غزة تحت نيران الإبادة

غزة، مدينة محاصرة تحت نيران الإبادة الإسرائيلية منذ 55 يومًا على استئناف العدوان عليها.  القتل والدمار يخيم على المنطقة، وفي كومات الركام والدمار تتجسد أفظع صور الوحشية الصهيونية.

في ردهات المستشفى الإندونيسي بشمال القطاع، يرقد طفل اسمه أحمد الغلبان، عيناه الغائرتان تحكيان قصة فقد لا يمحوه الزمن. في قصف همجي استهدف العدو الإسرائيلي حي الشيماء ببيت لاهيا، فقد أحمد ساقيه وشقيقه التوأم محمد. بينما كان يحاول الفرار من الموت المحقق، لم يشعر بشيء حتى وجد نفسه أسيرًا لجراح لا تلتئم، ليصله نبأ رحيل توأمه وخاله إلى الأبد. قصة أحمد ليست صرخة الألم الوحيدة، بل هي صدى لمعاناة آلاف الفلسطينيين واجهوا مصيرًا قاسيًا مماثلاً.

 

كارثة إنسانية شاملة.. رائحة الموت تخنق الحياة

ومع انهيار المنظومتين الغذائية والصحية تحت وطأة الحصار الإسرائيلي يصبح توفير الغذاء والدواء، ناهيك عن الأطراف الصناعية التي تعيد بصيص أمل لهؤلاء الجرحى، تحديًا وجوديًا. فمنذ الثامن عشر من مارس الماضي، استأنف العدو الإسرائيلي عدوانه الإجرامي، مصمما على ارتكاب جرائم إبادة جماعية، ومنع دخول الغذاء والدواء وكل مستلزمات الإغاثة.

وسط دخان الخبز المحترق ولهيب النيران المتصاعد فوق قدر صغير من العدس البائس، تتجلى صورة قاتمة للحياة التي لم تعد تحتمل في غزة. المائدة هنا ليست رمزًا للدفء العائلي، بل هي ساحة معركة يومية ضروس من أجل البقاء. أم فادي تجلس القرفصاء قرب موقد بدائي، تحاول جاهدة إعداد العدس الشحيح، وهو كل ما تبقى لعائلتها من زاد. الأرز والطحين والزيت، تلك الأساسيات التي كانت بالأمس القريب جزءًا من روتينهم اليومي، أصبحت اليوم مجرد ذكريات بعيدة المنال. وفي خان يونس، يتقاسم أبو عمار رغيفًا يابسًا بين أطفاله السبعة الجياع، ويغلي الماء مع البصل ليخدعوا معدتهم الخاوية بشعور كاذب بوجود شيء على النار.

الأمم المتحدة، بصوت يائس، تصف الوضع في غزة بأنه على شفا “كارثة إنسانية شاملة”، ومع استمرار الحصار الخانق، تحولت غزة إلى سجن كبير، منطقة مغلقة لا يدخلها الدواء المنقذ للحياة ولا الدقيق الذي يسد رمق الجوعى. الغارات الإسرائيلية تستهدف الأفران التي بالكاد تعمل، ليصبح إعداد الطعام مغامرة محفوفة بالمخاطر. ومع ذلك، ووسط كل هذا الرعب، تبقى النيران مشتعلة في محاولة يائسة للحفاظ على دفء الحياة، والقدور على النار، والناس يجتمعون حول وجبة هزيلة ليست للشبع، بل لتذكير أنفسهم بأنهم ما زالوا على قيد الحياة، وأن كل لقمة تُؤكل هي شهادة صامتة على رفضهم للمحو والنسيان.

تحذر منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” من التداعيات النفسية المدمرة للإصابات على الأطفال، الجيل الذي يحمل على كاهله وزر هذه الحرب القذرة. هذه الإصابات لا تقتصر على الجروح الجسدية، بل تخلق هوة عميقة في أرواحهم، تجعلهم ينطوون على أنفسهم في عالم من الصمت والخوف. ويؤكد المتحدث باسم المنظمة بأسى أن غزة هي “المثال الوحيد في التاريخ الحديث على احتياج جميع الأطفال إلى دعم الصحة النفسية”، جيل بأكمله مهدد بجراح نفسية قد لا تندمل أبدًا.

