شهيد الإسلام والإنسانية.. فصل جديد من الصمود والتحدي

في زمن عصيب يعيشه العالم، جاء السيد حسن نصر الله ليؤسس عهداً جديداً من الحرية والمقاومة والتحرر في العصر الحديث. لقد قدم السيد نصر الله النموذج العملي للقائد الملهَم والملهِم في تصالح الشعوب مع ذاتها، مستنداً إلى واقع إنساني عام، حيث تُعبِّر كل شعوب الأرض عن رفضها للذل والخضوع، وتوقها للحرية والعيش بكرامة. وقد جمع في شخصه سمات الكاريزما القيادية (التواصل الفعال، التحفيز، الثقة، الالتزام، التواضع، التعاطف، وضوح الرؤية).
هو القائد الاستثنائي في كل الميادين: السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. قضى عمره الشريف في الدفاع عن لبنان وسيادته، محققاً سلسلة من الإنجازات المشرقة في تحرير الجنوب وصدّ الاعتداءات الصهيونية، وإحباط مخططات العدو الخارجي التي كانت تهدف لضرب استقرار لبنان وأمنه.
قدمت خطاباته أسساً ضمن الرؤى الوطنية النهضوية لمشروع المقاومة؛ حيث تتكامل ركيزتا مشروعية المقاومة وبناء الدولة في وحدة الأهداف وتوزيع الأدوار دون أي تناقض أو تضاد. كان يركّز على ضرورة دعم كل منهما للآخر بالقوة الضرورية.

في مسار المقاومة العسكرية، أهدى نصر تموز لجميع الشركاء في الوطن، بل للأمة كلها.
أما في المسار السياسي، فقد شدّد دائماً على أن حزب الله من دعاة الشراكة الوطنية في بناء الدولة العادلة والقادرة، وعمل -ضمن أطر من الشراكة والتعاون- على “إخراج لبنان من أزماته”؛ كما ورد في خطابه بتاريخ 10 أيار 2022.
لطالما كان العدو يترقب خطابه قبل أصدقائه؛ لأنه القائد الصادق، الحكيم، ذو الفكر العميق والرؤية الواسعة.
أمضى السيد نصر الله حياته في تعزيز الوعي السياسي لدى الشعب والأمة، وكانت خطاباته الغنية كماً ونوعاً بمثابة ميادين مفاهيمية لكل شرائح المجتمع؛ من نخبه إلى عماله. بل لقد أظهر في مؤتمر تجديد الخطاب الإعلامي في تموز 2021 رؤية تأسيسية شاملة، مؤكداً على أهمية المعركة الإعلامية وضرورة مواكبة الخطاب للتطورات في المنطقة ضمن سياق دعم استراتيجية “جهاد التبيين”، لكشف الحقائق وفضح التضليل الممارس ضد الأمة بخصوص القضية الفلسطينية وتشويه نماذج المقاومة.

هو الأب المحب، الذي حافظ منذ حرب التحرير على “وعده الصادق” في الوفاء والحب والالتزام لعائلته الكبيرة، الشعب اللبناني. انضم إلى قافلة عوائل الشهداء، وواسى أهالي الشهداء، قاضياً عمره فداءً للوطن على مذبح الوطنية في دروب النصر والتحرير وتعزيز الوحدة الإسلامية. وحتى النفس الأخير. امتلك قلباً مشغولاً بالقضية الفلسطينية، وقدم روحه في سبيل القدس، مستحقاً لقب “شهيد الإنسانية” بجدارة.
في نعي سماحة المرجع الأعلى السيد السيستاني، جاء ذكره “الشهيد الكبير”، أما سماحة الإمام القائد السيد الخامنئي فقد وصفه بـ”الشخصية العظيمة” و”القائد البارز ورافع راية المقاومة”. كما نعاه دولة الرئيس نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني، واصفاً إياه “ابن موسى الصدر والمدرسة الحسينية كربلائية مقاومة”.
ستبقى الكلمات قاصرة عن مقامات القائد الذي يندر مثله. عاش مقاوماً حراً وارتقى في جبهته وغرفة عمليات إدارة الحرب وسط أهله وشعبه قائداً شهيداً. حفر قبره في قلوب شعبه ومحبيه وأبنائه المقاومين، حيث يبقى العهد: لا للمهادنة ولا للاستسلام، وسيبقى الشعار النهج والفكر: “هيهات منّا الذلة”.

