمًا، بعد أقل من أربع ساعات فقط من الغارات الإسرائيلية، في عملية منسقة على مستوى من الدقة والتنظيم، استهدفت عمق الكيان الإسرائيلي، وتحديدًا مطار اللد المسمى "بن غوريون"، ميناء أسدود، محطة الكهرباء في عسقلان، وميناء أم الرشراش (إيلات). استخدام الصواريخ الفرط صوتية والطائرات المسيّرة بعيدة المدى لم يكن مجرد رد فعل عسكري، بل رسالة استراتيجية مزدوجة: أولًا، التأكيد على امتلاك صنعاء لزمام المبادرة الميدانية وقدرتها على توسيع جغرافيا الاشتباك؛ وثانيًا، إثبات أن استهداف المنشآت المدنية في اليمن لن يمر دون ثمن، وأن معادلة "الردع المتبادل" ستبقى قائمة وقابلة للتفعيل الفوري.
العملية شكّلت أيضًا اختبارًا ناجحًا لمستوى التنسيق بين وحدات الصواريخ وسلاح الجو المسيّر داخل القوات اليمنية، وأظهرت ما وصفه مراقبون بـ"تحول نوعي في سرعة اتخاذ القرار وتنفيذه"، ما يعني أن جبهة الإسناد اليمنية لم تعد في موقع رد الفعل فقط، بل باتت قادرة على الرد السريع، المنضبط، والمؤثر، في توقيت مدروس، وبأهداف دقيقة.
الأهم من ذلك، أن هذه الضربة لم تكن فقط موجهة لـ"إسرائيل" عسكريًا، بل حمَلت طابعًا سياسيًا، ورسالة ردع إقليمية، مفادها أن اليمن لم يعد ساحة يمكن العبث بها تحت ذريعة "تهديدات أمنية"، وأنه بات طرفًا مستقلًا قادرًا على إيلام خصومه، ليس فقط دفاعًا عن سيادته، بل ضمن منظومة إسناد حقيقية للمقاومة الفلسطينية، لا تكتفي بالبيانات، وإنما تتحرك عسكريًا في لحظات القرار.
لقد أكد الرد اليمني أن استهداف المرافئ والبنية التحتية المدنية في الحديدة والصليف ورأس عيسى لن يُقابل بالصمت، بل بسلسلة ردود متتالية تطال عمق المنشآت الحيوية في الكيان الإسرائيلي، ما يفتح الباب أمام تحول جبهة البحر الأحمر إلى واحدة من أكثر الجبهات تأثيرًا في معادلة الصراع الشامل مع هذا العدو.