وترسم الأرقام والإحصائيات الصادمة التي تكشف عنها التقارير الحقوقية والإنسانية صورة مروعة لحجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة تحت وطأة حرب إبادة وحصار خانق لا يرحم. هذه الأرقام ليست مجرد بيانات جافة، بل هي صرخات مكتومة، حكايات إنسانية موجعة تروي فصولًا من الألم والفقد والمعاناة التي تفوق الوصف. خلف كل رقم شهيد، حلمٌ اغتيل في مهده، وعائلةٌ تشتت أشلاؤها، وطفلٌ سُلبت منه براءة الطفولة. وخلف كل جريح، مستقبلٌ غامض تلفه الضباب، وحياةٌ تبدلت إلى الأبد، لتصبح ذكرى مؤلمة لما كان. هذه الحقائق المروعة تضع الجميع أمام المسؤولية، فكل من فضّل الصمت سيكتوي بنفس النار، فالعدو الإسرائيلي خطر على كل البشرية.

  

أجيال تُباد ومقابر جماعية وانتهاك للمقدسات

الأطفال، الذين هم زهرة الحياة وبراءة المستقبل، كانوا ولا يزالون هم الثمن الأكبر لهذه الحرب الشعواء التي لا ترحم، حيث قُتل منهم حتى الآن 18,000 طفل برصاص وقصف العدو “الإسرائيلي” الهمجي، وشهدت هذه الحرب المروعة ولادة واستشهاد 281 رضيعًا لم يروا نور الحياة إلا للحظات قبل أن تطفئها يد الغدر، بينما فقد 892 طفلاً حياتهم الغضة قبل أن يكملوا عامهم الأول. وفي جريمة أخرى تضاف إلى سجل العدو الأسود الملطخ بالدماء، استشهد 52 شخصًا بسبب سوء التغذية الحاد وسياسة التجويع الممنهجة التي يفرضها العدو على القطاع، غالبيتهم الساحقة من الأطفال الأبرياء، كما قضى 17 نازحًا نحبهم نتيجة البرد القارس وظروف النزوح اللاإنسانية في خيام النزوح الهشة، بينهم 14 طفلاً فقدوا حياتهم في ظروف قاسية.

ولم تسلم النساء من آلة القتل الإسرائيلية، حيث بلغ عدد الشهيدات حتى الآن 12,400 امرأة، فقدن حياتهن وأحلامهن تحت القصف العشوائي. وفي استهداف سافر للكوادر الإنسانية التي تحاول جاهدة التخفيف من وطأة الكارثة، قتل العدو  1,402 من الطواقم الطبية التابعة لوزارة الصحة الفلسطينية، و113 من عناصر الدفاع المدني الذين يخاطرون بحياتهم لإنقاذ الآخرين، و211 صحفيًا شجاعًا كانوا ينقلون للعالم حقيقة ما يجري على الأرض رغم المخاطر الجسيمة، و748 من عناصر الشرطة وتأمين المساعدات الذين كانوا يحاولون الحفاظ على النظام وتأمين وصول المساعدات القليلة. وبلغ عدد جرائم استهداف الشرطة وعناصر تأمين المساعدات 157 جريمة وحشية.

في سابقة مروعة تهز الضمير الإنساني، أقام الاحتلال سبع مقابر جماعية داخل حرم المستشفيات التي تحولت إلى ساحات حرب، وتم انتشال 529 شهيدًا من هذه المقابر حتى الآن، في دليل واضح على حجم الجرائم التي تُرتكب في الخفاء. وبلغ عدد الجرحى والمصابين الذين وصلوا إلى المستشفيات المنهكة 116,505 جريحًا، منهم 17,000 بحاجة ماسة إلى عملية تأهيل طبي طويلة الأمد بسبب الإصابات البالغة، و4,700 حالة بتر للأطراف، 18% منهم من الأطفال الذين سيحملون ندوب الحرب مدى الحياة. وتشير الإحصائيات المروعة إلى أن 60% من الضحايا هم من الأطفال والنساء العزل. كما أصيب 409 من الصحفيين والإعلاميين بجروح أثناء تغطيتهم للعدوان.