كرونولوجيا السيرة الذاتية

في أحد أحياء الضاحية الشرقية لبيروت، وتحديدا في منطقة برج حمود، قضاء المتن في محافظة جبل لبنان، في حي “الكرنتينا”، وُلد الشهيد حسن نصر الله في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1959 لعائلة شيعية بسيطة. كانت عائلته تتكون من ثلاثة أشقاء وخمس شقيقات، وهو الابن الأكبر. شغف والد حسن، السيد عبد الكريم نصر الله، بالعمل في دكان صغير يبيع فيه الخضار والفاكهة. هذا الدكان، رغم بساطته، كان شاهدا على حياة مليئة بالتحديات، حيث عانى آل نصر الله من ظروف الفقر والإهمال، كما كان الحال لكثير من اللبنانيين، وخاصة أهل الجنوب.
منذ صغره، ترعرع حسن في بيئة مفعمة بالمعاناة، لكنه دائما ما كان متأملاً في واقع مجتمعه. كان دكان والده يحوي صورة بارزة للسيد الإمام موسى الصدر، التي كانت مصدرا للإلهام بالنسبة له. مع انطلاق الثورة ضد الشاه في إيران، بدأت مشاعر الإيمان والقوة تتجذر في روحه، ما زوده بـحس المواجهة وقدرة على التغيير.

أمضى حسن العديد من أيام طفولته يتردد على مساجد المناطق المجاورة، كسن الفيل وبرج حمود والنبعة، حيث نمت لديه الرغبة في تعلم المزيد عن الدين. فكانت قراءاته للكتب الإسلامية تخصص حيّزا كبيرا من وقته، وأعطى قراءة الكتب الإسلامية حيزا كبيرا من فترة نشأته الأولى.
أتم حسن دراسته الابتدائية في مدرسة “النجاح”، ثم انتقل إلى مدرسة سن الفيل الرسمية ذات الأغلبية المسيحية، حيث واجه تحديات جديدة، لكنها ساهمت في تشكيل شخصيته. ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، اضطرت عائلته للعودة إلى بلدته البازورية.
هناك، أكمل دراسته الثانوية في ثانوية صور الرسمية للبنين. خلال فترة دراسته، انضم حسن إلى “حركة أمل”، التي أسسها الإمام موسى الصدر. كان يُعرف عنها بـ”حركة المحرومين”، وبرز حسن في صفوفها حتى عُين مندوبا للحركة في سن صغيرة لا تتجاوز الخامسة عشرة، لما تمتعت به شخصيته من نبوغ وفراسة قياديه مبكرة.

بداية المسيرة مع السيد عباس الموسوي

في تلك الأوقات الحالكة، تعرّف السيد حسن نصر الله على إمام مسجد الإمام جعفر الصادق في صور، السيد محمد الغروي، الذي كان له دورٌ محوري في توجيهه نحو النجف الأشرف. حمَّله السيد الغروي كتاب توصية للسيد محمد باقر الصدر، أحد أبرز الشخصيات الشيعية في تاريخهم ومؤسس حركة الدعوة في العراق خلال عقد الستينيات.
في النجف، أسند الشهيد السيد الصدر إلى السيد عباس الموسوي مسؤولية الإشراف على التحصيل العلمي للسيد نصر الله، لتبدأ بينهما علاقة صداقة متينة تُرسم معالمها بشكلٍ حيوي، حتى استمرت وقويت لتثمر لاحقاً عن تأسيس حزب الله، مُشكّلة نقطة تحول مهمة في تاريخ لبنان الحديث.

