الضفة الغربية: المرحلةُ الثانيةُ من صفقة الخيانة العربية
|| صحافة ||
عشرةُ أشهر منذُ بدء أفعال جريمة الإبادة الجماعية المقترفة ضد أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من جانب كيان الاحتلال الصهيوني وشركائه، وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية، وبالتزامن مع أفعال الجريمة استمر ويستمرُّ الترويجُ بكل وقاحةٍ لما يسمى بجهود الوساطة الأمريكية العربية، آخرها ما تم الإعلان عنه الأربعاء الفائت بعنوان اجتماع لجان فنية في العاصمة القطرية الدوحة من أمريكا و”إسرائيل” ومصر وقطر لمناقشة وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وبالتزامن مع الترويج الوقح لهذا الاجتماع اقترف كيان الإجرام الصهيوني فعلًا آخر من أفعال جريمة الإبادة الجماعية المُستمرّة والمتتابعة في قطاع غزة، ضحيتُه أكثرُ من خمسين شهيدًا معظمُهم أطفال ونساء، واللجان الفنية الأمريكية الإسرائيلية القطرية المصرية، غارقة في فن الكذب والزيف والتضليل؛ للاستمرار في تخدير الرأي العام في المنطقة والعالم، وصرفه عن بشاعة الجريمة المقترفة في قطاع غزة.
أما الأنظمة العربية في المنطقة تحديدًا المطبِّعة أَو السائرة في هذا الطريق المخزي، فهي في حالة الاستمتاع بما يجري، ويبدو أنها على إدراك تام بما سيؤول إليه الحال، والمسألة بالنسبة لها مسألة وقت، والواضح أنه لا يبدو على هذه الأنظمة قلق، ولا يؤرقها ألم، ولا يؤنبها ضمير، ولا غرابة فهي بلا ضمير أصلًا، ويؤكّـدُ ذلك ما تقيمُه من حفلات راقصة، ومسابقات ومباريات، ومزادات، وكأنه لا شأن لها إلا هذا، ولا شأن لها ولا يعنيها ما يجري في قطاع غزة وما حولها، والأصح أن ما يجري أمر معلوم لها، سبق الترتيب له معها؛ ولذلك فهي تعمل فقط لإشغال وقت الشعوب عما يجري بالحفلات والمهرجانات والمسابقات والمباريات وغيرها من التفاهات؛ لتصرفها عن الاهتمام بما يجري في قطاع غزة إلى أن يستكمل المجرم فصول جريمته.
ويبدو أن ما يجري اليوم في الضفة الغربية يمثل المرحلة الثانية من صفقة الخيانة العربية، فجيش الاحتلال الصهيوني بدأ فعليًّا فصلًا آخر من فصول جريمة الإبادة الجماعية ضد أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، حَيثُ يعمل على تجريف الشوارع وتدمير شبكات المياه والصرف الصحي، وكل مقومات الحياة؛ ليضع السكان في وضع مأساوي تستحيل معه الحياة، وليبدأ مع ذلك -كما فعل الأربعاء الفائت- مباشرة القتل الجماعي حين قتل أكثر من عشرة شبان من أبناء الشعب الفلسطيني في مخيمات الضفة الغربية، والكيان الصهيوني بهذه الأفعال إنما يستكمل فصول جريمة الإبادة الجماعية المُستمرّة والمتتابعة منذ عشرة أشهر في قطاع غزة، فالأرض فلسطينية والدم فلسطيني لا فرق.