ولم تتوقف الاعتداءات الوحشية عند البشر، بل طالت المرافق المدنية الأساسية، حيث استهدف العدو 232 مركزًا للإيواء والنزوح التي لجأ إليها المدنيون بحثًا عن الأمان.

 ونتيجة لهذا العدوان ، يعيش 39,400 طفل بدون والديهم أو أحدهما، ليواجهوا مصيرًا مجهولًا، وفقدت 14,500 امرأة أزواجهن وأصبحن أرامل يعانين مرارة الفقد والمسؤولية المضاعفة. ويواجه 3,500 طفل خطر الموت الحقيقي بسبب سوء التغذية الحاد والجوع الذي ينهش أجسادهم الصغيرة، بينما يحتاج 22,000 مريض بشكل عاجل للعلاج في الخارج لإنقاذ حياتهم، لكن العدو يمنعهم من السفر، ويضاف إليهم 13,000 مريض آخر أنهوا بالفعل إجراءات التحويل الطبي وينتظرون سماح العدو بالسفر، و12,500 مريض سرطان يواجهون الموت المحقق بسبب منع وصول الأدوية والعلاج، و3,000 مريض بأمراض مختلفة يحتاجون للعلاج المتخصص في الخارج.

 

أوبئة وأمراض واعتقالات وتعذيب ونزوح وتدمير ممنهج

تسببت سياسة النزوح القسري التي يتبعها العدو في تفشي الأمراض المعدية بشكل غير مسبوق، حيث أُصيب حتى الآن 2,136,026 حالة بأمراض معدية مختلفة نتيجة الاكتظاظ وسوء الصرف الصحي ونقص المياه النظيفة، و71,338 حالة بعدوى التهابات الكبد الوبائي الخطيرة. وتواجه 60,000 سيدة حامل خطرًا داه محدقًا لانعدام الرعاية الصحية الأساسية التي تحتاجها، بينما يعاني 350,000 مريض مزمن من خطر مضاعفات أمراضهم بسبب الحصار الخانق ومنع العدو إدخال الأدوية الضرورية لإنقاذ حياتهم.

طالت حملة الاعتقالات التعسفية التي شنها العدو الغاشم 6,633 فلسطينيًا من قطاع غزة، بينهم 362 من الكوادر الصحية الذين كانوا يؤدون واجبهم الإنساني، حيث أُعدم منهم ثلاثة أطباء داخل السجون السرية تحت وطأة التعذيب الوحشي. كما اعتقل العدو 48 صحفيًا معروفًا كانوا ينقلون للعالم جرائم الاحتلال، و26 من عناصر الدفاع المدني الذين كانوا يحاولون إنقاذ الأرواح من تحت الأنقاض.

يعيش في قطاع غزة حاليًا ما يقارب 2 مليون نازح قسري، فقدوا منازلهم وأصبحوا بلا مأوى، بينما استهدف العدو بشكل متعمد 28 تكية طعام و37 مركزًا لتوزيع المساعدات الإنسانية في إطار سياسة التجويع الممنهجة التي يتبعها ضد المدنيين. وتدهورت أوضاع النازحين بشكل كارثي، حيث اهترأت 111,000 خيمة وأصبحت غير صالحة للسكن الآدمي، وتحتاج 280,000 أسرة نازحة بشكل عاجل إلى إيواء بديل بعد أن دُمرت منازلهم بالكامل.

