في ليلٍ عربيٍّ طويلٍ مثخنٍ بالجراح، بزغ فجر الحادي والعشرين من سبتمبر في اليمن، كلحظةٍ فارقةٍ أعادت كتابة تاريخ أمةٍ بأسرها. ثورة لم تولد من نزوة، ولا من رغبة في تغيير شكلي، بل انبثقت من عمق المعاناة، ومن ضرورة وطنية قصوى، إذ كانت البلاد تساق نحو الهاوية، تُدار بالريموت الأجنبي، وتُسلب سيادتها وقرارها أمام أعين شعبها، حتى بات السفير الأمريكي هو الحاكم الفعلي، فيما اكتفى القادة المحليون بدور "المندوبين" عن إرادة الخارج.
كان المشهد قبل 21 سبتمبر قاتماً بكل المقاييس: الوصاية الأجنبية معلنة وصريحة، تحت البند السابع، والسفراء الأجانب هم أصحاب القرار الأول والأخير. إن وضع البلد ما قبل الحادي والعشرين من سبتمبر، كان كارثي، ومأساوي، و خطر جدًّا بكل ما تعنيه الكلمة؛ لأنه وضعٌ كان الأعداء يخططون فيه أن نذهب نحن كيمنيين بأنفسنا، وبإرادتنا إلى الهاوية، وإيصال البلد إلى الخضوع وبشكل رسمي، و معلن، وذلك تحت البند السابع الذي بموجبه تم إخضاع البلد للوصاية الأجنبية بشكل رسمي، فكان سفراء الدول العشر في صنعاء -وعلى رأسهم السفير الأمريكي- المعنيين الرئيسيين بكل شئون البلد، قبل أي طرف يمني، وكان السفير الأمريكي تُدرس معه كل شؤون البلد من كل الجهات ذات المسؤولية في مؤسسات الدولة. فهل من الطبيعي أن نقبل كشعب يمني باستمرار هذه الحالة، والسفير الأمريكي ومن معه من السفراء يقررون أي شيء في شؤوننا، ويرسمون لنا مستقبلنا، ويكونون هم المتحكمين في حاضرنا ومستقبلنا؟ على أي أساس؟ أولاً - باعتبار الهوية والانتماء، السفير الأمريكي ومن معه من السفراء -بالتأكيد- لم يكونوا ليراعوا لا هويتنا ولا انتماءنا في طبيعة قراراتهم، و مخططاتهم، ثانياً: باعتبار الحق الوطني باعتبارنا بلد مستقل، بكل ما يترتب على ذلك من حقوق لنا كشعب وبلد مستقل، من ضمن ذلك أنه لا يحق للدول الأجنبية أن تتدخل في شؤوننا الداخلية، بل إن تدخل تلك الدول في شؤوننا الداخلية، على النحو الذي كان قائماً في تلك المرحلة، يعتبر انتهاكاً لسيادة واستقلال بلدنا، وامتهاناً لكرامة شعبنا، في العُرف الدولي،
الاقتصاد منهار، والمؤشرات الدولية تصف اليمن بأنه على حافة الإفلاس. الأمن في أدنى مستوياته، الاغتيالات تضرب قلب العاصمة، والفوضى تعصف بكل شبر.الوحدة الوطنية مهددة، ومشاريع الأقلمة والفدرلة تُسوَّق كحلول "سحرية" بينما هي بوابة للتفكيك والتجزئة.
لم يكن اليمنيون شعباً مختلف الهوية أو متناحراً عرقياً، بل شعبٌ متجانس موحّد بالعقيدة واللغة والتاريخ، غير أنّ قوى الخارج أرادت أن تجعل من الاختلافات الثانوية وقوداً لصراعٍ لا ينتهي، ومن الانقسامات سبيلاً لإضعاف البلد وتحويله إلى كانتونات ضعيفة.
في وجه هذا الوضع المأساوي، لم يكن الحادي والعشرون من سبتمبر مجرد خيار، بل ضرورة وطنية ووجودية. خرجت الجماهير، بكل انتماءاتها، تهتف بصوت واحد: لا وصاية بعد اليوم. لم يكن الحراك الثوري حكراً على مذهب أو قبيلة أو منطقة، بل كان انعكاساً لإجماع شعبي شامل، عبّر عن الوجدان الجمعي لليمنيين التائقين للحرية والسيادة.