ويندرج ضمن أفعال جريمة الإبادة الجماعية، وَفْـقًا للفقرة (ج) المادة الثانية من (اتّفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لسنة 1948) التي نصت على أن (في هذه الاتّفاقية تعني الإبادة الجماعية أيًّا من الأفعال التالية: المرتكبة على قصد التدمير الكلي أَو الجزئي لجماعة قومية أَو إثنية سواءٌ أكانت عنصرية أَو دينية بصفتها هذه:
(ج) إخضاع الجماعة، عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها جزئيًّا أو كليًّا) وما يفعلُه جيشُ كيان الاحتلال الصهيوني من وضع للسكان في مخيمات الضفة الغربية في ظروف معيشية قاسية، يراد منها إما فرض حالة التهجير القسري، أَو الموت جوعًا وعطشًا، أَو بالأوبئة التي لا يجدون مكانًا للتداوي منها، ناهيك عن القتل المباشر بالعشرات، الذي يمثل كذلك فعلًا من أفعال جريمة الإبادة الجماعية، وَفْـقًا للفقرة (أ) من المادة السابقة من الاتّفاقية التي نصت على أنها (قتل أعضاء من الجماعة)؛ فالكيان الصهيوني المجرم وشركاؤه الغربيون وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية، يقترفون هذه الأفعالَ بحق أبناء الضفة الغربية، كمقدمةٍ للتجويع والتهجير والتشريد والقتل الجماعي باستخدام القنابل الأمريكية أَو بنشر الأوبئة والأمراض الفتاكة والمجاعة، وكلها تندرِجُ ضِمنَ جريمة الإبادة الجماعية المنصوص عليها في الفقرات الخمس في المادة الثانية من الاتّفاقية.
والواضحُ أن ما تم تسريبُه من معلومات قبل السابع من أُكتوبر الماضي عن اخلاء قطاع غزة والضفة الغربية، قد تجسدت على أرض الواقع بالنسبة لقطاع غزة، وتتجسد اليوم في الضفة الغربية، ومضمون ما سبق تسريبه من معلومات أن خطة تم الاتّفاق عليها بين الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية والأنظمة العربية في المنطقة، يقوم الكيان الصهيوني، وَفْـقًا لها وبشراكة كاملة من الإدارة الأمريكية، بالضغط على أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية؛ بهَدفِ إجبارهم على النزوح إلى سيناء أَو إلى شتات متعدد الوجهات بالنسبة لسكان قطاع غزة، وإلى الأردن أَو إلى شتات متعدد الوجهات بالنسبة لسكان الضفة الغربية، وتقتضي الصفقة أن يخصص الأردن جزءًا من أرضه للنازحين من الضفة الغربية للبقاء فيها بشكل دائم أَو لترتيب أوضاعهم للانتقال منها إلى أماكن لجوء أُخرى حول العالم، وعلى أن تقوم السعوديّة بتعويض الأردن عن الأرض المخصصة للجوء أبناء الضفة الغربية!
وتقتضي الصفقة أَيْـضاً أن تقوم مصر بتعويضِ السعوديّة عن الأرض التي عوضت بها الأردن، في مقابل مالي ضخم تدفعه السعوديّة إلى الحكومة المصرية، وهذه الخطوة قد تمت فعلًا من جانب الحكومة المصرية بتسليم جزيرتَي تيران وصنافير المصريتَّين إلى السعوديّة، وَفْـقًا لترتيبات قانونية محدّدة تم إنجازُها بالنسبة للجانب المصري، تجنُّبًا لأية إثارة مستقبلية للموضوع من جانب معارضين مصريين، وهو ما تم فعلًا، غير أن الأمرَ الذي لا يزال معلَّقًا إلى الآن ويشوبهُ الغموضُ، هو موقفُ الحكومة المصرية من السماح لأبناء غزةَ بالنزوح إلى سيناء، وأعتقد أن الأمر الواضحَ والذي يزداد وضوحًا يوماً بعد يوم أن موقف الحكومة المصرية متعلَّقٌ برفع سقف المال والدم، بحيث تستمر معارضتها لتهجير الفلسطينيين من أبناء قطاع غزة، وفي ذات الوقت تستمر آلة القتل الصهيوغربية في الفتك بأبناء القطاع إلى أن يلومَ الجميعُ موقفَ مصر المتشدّد، وحينها ستسمحُ بتهجير أبناء غزة إلى سيناء، كجانب إنساني للمحافظة على حياة من تبقى منهم، وفي ذات الوقت تقبض الثمن، وَفْـقًا للسقف الذي حدّدته مسبقًا.