الدراسة الحوزوية في بعلبك

عاد السيد نصر الله إلى لبنان هرباً من ملاحقات النظام البعثي العراقي لأصدقائه المقربين من السيد الصدر، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته الأكاديمية. استغل هذا الوقت للانغماس مجدداً في عالم المعرفة، حيث انطلق في دراسة العلوم الإسلامية في الحوزة الدينية في بعلبك، حوزة الإمام المنتظر (ع)، التي كانت تتبع منهاج آية الله محمد باقر الصدر.
تلك الأوقات شكلت حجر الأساس لبناء شخصيته قيادياً وفكرياً، ووضعت نُذر مسيرته التي ستظل تتردد في زوايا التاريخ واحدةً من أبرز قصص الصمود والمقاومة.
تواصلت رحلة حسن النصر الله في النجف، حيث درس في الحوزة الدينية، معتمدا على منهاج آية الله محمد باقر الصدر، حتى عاد إلى لبنان في عام 1978 نتيجة المضايقات التي تعرض لها السيد الصدر وأنصاره من قبل النظام البعثي العراقي.
عاد السيد حسن إلى بلده وقام بالإسهام في محاولة إحياء الفكر الإسلامي، حيث أكمل دراسته وتحضيره للعلوم الإسلامية في حوزة الإمام المنتظر في بعلبك. في هذه الفترة، كانت الأحداث تتسارع في لبنان، وكل تلك العوامل شكلت الطريق الذي سيقود الشهيد نصر الله نحو القيادة في مقاومة الاحتلال، وتأسيس حزب الله، حيث كتب فصلاً مهماً ومؤثراً في تاريخ لبنان الحديث.

لحظة العلامة الفارقة

في عام 1982، كان لبنان أمام تحدٍّ كبير عندما بدأت القوات الصهيونية اجتياح البلاد. في خضم هذا الصراع، كان الشاب حسن نصر الله، في عمر الثانية والعشرين، قد بدأ يلعب دوراً محورياً في مقاومة الاحتلال. انضم إلى مجموعة من الشبان الذين أسسوا حزب الله في بعلبك، وكان فاعلاً نشطاً في تنظيم المقاومة. عمل على تعبئة المقاومين وتشكيل الخلايا العسكرية التي شكلت وتأسست منها نواة المقاومة الإسلامية.
سرعان ما تولى السيد نصر الله مسؤوليات متعددة في الحزب، إذ أصبح نائب مسؤول منطقة بيروت، ومن ثم مسؤولاً عن المنطقة نفسها. ومع تزايد مسؤوليات الحزب وتطور هيكله، تم استحداث منصب “المسؤول التنفيذي العام” المكلف بتطبيق قرارات “مجلس الشورى”، وهو أعلى هيئة قيادية في حزب الله، ليصبح نصر الله عضواً فعالا في المجلس.
بين 1989 و1991، احتفظ حسن نصر الله بشغفه تجاه التحصيل العلمي والدراسات الدينية، حيث قرر السفر إلى إيران للدراسة في حوزة قم. ولكن الأحداث المتسارعة في لبنان، بسبب الاحتلال الإسرائيلي، فرضت عليه العودة إلى بيروت لممارسة مسؤولياته التنفيذية في حزب الله.

في 16 شباط/فبراير 1992، جاء حدثٌ مفصلي في مسيرة حزب الله بعد اغتيال الأمين العام الشهيد عباس الموسوي على يد الاحتلال. انتخب أعضاء مجلس شورى حزب الله حسن نصر الله أميناً عاماً للحزب بالإجماع. كانت تلك اللحظة علامة فارقة، إذ قاد الشاب ذو الشخصية الكاريزمية حزب الله نحو مرحلة جديدة من القوة الإقليمية الفاعلة، والتي تشكل تهديدا حقيقيا على الكيان المؤقّت. أكد السيد حسن نصر الله، في أول خطاب له بعد توليه مسؤولية الأمانة العامة، في 18 شباط/فبراير 1992، أن الحزب سيواصل طريق المقاومة حتى النهاية: “هذا الطريق سنكمله لو قُتلنا جميعا، لو دمرت بيوتنا على رؤوسنا، لن نتخلى عن خيار المقاومة”.
في نفس العام، بدأ السيد نصر الله العمل على إدخال حزب الله إلى المجال السياسي بعد أشهر قليلة من اغتيال السيد الموسوي. شارك الحزب في الانتخابات النيابية، ونال عددا من المقاعد عن محافظتي الجنوب والبقاع، وأصبح يُعرف تجمعهم السياسي بـ “كتلة الوفاء للمقاومة”، والتي سرعان ما ازداد عدد مقاعدها في الانتخابات التالية.

