|| صحافة ||
قد يظن البعض أن تدهور الوضع، في الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تخوضها "إسرائيل" أصالة عن نفسها ونيابة عن تحالف الاستعمار الأميركي – الغربي، باتّجاه حرب شاملة ما يزال في خانة الاحتمالات الضعيفة. ويسوّغ هؤلاء صحة هذه الفرضية بربطها بأولوية المصالح الأميركية التي ستتأثر بشكل بالغ من جراء اندلاع أي حرب تأخذ طابعًا إقليميًا وتنذر بتوسّعها إلى خارج حدود المنطقة.
لكنّ هناك تقديرًا آخر تدعمه المعلومات المتقاطعة وقراءة المواقف والتطوّرات الميدانية التي دار رحاها، في فلسطين ولبنان وسورية واليوم إيران. ويقول إن المسار الحربي الشامل الذي بدأه رئيس حكومة العدوّ بنيامين نتنياهو، بدعم أميركي ديمقراطي وجمهوري مطلق، لن يتوقف إلا بتحقيق الهدف الإستراتيجي الأكبر وهو القضاء على النظام الإسلامي في إيران، كونه العائق الأساسي لتنفيذ المشروع الأميركي التاريخي للهيمنة على المنطقة ودولها وشعوبها.
على مدار العقود الأربعة الماضية؛ حدّثت دوائر القرار الأميركي – "الإسرائيلي" تقديراتها الإستراتيجية للتعامل مع المستجدّ الطارئ في إيران بانتصار الثورة الإسلامية ورفع شعار العداء لأميركا و"إسرائيل". وعملت على تعديل هذه التقديرات بما تتطلّبه المراحل؛ مع الأخذ بالحسبان التطوّرات المتعلّقة بكلّ مرحلة. وكانت تلك الدوائر تتأرجح دائمًا بين خيارين: الأول؛ ضرب رأس الأفعى (إيران) فينهار الجسد والذيل، والثاني هو الذي حاز على أرجحية التنفيذ: ضرب الذيل وإضعاف الجسد فتروّض الأفعى.. ولذلك؛ ففي الوقت الذي كانت فيه "إسرائيل" تنفّذ الشق العسكري من المشروع بإشعالها الحروب المستمرة في فلسطين ولبنان وسورية لإضعاف ما تسمّيه "أذرع إيران"، عملت الولايات المتحدة على خطّين، الأول: حصار إيران (قائدة المحور) بالحروب والعقوبات الثقيلة المرهقة، والثاني: تطويع دول المنطقة وإدخالها إلى الحظيرة الأميركية، وصولًا إلى حشر إيران في الزاوية وعزلها عربيًا وإسلاميًا.
تأخر حصد النتائج المتوخاة كثيرًا؛ بل جاءت على خلاف التوقعات، فقد فشلت "إسرائيل" في تحقيق أي انتصار ميداني في حروبها على المقاومة في فلسطين وسورية ولبنان؛ في ما استطاعت إيران تطوير قدراتها الإستراتيجية بشكل كبير، ولا سيما البرنامج النووي والصناعات العسكرية المتقدّمة، وتكريس حضورها وموقعها في الخريطة الإقليمية والعالمية. هذا فضلًا عن انضمام العراق واليمن إلى محور المقاومة، بعد خروجهما من دائرة السيطرة الأميركية.. لكن واشنطن نجحت في تظهير حلفها العربي تحت مظلة التسوية تأسيسًا على تجربة "كامب دايفيد" ووادي عربة وأوسلو، وهو معطى إستراتيجي بنت عليه واشنطن و"تل أبيب" خط سيرهما في تنفيذ المرحلة النهائية من مشروع الهيمنة، أي شنّ الحرب على إيران.
استعراضًا لأبرز المواقف التي تنذر بإمكان توسّع دائرة الحرب، أعلن الكرملين أن: "الوضع في الشرق الأوسط ينذر بالخطر، ويتّجه نحو مزيد من التصعيد"، مشيرًا إلى: "أننا لا نرى رغبة لدى "إسرائيل" في الانتقال لوساطة أو البحث عن مسار يفضي إلى تسوية مع إيران".. ويصدق على هذا الكلام مقولة: "وإذا قالت حذام فصدّقوها"، فقد كانت موسكو الجهة الوحيدة التي حذّرت، بشكل صريح ومباشر، من توسّع الحرب "الإسرائيلية" على قطاع غزّة باتّجاه لبنان وسورية، ولم تمض سوى أيام على التحذير حتّى بدأ نتنياهو عدوانه الشامل على لبنان ثمّ احتلاله الجنوب السوري لاحقًا..
