موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الشامي
يواجه جيش العدو الإسرائيلي، في خضم أطول حرب يخوضها في تاريخه، أزمة عميقة وغير مسبوقة على الصعيد النفسي والمعنوي تعصف بجنوده وضباطه، فقد تجاوزت ضغوطات حرب جيش العدو الإسرائيلي على قطاع غزة حدود قدرة جيش العدو على التحمل، ما أفرز ظواهر تنذر بتداعيات خطيرة على مستقبله وأدائه العملياتي، من إقدام عدد من جنوده وضباطه على الانتحار.
تُشير التقارير الواردة من كيان العدو ومنظماته الحقوقية إلى ارتفاع كارثي في معدلات الانتحار بين صفوف جنوده. لقد بات الانتحار يُمثل السبب الثاني للوفاة أثناء المعارك، وهو مؤشر خطير على حجم الضغط النفسي الذي يتعرض له هؤلاء الجنود. فمنذ بداية العدوان على قطاع غزة، أقدم ما لا يقل عن 44 جنديًا صهيونياً على إنهاء حياتهم، وشهدت الأيام العشرة الأخيرة وحدها تسارعًا ملحوظًا في هذه الوتيرة، حيث انتحر ثلاثة جنود.
توضّح الحالات المذكورة أن الصدمةَ النفسيةَ لا تقتصر على ميدان المعركة فحسب، بل تمتد لتُلاحق الجنود حتى بعد تغيير بيئتهم القتالية في مناطق أخرى، أو حتى عقب عودتهم من القتال، فالجندي الصهيوني الأول، من لواء "ناحال"، الذي قاتل في غزة عامًا كاملًا، أقدم على الانتحار بعد نقله إلى هضبة الجولان السورية، أما الثاني، من لواء "غولاني"، فقد أطلق النار على نفسه في قاعدة "سدي تيمان" بصحراء النقب بعد خضوعه لتحقيق أدى إلى سحب سلاحه منه، ويُروى أن الجندي الثالث شكا لزملائه من معاناته الطويلة جراء الويلات والفظائع التي شهدها في غزة، ثم أطلق النار على نفسه.
تجسّدُ قصص الانتحار المذكورة أزمة نفسية عميقة تُعاني منها أعداد متزايدة من جنود جيش العدو، وتصل في ذروتها الى حالة إنهاء الحياة بالانتحار، وجميعهم وفق كثير من التقارير يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة الحادة، الناجمة عن أطول حرب خاضوها في تاريخهم.
يُعاني عدد كبير من جنود العدو الإسرائيلي من اعتلالات نفسية شديدة ناجمة عن صراع مزدوج: الخوف على حياتهم من جهة، وما يرتكبونه من أعمال قتل وتدمير في غزة من جهة أخرى. هذا الصراع الداخلي ترك بصمات عميقة، خاصة على المحاربين القدامى، حيث احتاج 75% منهم إلى دعم نفسي، بينما يخضع الآلاف للعلاج النفسي من آثار اضطراب ما بعد الصدمة، وقد اضطر "جيش" العدو إلى توفير نحو 800 أخصائي نفسي، في محاولة يائسة للتعامل مع هذه الأزمة المتفاقمة.
إلى جانب ذلك، تتزايد حالات رفض الجنود العودة للقتال في غزة بشكل ملحوظ، ما دفع سلطات العدو إلى الزج ببعضهم في السجون عقابًا على هذا التمرد. تُشير الصحف الإسرائيلية إلى عجز "حكومة" العدو عن استيعاب الحالة المعنوية المتدهورة للجنود، وعدم قدرتهم على تلبية الطلبات الهائلة المقدمة للدعم النفسي. وقد اتهمت منظمة "كسر الصمت" للمحاربين القدامى جيش العدو بـالتكتّم المتعمد على التجارب والحالات النفسية القاسية التي يمر بها الجنود والضباط الصهاينة، وفي السياق ذاته، اتهمت صحيفة "هآرتس" العبرية القيادة العسكرية بتسجيل العديد من المنتحرين على أنهم "مصابو حوادث"، في محاولة مكشوفة لإخفاء الحقيقة المروعة للوضع، بينما وصف البعضُ -على مواقع التواصل الاجتماعي داخل كيان العدو- المعتلين نفسيًا من أثر الحرب بـ"ضحايا 7 أكتوبر الصامتين".
