موقع أنصار الله . تقرير
بعد سلسلة طويلة من الإجرام والوحشية ضد الشعب الفلسطيني، أعلنت "مؤسسة غزة الإنسانية" الاثنين الماضي إغلاق أبوبها. كان هذا الإجراء بمثابة السطر الأخير في فصلٍ كُتب -منذ لحظاته الأولى- بحبرٍ مريب، فمنذ أواخر مايو الماضي، نشأت المؤسسة في لحظة كانت فيها غزة تعيش أقسى فصول الحصار، واشتدت فيها معركة التجويع التي أراد العدو عبرها كسر إرادة الشعب الفلسطيني، وإخضاعه عبر لقمة الخبز قبل أي سلاح.
ظهرت المؤسسة يومها كشبحٍ بلا تاريخ، تضخّم حضورها بسرعة، وقدّمت نفسها كجسر رحمةٍ فوق ركام الحرب، بينما كانت -في حقيقتها- أحد خطوط الاشتباك غير المعلنة، كانت المؤسسة أداة تعمل في المساحة الرمادية بين الحرب والمساعدات، تنفذ جزءًا من السياسة العامة التي صاغها العدو لإدارة “التجويع الممنهج”، والتحكم في نبض الحياة داخل غزة.
فبدل أن تكون ملاذًا إنسانيًا يخفف وطأة الجوع، كانت نقطة ترسيم جديدة للضغط الاقتصادي، تُسلّم وتمنع، تمنح وتُحجب، ثم تستدرج المجوعين إلى فخاخ الموت الإسرائيلي، وفق مسارات تصب في صالح سياسةٍ هدفها الأكبر: ضبط الشارع الفلسطيني من خلال السيطرة على الطعام والدواء ومسار الحياة اليومية.
إنّ ما كشفه هذا الإغلاق هو طبيعة المعركة التي خيضت ضد غزة، معركةٌ تُستخدم فيها "الأدوات الإنسانية" كواجهة ناعمة للضغط، وتُستغل فيها حاجة الناس لإعادة هندسة الواقع الاجتماعي والسياسي، كأنّ الحياة نفسها تُدار كملف أمني.
ما تسمى "مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF) هي جهة تورطت بشكل مباشر في الاستدراج المنهجي للمدنيين المُجوّعين إلى مصائد موت منظمة، خُطط لها وأُديرت ضمن المنظومة الأمريكية–الإسرائيلية، تحت غطاء العمل الإنساني، فكانت شريكاً أصيلاً في صناعة مشاهد القتل الجماعي، ومنفذاً عملياً لأخطر مخطط استهدف المدنيين عبر أدوات التجويع والإبادة الجماعية في العصر الحديث.
بدأت المؤسسة تشغيل أول مركز لها في نهاية شهر مايو 2025، تحت ادعاء إنشاء "نظام آمن ومنظم لتوزيع المساعدات"، غير أن الوقائع أثبتت -منذ اليوم الأول- أن الهدف الحقيقي كان هندسة التجويع، والتحكم في حركة المدنيين، ودفعهم إلى نقاط مكشوفة يسهل فيها استهدافهم وقتلهم، وليس تخفيف الأزمة الإنسانية. هذه الآلية شكّلت نموذجاً أمريكياً–إسرائيلياً يقوم على إحكام السيطرة وإدامة المجاعة، وليس تقديم الإغاثة.
أما المراكز التي أعلنت عنها المؤسسة فتشمل:
1. مركز تل السلطان في رفح – الذي تحول لاحقاً إلى أبرز مواقع القتل الجماعي.
2. ممر "موراغ" جنوب قطاع غزة – مركز في منطقة مكشوفة شديدة الخطورة.
3. مركز ثالث في رفح أُعلن عنه لاحقاً.
4. مركز رابع في شمال مخيم البريج وسط القطاع.
وكل هذه النقاط كانت -فعلياً- مصائد موت، وتعرض فيها المدنيون المُجوّعون لإطلاق النار المباشر، والحرمان من الغذاء، وإجبارهم على التحرك ضمن مسارات يتحكم بها العدو لخدمة أهدافه العسكرية خلال الحرب.
تؤكد الأرقام الموثقة – حسب الإعلام الحكومي في غزة – ارتقاء 2,615 شهيداً من ضحايا التجويع، إضافة إلى 19,182 إصابة، سواء عند مراكز مصائد الموت التابعة لما تسمى "مؤسسة غزة الإنسانية" أو على مسارات الشاحنات التي استخدمها العدو كأداة للقصف المباشر وإزهاق الأرواح.