وبتهجير سكان قطاع غزة تكتمل مرحلة مهمة من مراحل المخطّط الصهيوغربي، ليبدأ العمل على تأمين الخط التجاري الجديد (قناة بن قوريون) بين خليج العقبة والبحر المتوسط، والذي سيمر من قطاع غزة، وفيها يقيم الكيان الصهيوني، -وَفْـقًا للمخطّط- ميناء بن قوريون، وما لم يمر هذ المشروع من قطاع غزة فَــإنَّه سيكون مكلفًا ومرهقًا للكيان الصهيوني؛ ولذلك لم يجد هذا الكيان المجرم حرجًا هو وشركائه في تنفيذ خطة التهجير القسري لأبناء الشعب الفلسطيني؛ مِن أجلِ تنفيذ مشروعه على أرض الواقع، ولو اقتضى الأمرُ اقترافَ إبادة جريمة جماعية في حال تمسك أبناء الشعب الفلسطيني بأرضهم.
وهذا المشروع ُلا يخدُمُ الكيان الصهيوني فحسب، بل يخدم الغرب عُمُـومًا، وما كان يمكنُ الشروعُ في التخطيط لهذا المشروع، وما كان يمكنُ له أن يتمَّ وفي غزة حماس وغيرها من فصائل المقاومة الشعبيّة الفلسطينية، وما كان يمكن للقوى الاستعمارية الصهيوغربية أن تتصوَّرَ حالةَ مرور السفن العملاقة في القناة المخطّط لها دون تعرُّضِها لهجمات مدمّـرة، فكان لا بد من العملِ المشترك من جانب الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية والأنظمة العربية، لإخلاء غزة من السلاح، ولا يتحقّق ذلك إلا بإخلائها تماماً من السكان، وهو ما أكّـده اليوم الوزير المستقيل من مجلس الحرب الصهيوني “غادي أيزكوت” الذي أكّـد أن خطة نتنياهو السرية تقوم على أَسَاس احتلال قطاع غزة وفرض حكم عسكري في القطاع، والحقيقة أن هدف نتنياهو وشركائه ليس مُجَـرّد احتلال قطاع غزة وفرض حكم عسكري صهيوني، فمعطيات الواقع من دمار شامل وإبادة جماعية تؤكّـد أن هدف القوى الصهيوغربية إخلاء قطاع غزة تماماً بالإبادة أَو بالتهجير القسري.
ومع أن القوى الصهيوغربية تضع دائماً احتمالات لفشل مخطّطاتها الإجرامية، وتضع في المقابل خططًا بديلة لتلافي الإخفاقات المحتملة، لكنها في مخطّطها بشأن مشروع قناة بن قوريون الذي يقتضي إخلاءَ غزة من سكانها، يبدو أنها كانت واثقةً ومطمئنةً لنجاح مخطّطها، والسببُ في ذلك انخراطُ الأنظمة العربية في ذات المخطّط؛ ولذلك كانت احتمالاتُ مخاطره وفشله صفرًا، ولم تضع في حسابها أن مشروعَها يمكن أن يتعطَّلَ ومن مسافات جغرافية بعيدة، ولم تدرك هذه الحقيقةَ إلا حين فوجئت بإجراءات جنوب البحر الأحمر التي فرضها شعب الإيمَـان والحكمة، ورغم أن هذه الإجراءات المعلنة واضحة ومحدّدة وأن هدفها ينحصر في وقف كيان الإجرام الصهيوني لأفعال جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، ورفع الحصار عن القطاع بما يؤدي إلى إدخَال الغذاء والدواء لسكانه، والواضح أن الإجراءات الضاغطة جنوب البحر الأحمر اقتصرت على منع سفن الكيان الصهيوني والسفن المتجهة إلى موانئ الأراضي المحتلّة من العبور عبر مضيق باب المندب.