في السياق نفسه؛ يأتي تحذير الاتحاد الأوروبي من أن "تدخّل أميركا سيجر المنطقة إلى صراع أوسع"؛ لتكشف كواليس الاجتماعات التي أجراها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قمة الدول السبعة في كندا، واتّضح جزء منها في تصريحاته التي أدلى بها وهو يقف إلى جانب رئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر، وعلى متن طائرته الرئاسية عائدًا بشكل مبكر إلى واشنطن، حين قال: "أتطلع لما هو أفضل من وقف لإطلاق النار في إيران، وأسعى إلى نهاية حقيقية للصراع هناك.. أتطلع لإذعان كامل من إيران.. لا يمكن لإيران أن تمتلك سلاحًا نوويًا.".. في هذا التصريح رسالة أميركية واضحة بأن الحرب سوف تستمر وبوتيرة أقسى، مع ترجيح كبير لتدخّل أميركي مباشر. أما الحديث عن احتمال إعطاء ترامب فرصة أخيرة لإيران للعودة إلى طاولة المفاوضات وعقد اتفاق إيراني – "إسرائيلي" فهو بمثابة خديعة أخرى، ويعزّز ذهاب واشنطن إلى الحرب.
على خط موازٍ، يؤكد مسؤولو العدوّ وعلى رأسهم نتنياهو أن "إسرائيل تخوض حربًا وجودية. . وسنواصل طريقنا لتغيير الشرق الأوسط. . ولست مهتمًا بأي عرض أو مفاوضات لوقف إطلاق النار". وهذا يدفع إلى استحضار مواقفه التي دأب على إطلاقها خلال معركتي "طوفان الأقصى" و"أولي البأس"، وما صرّح به وزراؤه وقادته العسكريون بأن: "اللحظة الحاسمة لتحقيق مشروع "إسرائيل" الكبرى قد حانت"، أما المواقف الأكثر خطورة فهي التي صدرت عن نتنياهو نفسه بـــ: "أننا سنصل إلى طهران"؛ وما رشح عن أكثر من مسؤول قوله بأن تغيير النظام في إيران هو الغاية النهائية لهذه الحرب. وقد حاول الإعلام الصهيوني التغطية على هذا الأمر بنشر أهداف حدّدها ما يُسمّى "مجلس الأمن القومي الإسرائيلي" لا تتضمن تغيير النظام وحصرها بالقضاء على المشروع النووي، ولكن ذلك لا يلغي وجود هذه الغاية وإصرار العدوّ على تحقيقها.
بالانتقال إلى المجريات السياسية والميدانية، أوردت أوساط مطّلعة معلومات وتقاطعات عن مسار الخطة الأميركية – "الإسرائيلية"، منذ السابع من تشرين الثاني/ أكتوبر 2023 وحتّى اليوم، وتفيد بأن تنفيذ خط هذا المسار بُني على عدة مراحل وخطوات متسلسلة ومتدحرجة.
يبدأ أولًا: بشنّ الحرب على قطاع غزّة وإزالة "تهديد" حماس وفصائل المقاومة، ثمّ الانتقال إلى لبنان وضرب حزب الله وإزالة تهديد المقاومة، ثمّ قلب النظام في سورية والسيطرة عليها واحتلال مناطقها الجنوبية وفتح الطريق (ممر داود) تمهيدًا للانتقال إلى العراق وضرب "الحشد الشعبي". وهكذا تكون إيران قد فقدت كلّ أذرعها في المنطقة؛ لتبقى أمام خيارين: إما التسليم أو التعرّض للضرب المباشر.. أما بالنسبة إلى جبهة اليمن؛ فقد كان من المقرّر غزوها أميركيًا بشكل مباشر، ولكن ترامب استثناها حاليًّا نظرًا إلى الكلفة المرتفعة التي تتسبّب بها، فضلًا عن تصنيف الخطر المتأتي عنها حيال "إسرائيل" بشكل خاص بأنه متدنّي التأثير، ولا يؤدي إلى خسائر مادية مباشرة وحيوية.
لكن ما جرى أن الحسابات الأميركية – "الإسرائيلية" لم تأتِ بالنتائج المتوخاة مرة أخرى، حيث صمدت حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، وما تزال تحافظ على وجودها على الرغم من تقلّص قدرتها على المواجهة وتنفيذ العمليات العسكرية المباشرة، فضلًا عن سقوط مشروع تهجير الشعب الفلسطيني وتشريده في الوقت الراهن، في ما منع حزب الله والمقاومة في لبنان نتنياهو من تحقيق أهدافه فاضطرّ إلى إعلان وقف إطلاق النار، لينتقل المشروع إلى مرحلة الضغط السياسي من الخارج والداخل بذريعة تسليم السلاح وعرقلة إعادة إعمار القرى اللبنانية المهدّمة ومنع الناس من العودة إلى قراهم ومنازلهم..