لقد كان التحرك لمصلحة اليمنيين جميعاً، وكان تحركاً قوياً وفاعلاً ومؤثراً، أعاد الاعتبار للشعب اليمني أنه لا يمكن أن يتحول إلى شعبٍ مدجنٍ للوصاية الأجنبية والسيطرة الأجنبية من أعداء هذا الشعب، لا يمكن أن يُخضِعَهُ أي طرف آخر لسيطرة أعدائه؛ حتى يتمكنوا من سحقه وإذلاله وقهره وتدميره، وهو خاضع وخانع ومستسلم، لا يفعل شيئاً ولا يقول شيئاً ولا يتحرك بأي تحرك، أنه شعبٌ لا يزال يعيش حيويته الإسلامية والوطنية والإنسانية، لا يزال شعباً يُحس، لديه كرامة؛ وعندما جُرح في كرامته غضب ولم يقبل، وتحرك بكل إباء.
لقد سطّر الشعب اليمني في تلك الأيام ملحمة استثنائية: مخيمات الاعتصام امتلأت بوجوه من كل المناطق. قوافل الكرم القبلي غذّت المحتشدين بروح التكافل والإباء. المؤسسة العسكرية والأمنية انحازت إلى الشعب، فحافظت على سلمية التحرك ومنعت الانزلاق إلى الفوضى.
وكانت النتيجة ثورة فريدة أدهشت العالم: لا بنوك نُهبت، ولا مؤسسات دُمّرت، بل تحوّل المشهد إلى لوحة انضباط جماهيري غير مسبوق، أذهل المراقبين وفرض احترامه حتى على الخصوم.
لم يكن الطريق مفروشاً بالورود بعد انتصار الثورة، فالقوى الأجنبية والإقليمية سارعت للتآمر على الشعب، محاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وُقّع اتفاق السلم والشراكة كفرصة لبناء دولة جامعة، لكن قوى الوصاية عملت على إفشاله والانقلاب عليه، حتى تُوّج الأمر بالعدوان الخارجي المباشر، الذي ما زال مستمراً حتى اليوم.
ومع ذلك، أفرزت الثورة واقعاً جديداً: أعادت الاعتبار لليمن كأمة ترفض الخضوع. فجّرت طاقات الشعب في ميادين الصمود والتصنيع العسكري.أرسلت رسالة مدوية: أن اليمن لا يُحكم من السفارات ولا يُدار بالوصاية.
في المقابل، يكشف المشهد في الجنوب والشرق، تحت سلطة المحتل، عن حقيقة الأهداف الخارجية: غياب الدولة وتحوّل المدن إلى كانتونات ميليشياوية. نهب الثروات النفطية والغازية، وتقديمها على طبق من ذهب للأجنبي. الجزر الاستراتيجية تُحوَّل إلى قواعد عسكرية تخدم مشاريع أمريكا و"إسرائيل".
ثورة 21 سبتمبر ليست مجرد ذكرى سنوية، بل هي عنوان كرامة وإصرار، ورسالة تقول: إن الشعوب التي تتمسك بحريتها لا تُسحق. وإن الدين والإنسانية يفرضان الإباء لا العبودية. وإن التضحيات مهما عظمت تبقى أربح من خسارة الاستسلام. ولهذا، فإن هذه الثورة ليست محطة في الماضي فحسب، بل هي مشروع مستمر، يذكّر الأجيال بواجب الدفاع عن الهوية والسيادة، ويجعل من كل ذكرى حافزاً لمواصلة الطريق.
لقد ولدت ثورة 21 سبتمبر من رحم الضرورة، لتكون صوت المستضعفين في مواجهة الطغيان، وصرخة الحرية في وجه الوصاية، ودرع السيادة أمام مشاريع التفكيك. إنها ليست صفحةً في كتاب التاريخ فقط، بل نبض حاضر ومستقبل، وعنوانُ أمةٍ قررت أن تقول للعالم: هنا اليمن، لا يركع إلا لله.