في واحدة من أشد لحظات الارتباك التي عرفها الكيان الصهيوني، تواجه "تل أبيب" أزمة مالية خانقة تتفاقم مع كل صاروخ يمني يسقط على منشآتها الحيوية. الضربات المركزة التي استهدفت منشآت الطاقة والمرافق الاستراتيجية، عمّقت الجراح الاقتصادية، حتى دفعت قادة الكيان إلى الاستغاثة العلنية بحثاً عن دعم مالي، ليس فقط من حلفائهم التقليديين في الغرب، بل حتى من دول الخليج كما دعا لذلك "وزير المالية" في الكيان الصهيوني.
بدأت المؤشرات تظهر منذ الأسبوع الأول للضربات، مع إعلان ما تسمى "وزارة المالية الإسرائيلية" تلقيها أكثر من 30 ألف طلب تعويض من مستوطنين تضررت ممتلكاتهم بشكل مباشر. ومع احتدام الهجمات، تصاعدت المخاوف من انهيار شامل، فالمعطيات على الأرض كانت أكثر قسوة من أي تقديرات أولية.
وكشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية في تقرير لها أن "إسرائيل" تخسر يومياً ما قيمته 725 مليون دولار بسبب العمليات العسكرية. هذه الخسائر لا تقتصر على الذخيرة أو صيانة القبة الحديدية، بل تشمل تشغيل الدفاعات الجوية، وصواريخ الاعتراض، والضربات المضادة التي باتت بلا فعالية تُذكر في مواجهة سيل النار القادم من المقاومة.
أما صحيفة "The Economic Times" فقد نقلت أن تكلفة تشغيل صواريخ الاعتراض فقط تتراوح بين 200 و285 مليون دولار يومياً، وهو رقم مرعب بالنظر إلى المدى الزمني الذي قد تستمر فيه هذه الحرب. شهر واحد فقط من المواجهة يعني أكثر من 21 مليار دولار من الاستنزاف المباشر.
وبحسب التقديرات الأولية التي بدأت تتسرب إلى الإعلام العبري، فإن الخسائر المباشرة من الضربات تقترب من ملياري "شيكل" (حوالي 540 مليون دولار)، وتشمل هذه الأضرار البنية التحتية العسكرية، ومنشآت الطاقة، وبعض المرافق الحيوية. ووفقاً لما نقلته قناة "كان" الرسمية وصحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن الأضرار طالت مواقع عسكرية حساسة، إلى جانب منشآت حيوية في وسط وجنوب الكيان.
وفي الأسواق المالية، بدأ الانهيار يأخذ منحًى خطيراً. مؤشر "تل أبيب" فقد أكثر من 6% من قيمته خلال أسبوع، و"الشيكل" تهاوى بنسبة تجاوزت 8% منذ بداية يونيو، ما اضطر "البنك المركزي" الإسرائيلي إلى ضخ أكثر من 30 مليار "شيكل" لحماية العملة من الانهيار التام.
وفي العمق الاقتصادي، تساقطت أعمدة الإنتاج واحداً تلو الآخر. مشاريع البناء توقفت. وبحسب "تايمز أوف إسرائيل"، فإن أكثر من 70 ألف عامل غادروا مواقع العمل، ما تسبب في شلل تام لنحو 1500 مشروع قيد التنفيذ. السياحة، أحد أبرز مصادر الدخل، باتت منعدمة. وكشفت "وزارة السياحة الإسرائيلية" عن تراجع أعداد السياح بنسبة تفوق 90%، وتحوّلت الفنادق والمنتجعات إلى مبانٍ خاوية في انتظار المجهول.
على وقع كل هذه الأزمات، تحذر مؤسسات التصنيف الدولية مثل "Fitch" و"S&P Global" من خفض محتمل للتصنيف الائتماني لاقتصاد الكيان خلال الأشهر المقبلة، بسبب تزايد معدلات الخطر وضعف الثقة في البيئة الاستثمارية. والأخطر، بحسب تقارير دولية، أن حرب الاستنزاف هذه، التي أرادها نتنياهو "رسالة ردع" لقوى المقاومة، تحولت إلى ضربة في خاصرة الاقتصاد الصهيوني، وكشفت هشاشة المنظومة الاقتصادية التي طالما تغنّى بها العدو الإسرائيلي.
في خضم هذا الانهيار، شرعت "حكومة" العدو بحملة دبلوماسية استغاثية، شملت عواصم القرار في الغرب، وتحديدًا ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، والولايات المتحدة. لكن المفاجأة الكبرى، والتي كشفت طبيعة الذهنية الاستعمارية التي ما زال الكيان يعمل بها، تمثلت في إدراج دول الخليج ضمن "قائمة الممولين المفترضين" لهذه الحرب.
