النكش في المفاهيم … جهد التفريق وتحويل الانتباه عن العدو الصهيوني
|| صحافة ||
صرفَ إعلام الشقيقة الخليجية الكبرى في الأيام الماضية جهداً لا بأس به لأخذ الجمهور إلى جدل مذهبي كنا ظننّا أنه أصبح وراءنا نوعاً ما في ظل التحديات الراهنة، وفي طليعتها الهجمة الصهيونية على بلادنا.
استغل هذا الإعلام المتعدّد المنصات والذي تُنفَق عليه مبالغ طائلة من خيرات الديار المقدسة من أجل تأويل كلام للإمام السيد علي الخامنئي قاله في مناسبة أربعين الإمام الحسين عليه السلام. تحدّث سماحته عن المعركة المستمرة بين “الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية”، فتلقّفت وسائل إعلام تدور في الفلك السعودي هذا التصريح لتفسّره على أنه دعوة إلى “مواجهة بين الشيعة والسُنة” (هذا ما قالته قناة “العربية” حرفياً، وهي القناة الأميركية الهوى التي سقطت أخلاقياً في امتحان “طوفان الأقصى” وقبله). ويشير ذلك من جديد إلى محاولات دؤوبة لنكش التصريحات التي تصدر من قادة جبهة المقاومة ضد العدو الصهيوني وتحميلها ما لا تحتمل.
هناك سياق داخلي للخطاب يوضح معناه: كان سماحته يتحدث أمام هيئات طالبية زارته في ذكرى أربعين الإمام الحسين عليه السلام، وكانت له كلمة قصيرة وقوفاً بين صلاتي الظهر والعصر – أي من دون تقصّد إلقاء خطاب مستفيض يحتمل شروحات واسعة- قائلاً إن “المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية مستمرة إلى يوم القيامة”، موضحاً أن الهدف من ثورة الإمام الحسين هو الجهاد ضد الظلم، وأن “المواجهة بين الجبهة الحسينية وجبهة الجور والظلم تأخذ أشكالاً مختلفة وفق اختلاف الظروف”. وأكد أن هذه المعركة “لا تعني دائماً حمل البندقية، إنما تعني التفكير بنحو صائب والتحدث بشكل صحيح …. “. وشدد في هذا المجال على الأخذ بالعلوم “والتخطيط والفهم السليم للمسؤولية واتخاذ الخطوة اللازمة في الوقت المناسب … من أجل إعداد الأرضية اللازمة للتقدم والفلاح”، وقال إن هذه الخطوة “ضرورية في طريق كربلاء وفلسطين والأهداف السامية”. إشارة هنا إلى أن “الجبهة اليزيدية” تُفهم في الخطاب العام في إيران على أنها الجبهة التي تقف في مواجهة الحق، وهي اليوم أمريكا والكيان الصهيوني وحلفاؤهما. وعندما يتحدث القائد الخامنئي عن “العدو” بدون تحديد، فالجميع يفهم أنها أمريكا بشكل أساسي، والتي تحاول بسط هيمنتها على العالم كله وترويج سياساتها وقيمها الباطلة.
هذه الرؤية الإرشادية العامة تختصر عناوين عدة في تشخيص وظيفة المسلمين في التعامل مع التحديات الراهنة. وحين يؤكد سماحته على التفكير الصائب والتحدث بشكل صحيح، فهذا يشير إلى أن المطلوب من الجميع التحلي بالوعي للنهوض بالمسؤولية، لأن بعض المستمعين قد يفهم من سيرة الإمام الحسين عليه السلم أن الجهاد بالبندقية هو السبيل الوحيد لمجابهة أعداء الإسلام، والسيد الخامنئي كقائد أمة ربما يرى أنه لا يمكن اختصار دروس كربلاء في اتجاه واحد، بل لا بد من الأخذ بالأسباب الكفيلة بتحقيق التقدم والفلاح، حيث تقوم الأمم على الاقتصاد والتنمية والثقافة، كما على الدفاع والجهاد. ولم يرِد في الكلمة هذه أي تلميح إلى الخلاف المذهبي من قريب أو بعيد. وتوجيه قائد بمستوى سماحته عمومَ الناس إلى هذه الرؤية من خلال وسائل الإعلام لا يمكن أن يهدف إلى وضع أتباع مذهب من المسلمين في وجه أتباع مذهب آخر. ويدلّ على ذلك سيرة السيد الخامنئي القيادية والفكرية، وأيضاً فهم عامة المسلمين الشيعة لهذه القضية. فالشيعة عمومًا لا يفهمون أن يزيد بن معاوية يمثل السُنة في قضية كربلاء، بل يرون أنه الحاكم الجائر الذي قتل سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنة مع أهل بيته في كربلاء عام 61 هـ. وهاجم مدينة رسول الله وانتهك حرمات أهلها بعد وقعة الحَرّة سنة 63 هـ. ورمي الكعبة المشرّفة بالمنجنيق خلال إخماد ثورة عبدالله بن الزبير سنة 64 هـ.