توقيت لافت عنوانه: واشنطن

تزامنت الغارات العدوانية الإسرائيلية والرد اليمني السريع مع زيارة رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي المجرم نتنياهو إلى واشنطن، للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب،  زيارة أراد لها نتنياهو أن تكون لحظة استعراض سياسي وعسكري؛ أراد أن يصل إلى البيت الأبيض وهو يحمل "إنجازًا ميدانيًا" ضد جبهة الإسناد اليمنية، يظهر لإدارته الداعمة أنه لا يزال ممسكًا بزمام المبادرة، وقادرا على توسيع رقعة المواجهة حين يشاء.
لكن حسابات العدو لم تكن دقيقة. فما لم يخطر في بال نتنياهو هو أن اليمن، الذي استهدف بعد منتصف الليل، سيرد قبل طلوع الشمس. الرد العسكري اليمني، الذي أتى في أقل من أربع ساعات، أفسد المشهد السياسي الذي أراد نتنياهو أن يطل به على واشنطن؛ ليصل الى واشنطن محاطا بكثير من الإخفاق وقليل من الانجاز، بعد أن ضربت الصواريخ والمسيّرات اليمنية العمق الإسرائيلي، فيما كانت طائرته تحلق نحو اللقاء المنتظر.
لقد عكس هذا التزامن قرارًا سياسيًا استراتيجيًا من صنعاء بالرد في توقيت يظهر للعالم أن اليمن ليس ساحة خاضعة للمبادرة الإسرائيلية، بل أصبح طرفا يفرض إيقاعه على المشهد الإقليمي، ويربك حتى اللحظات السياسية التي يفترض أن تكون محسوبة بعناية في واشنطن و"تل أبيب".
وما زاد من وقع المفاجأة أن الرد لم يكن فقط سريعًا، بل نوعيًا ومنسقًا، بما يوازي حجم الرسالة السياسية والعسكرية في توقيته ومكانه. وبينما تحدث الجانب الأميركي عن "بوادر إيجابية" لوقف إطلاق نار يمتد لـ60 يومًا، كانت القوات اليمنية قد فرضت معادلة أخرى على الأرض: لا هدنة ولا استقرار طالما تستهدف الجبهات الرديفة، وطالما يستمر العدوان على غزة.
في الوقت الذي أراد فيه نتنياهو تحويل الغارات على الحديدة إلى نقطة تفاوضية أو مكسب دعائي في واشنطن، جاءت الضربة اليمنية لتقلب الطاولة وتذكر الأعداء بأن المعركة لم تعد تدار من طرف واحد، وأن الحسابات الإسرائيلية القديمة لم تعد صالحة في واقع تتغير خرائطه بسرعة،  وسرعة القرار اليمني خير شاهد.

خلاصة: اليمن يدخل معادلة الردع الإقليمي من أوسع أبوابها

ليس الرد اليمني على الغارات الإسرائيلية حدثًا عابرًا، في سياق ردود الأفعال، بل يُمثّل نقطة تحوّل استراتيجية فارقة تُدخل اليمن رسميًا في معادلة الردع الفاعلة ضد "إسرائيل"، كطرف يمتلك القدرة على التأثير المباشر في موازين الاشتباك الإقليمي. تتجاوز صنعاء النظريات التي تحاول وضعها كساحة خلفية لصراعات الوكالة، أو رسائل غير مباشرة، لتثبت انها فاعل مستقل ومبادر، يملك قرار التصعيد ووسائل الرد، ويعلن ذلك صراحة وبوضوح عبر بيانات عسكرية واضحة، وعمليات دقيقة في توقيت حساس.
هذا التطور يعكس تحوّل اليمن إلى نقطة ارتكاز استراتيجية ضمن محور المقاومة، ليس فقط عبر الخطاب، بل من خلال القدرة الفعلية على فرض كلفة عالية على "إسرائيل"، خارج إطار الجبهات التقليدية في غزة وجنوب لبنان. الرد اليمني الواسع على الغارات، واستهدافه منشآت إسرائيلية حيوية في العمق من مطار "بن غوريون" إلى عسقلان وأسدود و"إيلات"، أظهر أن "تل أبيب" باتت تواجه جبهة ممتدة قادرة على الحركة من البحر الأحمر إلى قلب الداخل الإسرائيلي، في معادلة لم تكن مألوفة من قبل.
وإذا كانت "إسرائيل" تراهن على إخضاع غزة عبر الحصار والضغط العسكري، مع محاولة تحييد الجبهات المحيطة، فإن عملية 7 يوليو بددت هذا الرهان. لقد أظهرت أن أي عدوان إسرائيلي لن يُواجَه بالصمت، بل برد سريع بعيد المدى وموجِع، يأتي من مسرح غير متوقع. إنها رسالة مفادها أن اليمن، الذي خاض سنوات من الحرب والحصار، خرج منها أكثر صلابة وأكثر قدرة على إيذاء خصومه متى شاء وكيفما شاء.
ومن منظور استراتيجي فإن هذا يعني أن "إسرائيل" لم تعد قادرة على خوض عمليات عدائية في أي ساحة، دون أن تحتسب ردودًا محتملة من ساحات لم تكن في حسبانها العسكري من قبل. الردع لم يعد محصورا  بل شاملًا ومتعدد الاتجاهات، واليمن أحد أبرز هذه الأركان.