لكن القوى الغربية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية سرعان ما كشفت عن وجهها القبيح، وأن ما يُقترف من أفعال إبادة جماعية في قطاع غزة، إنما يخدم هذه القوى جميعها، ولذلك بادرت الإدارة الأمريكية بالدعوة لتشكيل تحالف دولي في البحر الأحمر تحت عنوان (حارس الازدهار)، ولو أن أثر الإجراءات الضاغطة جنوب البحر الأحمر يقتصر على الكيان الصهيوني، لتم معالجتها بطريقة أقل حدة من تلك الطريقة التي اتبعتها الإدارة الأمريكية وحلفاؤها من الأنظمة الغربية، لكن لأَنَّ الإجراءات الضاغطة تمس فعلًا المشروع الاقتصادي الصهيوغربي، الذي لأجله سُفكت دماء أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وكان هدف ما سمي تحالف الازدهار فرض حالة ردع على شعبنا وقيادته الثورية وقواته المسلحة، لكن حالة الردع المخطّط لها لم تؤت ثمارها، بل كانت نتيجتها عكسية تماماً، فبعد أن كانت السفن الصهيونية والسفن المتجهة إلى موانئ الأراضي المحتلّة، هي المستهدفة من منع العبور في مضيق باب المندب، أصبحت السفن الأمريكية والبريطانية وغيرها من سفن الدول المشاركة في تحالف البحر الأحمر هدفًا للمنع، وبعد أن كان نطاق المنع يقتصر على مضيق باب المندب، اتسع ليشمل كاملَ نطاق البحر الأحمر والبحر العربي وخليج عدن والمحيط الهندي والبحر المتوسط.
وقد تسبب الإجراءاتُ التي فرضها جيشُ بلادنا بإرباكٍ كبيرٍ للمخطّط الصهيوغربي، ووجد التحالُفُ الإجرامي نفسَه في حاجةٍ للمزيد من الوقت لإيجاد مخرجٍ للورطة التي أوقع نفسه فيها؛ ولذلك امتد زمن جريمة الإبادة المقترفة في قطاع غزة، وتأخر تنفيذ المرحلة الثانية المتعلقة بإخلاء الضفة الغربية، وارتبط بكل ذلك لجوء الكيان الصهيوني إلى إجراءات استفزازية، الهدف منها اختبار مدى إخلاص الأنظمة العربية العميلة واستعدادها لمتطلبات تنفيذ المشروع الصهيوغربي حتى النهاية، واختبار حساسية الشعوب العربية التي تحكمها تلك الأنظمة.
ومن الإجراءات الاستفزازية التي لجأ اليها كيان الاحتلال والإجرام الصهيوني تدنيسُ المسجد الأقصى وبشكل متكرّر، وحرق وإهانة القرآن الكريم، واستفزاز سكان الضفة الغربية ليجد الذريعة لاقتراف أفعال جريمة الإبادة الجماعية بحقهم وبشكل متدرج.
وأمام كُـلّ هذه العربدة الصهيوغربية لم يعد أمام الشعوب العربية من خيار سوى التحَرّك وبشكل واسع ضد مصالح الأنظمة الغربية المشارِكة للكيان الصهيوني في جريمتِه، بدايةً بطرد سفاراتها من كافة العواصم العربية، وانتهاءً بطرد تواجدها العسكري في المنطقة، مهما كلَّفَ ذلك من ثمن، فَــإنَّه لن يساويَ شيئاً مقارنةً بما ينتظرُ الشعوبَ العربية من مصير محتوم في حال استمرارِ صمتها على جرائم القوى الاستعمارية الصهيوغربية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
صحيفة المسيرة: د/ عبد الرحمن المختار