ومن بين هؤلاء الشهداء، 1,506 شهداء قتلهم العدو أثناء انتظارهم المساعدات، كما وثّق 1,109 شهداء ممن قتلهم العدو داخل المراكز الأمريكية–الإسرائيلية ذاتها، نتيجة إطلاق النار والقصف خلال اقتراب المدنيين المُجوّعين أو الدخول إليها، بينهم 225 طفلاً، 852 بالغاً، و32 من كبار السن.
في الـ27 من مايو شرع العدو الإسرائيلي في توزيع المساعدات في ما سمي "المناطق العازلة"، لكنه فشل فشلاً ذريعاً بعدما اندفع آلاف الجائعين نحو تلك المناطق في مشهد مأساوي ومؤلم انتهى باقتحام مراكز التوزيع، والاستيلاء على الطعام تحت وطأة الجوع القاتل، وتدخل قوات العدو بإطلاق النار، ما أدى لاستشهاد 3 مواطنين وإصابة 46 آخرين، وبالتالي فشل مشروع العدو لتوزيع المساعدات عبر ما يُسمى "المناطق العازلة"، إلا أن العدو أصر على السير في هذه الآلية كون الفتك بالمواطن الفلسطيني أحد الأهداف الرئيسية للمؤسسة.
خلال أسبوعين فقط من عمل المؤسسة تسببت في استشهاد أكثر من 130 مدنياً برصاص مباشر أثناء محاولتهم الوصول إلى طرود غذائية على حواجز الإذلال والقهر، وأصيب قرابة 1000 مدني آخر.
المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان قال -في منتصف يونيو الماضي- إن النموذج الذي تتبناه المؤسسة يقوم على استدراج المدنيين نحو نقاط محددة ومكشوفة بالتنسيق مع جيش العدو الإسرائيلي، حيث يتعرضون للقتل والإصابة. وتابع أن المراكز التي تديرها المؤسسة تحولت إلى مصائد موت توظفها “إسرائيل” ضمن أدوات الإبادة الجماعية التي تنفذها في قطاع غزة.
أما المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” فيليب لازاريني، فصرح في مطلع يوليو الماضي أن “أكثر من 130 منظمة إنسانية غير حكومية دعت لإنهاء نشاط ما يسمى “مؤسسة غزة الإنسانية”، لأنها لا تُقدم سوى التجويع وإطلاق النار على السكان الفلسطينيين في قطاع غزة.
في الـ6 من يوليو الماضي كشف تحقيق خطير نشرته صحيفة فاينانشال تايمز عن تورط مجموعة "بوسطن الاستشارية" (BCG)، إحدى أكبر شركات الاستشارات العالمية، في إعداد نموذجٍ مالي لتهجير سكان قطاع غزة وتفريغه ديموغرافياً، ضمن مشروع سري يحمل اسم "أورورا"، ويتضمن تهجير أكثر من نصف مليون فلسطيني مقابل ما سُمّيت "حزم تهجير" تمولها جهات خارجية.
وأكد التحقيق أن ما تُسمّى "مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF)، والتي أنشئت بدعم أمريكي–إسرائيلي، تمثل الواجهة التنفيذية لهذا المشروع، حيث زعمت تقديم مساعدات إنسانية، لكنها تسببت فعلياً في استشهاد مئات المدنيين، وإصابة آلاف آخرين، ويشير التقرير إلى أن المشروع شمل تمويلاً سرياً، ودعماً من شركات أمنية أمريكية خاصة، ونشاطات توزيع تُخالف المبادئ الإنسانية، ما أدى لاحقاً إلى طرد شركاء من BCG بعد انكشاف هذه المخططات.
في مطلع أغسطس الماضي في تقرير لها بعنوان "هذه ليست إغاثة بل قتلٌ ممنهج”، وثقت منظمة "أطباء بلا حدود" القتلَ الممنهج وإهانة الكرامة الإنسانية في مواقع توزيع الغذاء في ”مؤسسة غزة الإنسانية"، حيث سجل التقرير مشاهدات طواقم المنظمة في عيادتي المواصي والعطار في جنوب قطاع غزة، حيث استقبلت العيادتان بين 7 يونيو و24 يوليو الماضيين، 1380 مصابًا، بينهم 28 شهيدًا. ومن بين الجرحى، عالجت الفرق 71 طفلًا مصابًا بأعيرة نارية، 25 منهم دون سن الخامسة عشرة.
قالت راكيل آيورا، المديرة العامة لمنظمة أطباء بلا حدود: “أصيب أطفال بأعيرة نارية في صدورهم أثناء محاولتهم الحصول على الطعام. دُهس أشخاص أو اختنقوا خلال التدافع. رُميت حشود بأكملها بالرصاص في نقاط التوزيع”.
التحليل أظهر أن 11% من الإصابات كانت في الرأس والرقبة، و19% في الصدر والبطن والظهر، ما يشير إلى استهداف متعمّد، وليس إلى نيران عرضية، وفق التقرير.