وهناك نقطة جانبية يجب التنبه لها، وهي أن بعضهم لم يقرأ نص الكلمة بالكامل، وأن ما أثار حفيظتهم هو عنوان التغريدة القصيرة التي نُشرت على منصة X بشأنها، ما قد يُحدث التباساً في الفهم، خاصة لمن لا يزال يعتقد أن الإشارة إلى يزيد تحمل اتهاماً لطائفة من المسلمين. ومن هنا قد يكون من الضروري بمكانٍ مراجعةُ النص كاملاً لفهم سياق الكلام وخصوصية دلالاته. وطبعاً، هذا لا يفيد الإعلام السلطوي المناوئ الذي يكرس كل جهد للتحريف والتضليل والتشويه، بهدف وضع المسلمين بعضهم في مواجهة بعض على قاعدة “فرِّقْ تَسُدْ”.
السياق الآخر للموضوع هو السياق الخارجي: يؤكد سماحته في كل مناسبة على ضرورة التقدم العلمي والفكري لتحقيق نهضة عامة والتخلص من آثار التبعية للدول المستكبرة. ولا يستقيم هذا التوجه الدائم مع إذكاء المشاغل المذهبية. ليس هذا فحسب، بل إن تفسير كلامه على نحو يؤدي إلى إيقاع الشقاق بين المسلمين هو عمل لا يخدم في الواقع إلا “إسرائيل” في هذه المرحلة من هجومها الدموي على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة الأخرى. فهل تقصّد الإعلام السلطوي المناوئ تحويل الانتباه عن غزة وإقناع الشعب الفلسطيني بأن من يراهن على التحالف معهم في محور المقاومة هم أعداء له بحكم وجود تباين مذهبي يتم نبش ملفاته تباعاً، إلى جانب تحويل الأنظار عن تقصير الأنظمة الفاضح في مواجهة الكيان الصهيوني وسياساته الإجرامية المشهودة؟
أتابعُ تصريحات ومواقف الإمام الخامنئي منذ أكثر من ثلاثين سنة، ولم يصدر عنه طوال الفترة الماضية أي تلميح أو تصريح سلبي تجاه طائفة أو مذهب من النوع الذي يأمله الإعلام المثير للفتنة. وله – على غرار الإمام الخميني – مواقف وفتاوى عملية تحرّم الإساءة الى رموز السُنة أو توجيه الإهانات لمقدسات سائر المسلمين. وسماحته – فضلاً عن ذلك- ترجم في سِنيّ شبابه مؤلفات لعلماء سُنة عرب مثل سيد قطب، وهو – دون أي مديح- أبعد ما يكون عن الخطاب الطائفي الذي ينسبه إليه الإعلام المرتهن للأجندة الأميركية.
وفي كلمة له في بعض السنوات الماضية، اعتبر أن “أفضل وسيلة يمتلكها الأعداء هي بثّ الفرقة والاختلاف بين المسلمين؛ بالخصوص بين من له القدرة على التأثير في الآخرين وأن يكون مثلاً أعلى وأسوة لغيره، وهم يبذلون جهوداً حثيثة ومتواصلة في المجال السياسي ليحقّقوا أغراضهم الخبيثة. وأنا من موقعي هذا أرى وأعتقد بأنّ وحدة المسلمين تعدّ ضرورة حيوية وليست شعاراً”. كما أكد أن “على المسلمين أن يجابهوا أيّ عامل من العوامل الناقضة والمضادة للوحدة؛ هذا واجب كبير علينا جميعاً؛ الشيعة يجب أن يقبلوا هذا، والسنة أيضاً يجب أن يقبلوه”. وحذر سماحته من أن “التشيّع البريطاني والتسنّن الأمريكي شفرتان لمقصّ واحد. وإذا اتّحد المسلمون فلن يكون وضع فلسطين على ما نشاهده اليوم”. ونوّه بأن “الإمام الحسين (ع) مُلكٌ للبشريّة جمعاء، وليس لنا وحدنا نحن الشيعة الذين نفخر بأننا أتباعه”.
كل ما تقدَّم يقودنا إلى وضع كلمة الإمام الخامنئي عن “الجبهة اليزيدية- جبهة الظلم والجور” في سياق تثبيت مفاهيم عامة يقبلها كل مسلم مُنصف، بل كل حُرّ. وعندما يعتبر مسؤولون في جبهة المقاومة- “الجبهة الحسينية” أن ما يحصل اليوم في غزة وفلسطين هو تمثيل لكربلاء العصر فهذا يبدّد أي تصنيف مذهبي منمَّط ويرقى بالمواجهة الحاصلة اليوم مع الكيان الصهيوني وحلفائه إلى مستوى رمزي مقدَّس وملحمي تاريخي. وبالتالي، لا يعود من مبرر لتفسير المفاهيم الآنفة الذكر في غير الاتجاه الأصيل الذي يخدم قضايا المسلمين.
العهد الاخباري: علي عبادي