العين تقاوم المخرز

وفي 13 أيلول/سبتمبر 1997، تعرض السيد حسن نصر الله لفقدٍ عزيز، حيث استشهد ابنه البكر هادي نصر الله في مواجهات ضد العدو الإسرائيلي في جبل الرفيع. فكانت الشهادة بوابة انضمام السيد وعائلته إلى ركب عوائل الشهداء، الحدث الذي ما رآه إلا نعمةً شكر الله تعالى عليها قائلا: “إنني أشكر الله سبحانه وتعالى على عظيم نعمه، أن تطلع ونظر نظرة كريمة إلى عائلتي فاختار منها شهيدا”.
من عام 1992 إلى عام 2000، قاد السيد نصر الله مسيرة المقاومة والتحرير. تصاعدت العمليات المقاومة خلال هذه الفترة، حيث عمل الحزب على تطوير قدراته العسكرية وتنويع ترسانته، وكثّف من عملياته النوعية التي أجبرت الاحتلال على الانسحاب من لبنان بعد احتلال استمر 18 عاماً، في 25 أيار/مايو 2000. أظهرت هذه الفترة أن “العين تقاوم المخرز”، وأن ما أخِذ بالقوة لا يرجع إلا بالقوة، فالتحرير لا يكون إلا بالعمل العسكري ومقاومة المحتل بعدما أثبتت التجارب فشل كل الآليات الدبلوماسية والسياسية في استرجاع الحق المسلوب في فلسطين ولبنان.

الصفقة الأكبر في تاريخ الصراع

بين 1998 و2004، قاد السيد نصر الله مجموعة من أكبر صفقات تحرير الأسرى من اللبنانيين والعرب من سجون العدو الإسرائيلي. وفي 26 تموز/يوليو 1998، اضطرت “إسرائيل” إلى تسليم 40 جثمان شهيد لبناني وإطلاق سراح 60 أسيراً لبنانيا، بينهم عشرة معتقلين في السجون الإسرائيلية وخمسون آخرون من معتقل الخيام، مقابل رُفات الرقيب الصهيوني إيتامار إيليا، الذي قُتل مع اثني عشر ضابطا وجنديا إسرائيليا آخرين خلال مهمة خاصة في لبنان في كمين أنصارية عام 1997.

مع استمرار تعاقب السنوات في بناء شخصية نصر الله القيادية وتوطيد موقف حزب الله بكونه قوة مؤثرة في التاريخ اللبناني والعربي، ساعد ذلك في تشكيل واقع جديد في المنطقة، حيث أبرم حزب الله، في 29 كانون الأول/ديسمبر 2004، صفقة تبادل أسرى بواسطة وسيط ألماني مع الكيان الإسرائيلي، والتي وصفت بأنها الأكبر والأهم في تاريخ الصراع. حرر الحزب بموجب هذه الصفقة جميع الأسرى اللبنانيين من سجون الاحتلال باستثناء الأسير الشهيد سمير القنطار، وشملت الصفقة 23 أسيرا لبنانيا ورفات 59 مقاوما لبنانيا و400 فلسطيني، بالإضافة إلى أسرى من جنسيات عربية مختلفة، مثل خمسة سوريين وليبي وثلاثة مغاربة وثلاثة سودانيين، وكذلك أسير ألماني مسلم. في المقابل، استلم الاحتلال الإسرائيلي ضابط المخابرات “ألحنان تننباوم”، وجثث ثلاثة جنود إسرائيليين كانوا قد قُتلوا أثناء أسرهم في عام 2000.
خلال فترة 12 تموز/يوليو إلى 14 آب/أغسطس 2006، وقعت أحداث بارزة عُرفت بعملية “الوعد الصادق”، حيث نفذ حزب الله عملية عسكرية على الحدود اللبنانية-الفلسطينية. كانت تلك العملية بمثابة وفاء من المقاومة الإسلامية بوعدها في تحرير الأسرى، وعلى رأسهم عميد الأسرى سمير القنطار، الذي حُرِّر في عملية تبادل لاحقة في 16 تموز 2008.