نقلت "القناة الـ 14 العبرية" عما يسمى بـ "وزير المالية الصهيوني المتشدد"، بتسلئيل سموتريتش، قوله: "على دول الخليج التي تكسب تريليونات الدولارات وألمانيا وبريطانيا وفرنسا المشاركة في تكاليف هذه الحرب على الأقل اقتصادياً". وشدد الوزير الصهيوني على ما قاله المستشار الألماني فريدريش ميرتس، بأن "إسرائيل تقوم بالعمل القذر من أجل العالم بما فيه دول الخليج العربي"، مؤكداً أن "الدول العظمى لا يمكنها أن تنجز مثل ما أنجزه جيشنا". وتابع: "لا نريد منهم أن يعطونا من أرواحهم أو جنودهم، يمكنهم على الأقل المساهمة مالياً لأنهم يكسبون المليارات". وأوضح سموتريتش أن "إسرائيل تخلق المجال أمام بناء تحالفات إضافية مثل اتفاقيات أبراهام".
تدين بعض الدول العربية العدوان الصهيوني على إيران لكن على الأرض، لم تقم أي دولة خليجية بخطوة عملية واحدة تترجم البيانات إلى موقف فعلي: لا تجميد لعلاقات، ولا سحب سفراء، ولا حتى تعليق صفقات قائمة. بل إن "التطبيع" مع الكيان لم يتوقف، لا في ظل عدوانه على غزة، ولا حتى بعد الضربات الأخيرة التي يُفترض أنها تمثل تهديداً مباشراً للأمن الإقليمي الذي تتحجج به الأنظمة.
فمن استيراد المنتجات الزراعية الإسرائيلية، إلى توقيع اتفاقيات أمنية وتكنولوجية معلنة (كما فعلت أبوظبي والمنامة)، وصولاً إلى تمويلات استثمارية مشتركة في قطاعات البنية الرقمية والطاقة، استمر الخط البياني للتطبيع في الصعود، رغم كل المجازر والانتهاكات.
ولذا، فإن تصريح سموتريتش لم يكن مجرد "وقاحة إعلامية"، بل مؤشرا على أن الكيان يرى أن المال الخليجي أصبح واجباً سياسياً واقتصادياً عليه، بعد ما قدمته أنظمة التطبيع من تنازلات، وصمت، وشراكات. فمن وجهة نظر "تل أبيب"، من يُطبّع معنا، عليه أن يُموّل حروبنا، ولو كانت ضد الأمة التي ينتمي إليها. فالتطبيع في العقلية الصهيونية ليس صفقة، بل خضوع متكامل: يبدأ بالصور الدبلوماسية، ولا ينتهي إلا عند محطات الدفع.
صورة الفوضى والذعر تلقي بظلالها على كيان الاحتلال، قرارات الإخلاء، شوارع تل أبيب الصاخبة تتحول إلى مدن أشباح، وتحت وطأة الصواريخ، بدا كل شيء خارجاً عن السيطرة، وجاء "الوعد الصادق 3" يكشف عن هشاشة البنية التي لطالما ظل المغتصبون يتغنون بعظمتها التي لا تقهر.
بين جدران الملاجئ المحصنة في يافا المحتلة "تل أبيب"، وفي ظلال حربٍ لم تُحسب نتائجها جيداً، بدأت الكارثة التي لم تظهر في نشرات الأخبار، ولم تلتقطها الرادارات. لم تكن صواريخ إيران، ولا المسيّرات اليمنية وحدها من كسرت هيبة "العمق الإسرائيلي"، بل كان الداخل الصهيوني نفسه، الذي بدأ ينهار تحت ضغط أزمة صحية وإنسانية خانقة، لتكشف عن زيف "الكيان الآمن" التي طالما تبجّح بها الإعلام الصهيوني وصدّقها المغتصبون.
الأخبار تتوالى من الكيان الإسرائيلي، لتؤكد أن الملاجئ لم تعد تتسع للأعداد الغفيرة من الصهاينة الذين تدفقوا إليها. يتدافعون، يتزاحمون، بحثًا عن موطئ قدم، في مشهد يعكس حالة من الهلع الجماعي. "تل أبيب"، باتت اليوم مشلولة بالكامل، وشوارعها تُخلَى، وأنفاس المستوطنين تُحبَس.
تصف عضوة "الكنيست" الإسرائيلي، الصهيونية "تالي جوتليب" من "حزب الليكود"، المشهد :" الجيش لم يعد يتحكم بالمشهد، والشرطة تحاول فرض النظام، لكن الغلبة للخوف، فالكل يريد فقط أن ينجو".
يقول أحد الجنود الصهاينة داخل أحد الملاجئ: "نحن لسنا في ملجأ... نحن في مَجْعَرُ!"، وهي عبارة تلخص بدقة حالة الانهيار المعنوي والنفسي، بعد أن تحوّلت الملاجئ من ملاجئ آمنة إلى سجون خانق"..
المجرم نتنياهو، في كلمته التي ألقاها من أحد المواقع التي تعرّضت للقصف، ظهر مرتبكاً كمن يحاول التعلّق بالقشة الأخيرة. تحدث عن "الأمل" الذي تولده الأزمات، وعن "القوة" التي يُظهرها "الشعب" في الشدائد. لكن خلف هذه العبارات المُنمقة، كانت الروائح الكريهة التي تنبعث من ملاجئ تل أبيب، تفضح ما لا يستطيع الإعلام تغطيته: "جيش مرتبك، وقيادة مأزومة، وواقع داخلي ينهار أمام أول اختبار جدي."