موقع أنصارالله . تقرير | يحيى الشامي
لم تكن خطة توزيع المساعدات في غزة مجرد عملية إنسانية، بل كانت خطة لعسكرتها واستغلال الجياع استخباراتيًا عبر استدراجهم إلى فخاخ تقنية، فقد أصبح الطعام مقابل الكرامة هو الثمن؛ فلا يحصل الغزي على أي مساعدة إلا بعد إخضاعه لما يعرف بفحص المقاييس الحيوية وأخذ بصمة وجهه، ليصبح عنصراً في شراك شبكات استخبارات العدو خاضعاً للرقابة على مدار الساعة وعرضة للقتل في أي لحظة، هكذا تحولت المساعدات الإنسانية إلى أداة عسكرية يستفيد منها العدو الإسرائيلي أكثر منها حقًا إنسانيًا ينقذ الجياع.
أراد الصهاينة صرف الضغط الدولي عنهم بكذبة المراكز الإنسانية، لكن حقيقة الفاجعة الإنسانية كانت أكبر من مكرهم وانتهازية خططهم المبنية على حالة إنسانية غاية في السوء وغير مسبوقة في تاريخ الحروب، يوم أمس انهار المركز الإنساني بعد دقائق من دخوله رفح تحت ضغط الحشود المنتظرة الجائعة، تمامًا كما حذر بعض الصهاينة حكومتهم، بالنسبة للأمريكيين المشرفين على المخطط فرّوا واحتموا بقوات العدو الإسرائيلي، أوضح المشهد الفاجعة كم أنه يصعب على الجياع، وهم بالآلاف وبعضهم قطع مسافة سبعين كيلومترًا، رص صفوفهم والانتظار في طوابير أمام مركز واحد بعد شهرين من التجويع، بينما كان المفترض أن تأتي إليهم المساعدات لا أن يذهبوا هم إليها.
الحقيقة التي تحدث أمام أعين العالم أن الوضع الإنساني في قطاع غزة يتدهور بشكل كارثي، بالرغم من تصاعد التحذيرات الدولية من مجاعة وشيكة، تؤكد صحف ومواقع عالمية أن حكومة العدو الإسرائيلي ترتكب جرائم حرب ممنهجة، وتستخدم التجويع وسيلة لإخضاع السكان، في وقت تتصاعد فيه التحذيرات من كارثة إنسانية قد لا يمكن احتوائها، تتوالى التأكيدات وتتابع التحذيرات ومعها وبالرغم منها تستمر المجاعة منذرة بحدوث الأسوأ.
يستخدم العدو الإسرائيلي سلاح التجويع بفعالية في غزة، رصدت صحيفة واشنطن بوست ظاهرة متنامية تتمثل في بحث العائلات الفلسطينية عن الطعام في النفايات، مشهد غير مسبوق في غزة حتى في أسوأ ظروف الحصار السابقة، بدأت هذه الممارسات المؤلمة بالظهور خلال الأشهر الأخيرة من الحرب، تحت وطأة الجوع المدقع، ويحرص كثيرون على القيام بها ليلًا لتجنب الإحراج الاجتماعي.
من جانبها، أكدت منصة "ذي إنترسبت" أن الحصار الإسرائيلي محكم، والجيش يكثف استهدافه للجهات التي تحاول إيصال المساعدات، يعاني واحد من كل خمسة فلسطينيين من جوع حاد.
وفي تحقيق لـ صحيفة لوموند الفرنسية، وُثقت محاولات صمود أكاديمية في غزة، حيث لجأت الجامعات الكبرى إلى التعليم عن بُعد لجذب آلاف الطلبة رغم دمار المؤسسات التعليمية، بادرت جامعات الأزهر والأقصى والجامعة الإسلامية بإطلاق برامج إلكترونية، واعتبر عميد كلية الزراعة بجامعة الأزهر ذلك "تحديًا قوميًا" في وجه الحرب.