أمام هذه التطوّرات لم يعد أمام نتنياهو وترامب المتعجّلين والمتهورين إلا أن يفتح جبهة الحرب ضدّ إيران، بشكل مباشر.
لم يكن اتّخاذ قرار الحرب ضدّ إيران سهلًا – وفقُا للأوساط المطّلعة نفسها - بل استلزم الكثير من المناقشات الأميركية – "الإسرائيلية" ودراسة السيناريوهات المحتملة وعواقبها. وعلى الرغم من أن القرار كان متّخذًا قبل مدة طويلة في عهد الرئيس بايدن، إلا أن المسألة كانت تتطلّب وقتًا كافيًا لحسمها، وهو ما وفّره ترامب لنتنياهو من خلال طرحه بدء جولات المفاوضات النووية مع إيران وتحديده مهلة ستين يومًا للتوصل إلى ذلك. وهي مرحلة "تقطيع الوقت" التي استغرقها التحضير المعلوماتي والاستخباري واللوجستي من الولايات المتحدة و"إسرائيل"، إلى جانب بريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرهم من الأذرع الأميركية. وقد ألمح المتحدث باسم جيش العدوّ "ايفي ديفرين" إلى ذلك بوضوح؛ حين قال إن: "إسرائيل تواجه حربًا على مستقبلها ومستقبل أبنائها"، مؤكدًا أن: "الجيش تجهز مطوَلًا لهذه المعركة.. ولن يسمح لإيران بالحصول على سلاح نووي".
لقد اعتمد ترامب، مرة جديدة، أسلوب الكذب والخداع وإيهام العالم بأن لا حرب على إيران عندما حدد موعدًا لجلسة المفاوضات الأخيرة، وهو ما استغلته "إسرائيل" لمباغتة إيران واغتيال أبرز قادتها العسكريين وعلمائها واستهداف منصاتها الصاورخية ومؤسساتها الحيوية. وكشف نتنياهو مفتخرًا بأن ترامب وفّر الأرضية المناسبة لبدء الحرب، وأدى دورًا أساسيًا في التشويش على الفهم الإيراني. وقد أشار وزير الخارجية عباس عراقتشي إلى ذلك، صراحة وفقًا لما نقلته صـحـيـفـة "وول سـتـريـت جـورنـال" عن دبلوماسيين أوروبيين وعرب تحدث إليهم، وقال إن: "ترامب وويتكوف أوهما الإيرانيين بأن التفاوض على اتفاق نووي سيمنع هجومًا "إسرائيليًا"، ولم يتوقعوا أن تشن "إسرائيل" ضربات جوية بهذا الحجم في أثناء انخراط طهران في مفاوضات مع الأميركيين"!! ولكن سرعان ما استعادت طهران زمام المبادرة لتحقّق مستوى باهرًا من التكافؤ في المواجهة، مع استعداد ثابت للاستمرار بها، مهما تطلّب الأمر من وقت وأثمان كبيرة، فهذه الحرب وجودية أيضًا بالنسبة إلى إيران وللمنطقة بأسرها.
المؤشرات كلها تنذر بأن الحرب المفروضة على إيران في طريقها إلى التصعيد؛ وبأن ترامب ونتنياهو اتّخذا القرار الجنوني بإشعال المنطقة وفقًا لمبدأ "وجع يوم ولا كلّ يوم"، بحسب تعبير استخدمه مسؤول دولة خليجية كبيرة قبل سنوات. ولعلّ مغادرة ترامب قمة مجموعة السبع؛ لـ"يكون في البيت الأبيض وليس في كندا لمراقبة الأحداث عن كثب لا عبر الهواتف"، ليست بغرض إيجاد وسيلة لوقف الحرب – كما صرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون – بل لمتابعة الخطوات التصعيدية ومآلات المواجهة، والتي تهدّد جدّيًا بإمكان اتّساعها بما تحمل من مخاطر كارثية على استقرار المنطقة ودولها.
هذا ما سيدفع حتمًا إلى اصطفافات إقليمية ودولية لن تكون أوروبا، وكذلك روسيا والصين وباكستان والهند بعيدين عنها، تبعًا لأجندة أهداف ومصالح كلّ دولة. ولن يكون العرب فيها سوى في موقع المتفرّج على النيران التي ستلتهم الجميع.. ولات حين مناص.
العهد الاخباري: محمد الحسيني