ولم يسلم العمران والبنية التحتية من وحشية العدو، حيث دمر بشكل ممنهج 224 مقرًا حكوميًا، و142 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية بشكل كلي، و364 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية أخرى بشكل جزئي. واستشهد  13,000 طالب وطالبة كانوا يحلمون بمستقبل أفضل، وحُرم 785,000 طالب وطالبة من حقهم الأساسي في التعليم، واستشهد 800 معلم وموظف تربوي كانوا يحملون رسالة العلم والمعرفة، و150 عالمًا وأكاديميًا وأستاذًا جامعيًا وباحثًا فقد المجتمع الفلسطيني نخبة من علمائه ومفكريه.

 

دمار هائل في البنية التحتية والمساجد والكنائس والمقابر

طالت يد التخريب المتعمد دور العبادة والمقدسات ، حيث دمر العدو 828 مسجدًا بشكل كلي، وحولها إلى أكوام من الركام، و167 مسجدًا آخر بشكل بليغ يحتاج إلى إعادة ترميم شاملة، كما استهدف بشكل مباشر ثلاث كنائس تاريخية. ولم تتوقف همجية العدو عند هذا الحد، بل امتدت لتطال الأموات وحرمة المقابر، حيث دمر 19 مقبرة كليًا وجزئيًا من أصل 60 مقبرة موجودة في القطاع، وقام بسرقة 2,300 جثمان من قبور القطاع في جريمة بشعة تنتهك حرمة الأموات.

بلغ عدد الوحدات السكنية التي دمرها العدو بشكل كلي 165,000 وحدة سكنية، تاركًا مئات الآلاف من الفلسطينيين بلا مأوى، و115,000 وحدة أخرى بشكل بليغ أصبحت غير صالحة للسكن، إضافة إلى تضرر 200,000 وحدة سكنية بشكل جزئي. وألقى العدو على المدنيين في قطاع غزة ما يقدر بـ 100,000 طن من المتفجرات، ما يعكس حجم التدمير الهائل. ودمر أو أحرق أو أخرج عن الخدمة 38 مستشفى و81 مركزًا صحيًا، واستهدف 164 مؤسسة صحية، و144 سيارة إسعاف كانت تنقل الجرحى والمرضى، و54 سيارة إطفاء وإنقاذ ودفاع مدني كانت تحاول إخماد النيران وإنقاذ المحاصرين.

 كما دمر العدو 206 مواقع أثرية وتراثية تمثل جزءًا من تاريخ وهوية الشعب الفلسطيني، و3,780 كيلومتر من شبكات الكهرباء، و2,105 محولات توزيع كهرباء، وحرم القطاع من 1.88 مليار كيلو وات ساعة من الكهرباء، ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل. ودمر أيضًا 330,000 متر طولي من شبكات المياه، و655,000 متر طولي من شبكات الصرف الصحي، و2,850,000 متر طولي من شبكات الطرق والشوارع، ما أدى إلى شل حركة التنقل، و45 منشأة وملعبًا وصالة رياضية كانت متنفسًا للشباب، و719 بئر ماء كانت مصدرًا حيويًا للمياه. وبلغت نسبة الدمار الكلي الذي أحدثه الاحتلال في قطاع غزة المروع 88%، وتقدر الخسائر الأولية المباشرة الناجمة عن هذا التدمير الهائل بـ 42 مليار دولار أمريكي.

 

رغم كل الألم والدمار الهائل الذي لحق بغزة، يبقى شعب غزة صامدًا، متشبثًا بأرضه وهويته العريقة، مؤمنًا بحقه الثابت في الحياة والحرية والكرامة. إن هذا العدوان الوحشي، بكل فظاعته وجرائمه، لن تكسر إرادة هذا الشعب العظيم، بل ستزيده صلابة وعزيمة في مواجهة العدو الصهيوني. ستبقى غزة أيقونة للصمود الأسطوري والتضحية الفريدة، وستظل قصص شهدائها الأبرار وجرحاها الأبطال محفورة بعمق في ذاكرة الأجيال القادمة، شاهدة أبدية على وحشية العدو الإسرائيلي وبسالة المقاومة الفلسطينية، حتى يتحقق النصر المؤزر وتشرق شمس الحرية والعدل على هذه الأرض المباركة.

 

قد يعجبك ايضا