تحطيم أوهام “إسرائيل الكبرى”

بينما العدو الإسرائيلي حاول استغلال عملية الأسر لفرض هيمنته ونفوذه عبر مخطط مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، نجحت المقاومة في إجهاض هذا المشروع. كما صرح بذلك السيد نصر الله، في خطابه 9 أيار/مايو 2022: “حطمت مشروع “إسرائيل العظمى” التي تعتدي على كل المنطقة وتَتكبر وتُهدد”.
استمر العدوان 33 يوماً، سطّرت خلالها المقاومة صفحات مجيدة من الصمود وأشرف المواجهات، تحت قيادة الأمين العام السيد حسن نصر الله. قاد السيد نصر الله الحرب النفسية ضد العدو، حيث عمل على تعزيز البيئة الحاضنة للجبهة العسكرية، واستهداف وعي القادة الصهاينة والجنود والمستوطنين. عانت قوات الاحتلال من خسائر فادحة، ما اضطرها للانسحاب من جنوب لبنان دون تحقيق أي من أهدافها، بينما أشرق نجم المقاومة المرتبط باسم السيد نصر الله في العالمين العربي والإسلامي.

كان السيد نصر الله دائم الفخر بشعب المقاومة الذي كسر جميع النمطيات السائدة، وكان يثني على ثباتهم وشجاعتهم. وفي الذكرى السابعة عشرة لانتصار 14 آب 2006، أعاد التأكيد على “العودة الشجاعة والسريعة” لأهل الجنوب إلى قراهم وأراضيهم، مؤكداً أن هذه العودة هي التي “ثبّتت الانتصار العسكري في إفشال أهداف العدوان والحرب على لبنان وعلى المقاومة فيه”. كما عبّرت هذه العودة عن “ثبات شعبنا في الموقف، وتمسكه بالأرض، والتزامه الحاسم بخيار المقاومة مهما تعاظمت التضحيات”.

حماية المقاومة وبناء القدرات

على مدار ثمانية عشر عاماً (2000 – 2018)، بذل السيد حسن نصر الله جهوداً حثيثة لحماية المقاومة من التحديات السياسية والقانونية، مُفشلاً بحكمته مخططات الأعداء التي كانت تروم الزج بالمقاومة في فتن داخلية ومحاكم دولية. بفضل قيادته، تم إحباط الاعتداءات التي شنتها الجماعات الإرهابية على الحدود الشرقية اللبنانية، حيث استطاع الحفاظ على المعادلة الثلاثية الذهبية: “جيش ومقاومة وشعب”.
شهدت هذه الفترة تراكماً ملحوظاً في قدرات حزب الله العسكرية في مجالات متنوعة، ثُم تلبية الحزب لطلب الدولة السورية لمكافحة انتشار حالات التكفير، التي شكلت تهديداً للبنان عموماً، وللمناطق الحدودية والضاحية خصوصاً. أتت الاستجابة المثمرة بفوائد عظيمة، حيث أدت إلى انحسار التهديدات بشكل كبير.

توسعت أيضاً تجربة المقاومة إلى مشاركة فصائل المقاومة في العراق واليمن، ما ساهم في تشكيل جبهة مقاومة موحدة ضد المشاريع العدوانية التي تستهدف دول المنطقة وشعوبها ومواردها. وقد لعبت قيادة السيد نصر الله دوراً رئيساً في تطوير المسار المقاوم، مُعززةً أسس “محور المقاومة” الذي يمتد من العراق إلى اليمن، مروراً بإيران وسوريا ولبنان وفلسطين.
هذا النهج الاستراتيجي ساهم في تقوية الروابط بين بلدان محور المقاومة، وخلق حالة من الاعتماد المتبادل في مواجهة التحديات والأخطار التي تهدد المنطقة. كما شهد حزب الله، خلال هذه الفترة، تراكما في قدراته العسكرية في شتى المجالات، وكان له استجابة لدعوة الدولة السورية لمكافحة حالات التكفير التي تهدد لبنان والمناطق الحدودية. تعاون الحزب مع فصائل المقاومة في العراق واليمن لتشكيل جبهة مقاومة ضد مشاريع العدوان.