تُقدم الشهادات الصادمة لجنود وضباط سابقين وذويهم لمحة عن العمق الكارثي للأزمة النفسية التي تفتك بجيش العدو: الجندي الاحتياطي دانيئيل إدري، الذي أضرم النار في جسده، كان يُعاني من صور الأجساد المتفحمة التي كانت تلاحقه في صحوه ومنامه، وقد عبّر عن حالته المتردية في رسالة لأحد رفاقه قائلًا: "عقلي ينهار. لقد أصبحت خطرًا، قنبلة جاهزة للانفجار". والدته أكدت أن ابنها كان "يتعرض لعذاب داخلي ينهش روحه، بسبب ذكريات أليمة سكنت رأسه من ساحات الحرب، وعجزه عن التحرر من رائحة اللحم المحترق وصور القتلى والمصابين، ما أفقده القدرة على النوم، لا سيما أنه خسر صديقين له في الحرب، وكانت مهمته نقل جثث رفاقه القتلى، ما ضاعف معاناته".
تشاركها الرأي والدة الجندي الاحتياطي المنتحر إليران مزراحي، الذي خدم في غزة 78 يومًا فقط، عندما قالت عن ابنها بكل حسرة: "لقد خرج من غزة، لكن غزة لم تخرج منه أبدًا". لم يقتصر الأمر على انتحار الجنود فحسب، بل طال ضباطًا أيضًا، منهم ضابط في الخدمة الدائمة أطلق النار على رأسه بعد أسبوعين من انطلاق حرب "طوفان الأقصى"، وآخر برتبة مقدم، وثالث برتبة رائد، ورابع كان يعمل طبيبًا في قوات الاحتياط، ولطالما شكا من عدم قدرته على مواصلة رؤية الأجساد المتفحمة والدماء.
تُلقي هذه الظاهرة بظلالها على مفهوم "المقاتل الإسرائيلي" في "الجيش الذي لا يُقهر"، وتُظهر أن هذه الحرب تُسبب خسارة تدريجية للسمات الأساسية التي يجب أن تتوافر في شخصية المقاتل، مثل الثقة بالنفس، الشجاعة والإقدام، والإيمان بعدالة القضية التي يُحارب من أجلها. وتفتح هذه الظاهرة قوسًا لمحاولة فهم ما يجري لجنود العدو بما دفع -عبر تاريخ الحروب- أمثالهم إلى الانتحار، لأسباب شبه مستقرة، منها:
الشعور بالهزيمة أو عدم القدرة على تحقيق النصر: يتزايد الشعور بعدم جدوى الحرب في صفوف جنود العدو، خاصة مع طول أمدها وعدم وجود أفق واضح لنهايتها، في مواجهة مقاومة فلسطينية عنيدة وفعالة.
الخوف الشديد على الحياة والخوف من الوقوع في الأسر: تُعرِّض تكتيكات المقاومة الفلسطينية، المتمثلة في "حرب العصابات" والكمائن والفخاخ، جنود العدو لخسائر فادحة، ما يزيد من مخاوفهم على حياتهم، ومن الوقوع في الأسر.
الإحساس بانفصال القيادة العسكرية عن ظروف الميدان: يشعر جنود العدو بتجاهل قياداتهم لظروفهم النفسية والمعنوية القاسية، مع وجود ضغوط مستمرة من الضباط الميدانيين لإخفاء أوجاعهم النفسية، ومن خالف منهم هذه الأوامر تم تحويله إلى المحاكمة العسكرية، وفرض غرامات على البعض، وهُدد آخرون بالسجن.
تَلَقي الجنود الصهاينة أوامر بارتكاب جرائم حرب أو أفعال غير إنسانية: الشعور بأن ما يقومون به من أعمال وحشية في غزة يترك آثارًا نفسية عميقة تضر بالحالة النفسية ولا تُمحى بسهولة.
طول أمد الحرب دون ظهور أي أفق لنهاية الوجود في ميدان المعركة: يُفاقم هذا العامل من شعور الجنود بالإرهاق واليأس، ويدفعهم نحو الانهيار النفسي.