تتصاعد الإدانات الدولية للجرائم المرتكبة، نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقالًا لرئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، اتهم فيه "حكومة" نتنياهو بارتكاب جرائم حرب، واصفًا إياها بـ"العصابة الإجرامية" التي حولت غزة إلى منطقة كارثة إنسانية، شدد أولمرت - في تصريحات أثارت سخط داخل كيان العدو- على أن العمليات العسكرية تفتقر لأي أهداف أو استراتيجية واضحة، وتدار بدوافع سياسية شخصية، ما يمثل سابقة خطيرة في تاريخ العدو الإسرائيلي السياسي والعسكري.
وكشفت الغارديان البريطانية عن رسالة موقعة من أكثر من 800 محام وقاض بريطاني، من ضمنهم قضاة سابقون بالمحكمة العليا، طالبوا فيها بفرض عقوبات على كيان العدو الإسرائيلي وتعليق عضويتها في الأمم المتحدة حيث أكد الموقعون وجود أدلة متزايدة على ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، فضلًا عن خروقات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، مطالبين بتحرك فوري لوقف هذه الانتهاكات.
لم يعد الموت في غزة خيارًا بين القصف أو القنص، فالجوع بات سلاحًا لا يقل فتكًا، وتحول القطاع المحاصر منذ 600 يوم إلى مقبرة جماعية لأهله، حيث تتساقط الأرواح بين جائع لم يجد رغيف خبز، ومريض لم تسعفه حبة دواء.
منذ السابع من أكتوبر2023، يستخدم العدو الإسرائيلي سلاح التجويع ضد أكثر من مليوني فلسطيني بعد أن أغلق المعابر، وقصف مخازن الغذاء، وأتلف الأراضي الزراعية، لتنهار المنظومة الغذائية تدريجيًا مع نفاد الوقود وتعطل المخابز، وبحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، توفي 58 فلسطينيًا جوعًا حتى الآن بينهم 53 طفلًا، في حين يواجه أكثر من 3500 طفل دون سن الخامسة خطر المجاعة، ويقف 290 ألف طفل على حافة الهاوية، أما نقص الدواء، فقد حصد حياة 242 طفلًا، وسط حصار خانق لا يستثني الغذاء أو العلاج أو حتى الأمل.
دخلت المجاعة فعليًا إلى شمالي قطاع غزة منذ نهاية فبراير 2024، وبلغت ذروتها حينما نقض العدو الإسرائيلي اتفاق وقف إطلاق النار في مارس الماضي، ومنعت دخول الطحين والدواء تمامًا لمدة ثلاثة أشهر، واستمرت في منع إدخال الوقود عمدًا.
وفي مشهد غير مسبوق، ظهرت "تكايا الطعام" في غزة، وهي ظاهرة لم تعرفها المدينة يومًا، حيث يصطف السكان في طوابير طويلة للحصول على وجبة تسد الرمق، في حين يضطر آخرون إلى أكل أعلاف الحيوانات وأوراق الأشجار للبقاء أحياء.
يحذر حقوقيون أمميون ومختصون من أن العدو الاسرائيلي يتبع سياسة "هندسة التجويع الممنهج" عبر استحداث نقاط توزيع مساعدات في محوري "نتساريم" و "موراغ"، لدفع السكان نحو الجنوب تحت وطأة القصف والجوع ضمن مخطط تهجير قسري يطال مناطق شمالي قطاع غزة بشكل خاص.
فشل العدو الإسرائيلي وشريكه الأمريكي في خلق سلطات بديلة في غزة، بعد أشهر من هندسة أدوات السيطرة عبر مؤسسة وهمية يديرها عسكر أمريكيون بواجهة إنسانية، "مؤسسة غزة الإنسانية" حيث رفضت الأمم المتحدة الخطة باعتبارها تسييسًا للإغاثة ومساسًا بالكرامة، بينما يتكرّس أن المجاعة لم تعد تهديدًا، بل واقعًا يوميًا ينهش أجساد الأطفال ويقضم إنسانية العالم بصمت مريع.
الكرة الآن في ملعب العرب، لكن العرب أنفسهم ليسوا في الملعب؛ هم خارج المشهد بانتظار أن يعيد الأمريكي وضع خطة جديدة، سيقومون في أحسن الأحوال بصياغة بيان جديد، وهذا لن يوقف الإبادة ولن ينهي المجاعة.