مواجهة حصار المقاومة اقتصادياً

بعد تشرين الأول/أكتوبر 2019، بدأت السياسات الأمريكية تكثيف مشروعها لتضييق الخناق الاقتصادي على بيئة المقاومة، من خلال سلسلة من الإجراءات المالية المشددة وفرض العقوبات، التي استهدفت ضرب استقرار العملة الوطنية وكذلك حصار لبنان ومنع وصول موارد الطاقة إليه.
في هذه الأثناء، استطاع حزب الله أن يكسر الحصار البحري، حيث أمنت قنوات البواخر التي حملت النفط إلى موانئ بانياس في سوريا، ومن ثم واصلت رحلتها براً إلى لبنان. وقد تم توزيع هذه الإمدادات النفطية حسب الحاجة في مختلف المناطق اللبنانية، بما في ذلك المؤسسات الرسمية والدينية والخيرية.
في خطوة جريئة أخرى، قاد السيد نصر الله حملة للدعم المادي للبيئة المقاومة بمختلف طوائفها، حيث أُفتتحت المخازن التوفيرية لتقديم العون للشعب اللبناني وتخفيف الأعباء المعيشية عنه. ولطالما أشار في خطاباته حول الوضع الاقتصادي إلى ضرورة وجود “مقاربة وطنية تشمل جميع اللبنانيين”، مؤكداً قدرة اللبنانيين -دولةً وشعبا- على تحويل التحديات إلى فرص، والخروج من تبعات السياسات الخاطئة المتراكمة.

قيادة الردع في معركة ترسيم الحدود

كانت قضية ترسيم الحدود البحرية مسألة وطنية تستدعي تضافر الجهود وتآزر القوى للحفاظ على “ملكية الشعب اللبناني” وإنقاذ لبنان من الأزمات المالية والاقتصادية والإنسانية. دعا السيد حسن نصر الله لتحويل هذه القضية إلى “قضية وطنية كبرى”، مؤكداً أنها “لا تقل أهمية عن قضية تحرير الشريط الحدودي المحتل”. شدد على موقف المقاومة التي “لن تقف مكتوفة الأيدي أمام نهب ثروات لبنان”، مُشيراً إلى أن العدو “لا يعترف بقرارات دولية، والنهج الوحيد الذي يتبعه هو منطق القوة والاستعلاء”. وطبقاً للتجارب السابقة، أوضح أن العدو لا يستجيب لأي قرار دولي، وإنما يتجاوب فقط تحت الضغط والمقاومة، كما كانت انسحاباته بالقوة عام 2000 من لبنان وعام 2005 من قطاع غزة.

قيادة جبهة الإسناد

بعد انطلاق معركة طوفان الأقصى بيوم واحد، قاد السيد نصر الله معركة إسناد غزة، مؤكداً أن هذه المعركة ستستمر بلا توقف، مهما بلغت التضحيات. وقد أعلن مراراً أن “هذه المعركة تاريخية وتصنع الإنجاز الحقيقي”، مشيراً إلى أن “جبهة الإسناد اللبنانية مستمرة كما ونوعاً، وأن الربط مع جبهة غزة هو أمر قاطع”. وأوضح في خطابه (13 أيار/مايو 2024) أن مساندة غزة “أمر حاسم ونهائي، وقد اعترف الأمريكيون والفرنسيون بهذه الحقيقة”.
عزز السيد نصر الله في خطابه (9 تموز/يوليو 2024) عمل محور المقاومة من خلال التنسيق بين مختلف جبهات الإسناد من لبنان والعراق واليمن. وأكد في هذه المرحلة على أن “المقاومة في لبنان ماضية في ما بدأته في 8 تشرين الأول/أكتوبر في طوفان الأقصى حتى تبلغ الهدف الذي تطمح إليه في جميع جبهات الإسناد، ولا يمكن أن تتراجع”، مُشدداً على ولاء المقاومة وإصرارها على تحقيق أهدافها.