الإدارة العسكرية غير المباشرة المتزايدة والإهمال الشديد للجنود: يشكو جنود العدو من الإهمال والاستهتار بحياة الفرد المقاتل، وهو وضع جديد على "المجتمع" الإسرائيلي، خاصة في ظل شعور الجنود بأن "حكومة" العدو ليست معنية بحياة الأسرى، بعد أن أعلنت تطبيق بروتوكول "هانيبال" منذ بداية الحرب، والذي يُبيح التضحية بحياة الجندي الأسير.
تُظهر هذه الظاهرة توازيًا مقلقًا مع ما حدث في جيوش أخرى عبر التاريخ، حيث دفعت أسباب مماثلة مئات الجنود الألمان إلى الانتحار في نهاية الحرب العالمية الثانية، ومئات الجنود الأمريكيين في العراق، إلى درجة أن وزارة الدفاع الأمريكية (US Department of Defense) أصدرت مذكرة اعترفت فيها بأن انتحار الجنود هو أعقد المشكلات التي تواجه الجيش، وتكرر الأمر في صفوف جنود أمريكيين عادوا من الحرب في أفغانستان.
تُعزى دراسات وتقارير حول أسباب الانتحار في صفوف الجيوش إلى اضطرابات ما بعد الصدمة، والاكتئاب، وتعاطي الكحول، والتعرض للسخرية أو التنمر والتحرش الجنسي، إلى جانب القلق والتاريخ المرضي لبعض الجنود الذين يستعذبون إيذاء النفس، فضلًا عن الشعور بتأنيب الضمير، وقد صور الشاعر الأمريكي من أصل صربي تشارلز سيميك هذا العمق في سيرته الذاتية المعنونة بـ"ذبابة في الحساء" (A Fly in the Soup)، عندما سُئل عما كان يشعر به الطيارون في الحرب العالمية الثانية، وهم يضغطون على أزرار فتسقط القنابل على رؤوس المباني والناس، وتحرق الأخضر واليابس.
وهناك سبب جديد يخص جيش العدو الإسرائيلي، يتحدث عنه بعض العسكريين هناك، وهو أن جيش العدو يُضطر إلى تجنيد أشخاص يعانون من اضطرابات نفسية في الأصل، فضغط الحرب لا يمنحه وقتًا للتدقيق وتقييم حالات المجنّدين الجدد، وهناك خوف من أن يقود الفحص إلى استبعاد كثيرين، ما يجعل الجيش، وبشكل تدريجي، بلا مقاتلين تقريبًا، ولذا يتصرف قادة جيش العدو الآن وفق قاعدة تقول: "نقاتل بمن يتوافر"، لا سيما أن 15% من الجنود النظاميين الذين حاربوا في غزة وعُولجوا نفسيًا رفضوا العودة إلى القتال، لكن قيادة جيش العدو أعادت من يعانون من إعاقة نفسية تزيد على 50% إلى الحرب، وهو موقف عبّر عنه أحد الضباط قائلًا: "نحن بحاجة إلى أكبر عدد من البنادق، سنتعامل مع العواقب لاحقًا".
يُفاقم كلُّ هذا الوضعَ النفسي والمعنوي في صفوف جيش العدو، وهي مسألة يتوقع معها أخصائيون أن تُعاني "إسرائيل" من علاج خمسين ألفًا على الأقل من جنودها نفسيًا خلال السنوات التي تعقب توقف الحرب، وهذا معناه ببساطة تزايد عدد المنتحرين، سواء أثناء القتال أو بعده، وانهيار تدريجي في تماسك وقدرة جيش العدو على أداء مهامه، ورغم أن الانتحار في صفوف جيش العدو ليس جديدًا، حيث انتحر نحو 1230 جنديًا منذ حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 لأسباب نفسية، فإن حرب "طوفان الأقصى" شهدت اختلافًا واضحًا في هذا الشأن، فمن قبل، كان الجنود ينتحرون بعد أن تضع الحرب أوزارها، أما اليوم فإنهم ينتحرون أثناء جريان المعارك، وهي مسألة لفتت انتباه يوسي تيفي بلز، رئيس "مركز أبحاث الانتحار والألم النفسي"، فقال: "هذا الأمر كان مفاجئًا جدًا، فقد وقعت حالات الانتحار خلال أول أيام القتال، وليس بعد المعارك كما جرت العادة"، هذا التغير الجوهري يُشير إلى أن جيش العدو قد بلغ نقطة حرجة في قدرته على الصمود النفسي، ما يُنذر بتبعات وخيمة على قدرته وفعالية أدائه العسكري في المستقبل.