استشهاد الأمين

في الـ 27 من أيلول/سبتمبر 2024، شهدت الضاحية الجنوبية، التي كانت دوماً مسرحاً لنضال سماحة الأمين العام لحزب الله، حادثة مؤلمة عندما استشهد السيد حسن نصر الله في مقر القيادة المركزية للحزب. كان يجري هناك عمليات إسناد غزة وإدارة محور المقاومة لنصرة الشعب الفلسطيني، الذي تخلت عنه العديد من الدول العربية، وتركته يتعرض للإبادة الإسرائيلية.
اغتيل السيد نصر الله غدراً في وقت كانت فيه الوساطات الأميركية والأوروبية تسعى جاهدة لإنجاح جهود التوصل إلى اتفاق في غزة ووقف الحرب، ما أدى إلى توقف جبهة الإسناد تلقائياً. لقد عكس اغتياله نوايا العدو الصهيوني وأعوانه، حيث ظنوا أنهم من خلال هذا العمل الغادر سيؤثرون سلباً على مسار المقاومة. وصفه رئيس الوزراء الصهيوني بـ”محور المحور”، مؤكداً بذلك على الدور الأساسي الذي لعبه في توحيد جهود المقاومة ضد العدوان.
استشهاد السيد نصر الله ترك فراغاً كبيراً في الساحة السياسية والمقاومة، ولكنه أيضاً عكس التحدي الكبير الذي ستواجهه هذه القوى في المستقبل؛ إذ كانت تلك المحاولة يائسة لإضعاف إرادة المقاومة واستقرارها، لكن التاريخ يُظهر أن مثل هذه الأعمال غالباً ما تؤدي إلى زيادة التضامن والتكاتف في مواجهة التحديات.

سيد الشهداء: نحن لا نُهزَم

استشهد السيد حسن نصر الله كما تمنّى، بعد مسيرة حافلة من الجهاد والنضال والتحرير، وكان ارتقاؤه في يوم جمعة مباركة، السابع والعشرين من أيلول 2024، الساعة السادسة وإحدى وعشرين دقيقة. أصبح سيد الشهداء القادة، بعدما أسس نهجا وفكرا سيبقيان حيين ومتقدين مع مرور الزمن. كتب بتاريخ نضاله قصة للأجيال القادمة، وكل محطة شهدت على مشواره ستبقى شاهدة على إلهامه وتأثيره المحفز في مسار المقاومة والثورة ضد الاستكبار.
ستخلد كلمات السيد نصر الله في كتب التاريخ، لأنه كان قائدا استثنائيا في كل شيء، حتى في صياغة مفهوم الموت، حيث قال في وصيته للمقاومة: “نحن لا نُهزَم، عندما ننتصر ننتصر، وعندما نستشهد ننتصر”. كان يدرك أن الخسارة جسدية، لكن الروح تظل متقدة، ويستمر الجهاد ويدفع الثمن عظيم الأثر والأهمية. كما نصح: “نحن على مشارف انتصار كبير، لا يجوز أن ننهزم نتيجة سقوط قائد عظيم من قادتنا، بل يجب أن نحمل دمه ورايته وأهدافه، ونمضي إلى الأمام بعزم راسخ وعشق للقاء الله”.

في تموز 2024، جاء ليؤكد على الرسالة ذاتها: “شهداؤنا صناع حياة وصناع نصر في غزة ولبنان واليمن والعراق، وفي كل منطقة، ومن ينشر الدمار والموت هو أمريكا ومعسكرها المتقدم إسرائيل”. هذا الجوهر المقاوم يظل نبراسا للحرية والتحرر، ويشكل دعوة لكل الأحرار في هذا العالم لمواصلة الطريق الذي أضاءه السيد نصر الله بشجاعته ورؤيته.
ستبقى هذه المسيرة حيةً في قلوب من ألهبهم فكره، وملهمةً لكل الأجيال القادمة، إذ سنشهد تراكماً للوعي والثقافة المقاومة التي تفخر بتضحيات الشهداء وأبطال مواجهة الظلم والاستبداد، على أمل بناء مستقبلٍ مشرقٍ للفلسطينيين وللشعوب المضطهدة في كل مكان. سيكون السيد نصر الله دائما رمزا للكرامة والعزة، وامتدادا للدماء التي سُفكت على درب الحق والحرية.

 

 – اللجنة العليا لتشييع سيد شهداء الأمة والسيد الهاشمي
قد يعجبك ايضا