موقع أنصار الله . تقرير 

كان الاحتلال البريطاني الذي امتد لـ 129 عاماً لجنوب اليمن امتداداً لوهم امبراطوري ظنّ أنه قادر على اقتلاع شعب من جذوره، وإحلال وصايته فوق الأرض والإنسان والهوية.  مئة وتسع وعشرون سنة تكدّست فيها أدوات القهر، وامتد فيها الطغيان البريطاني فوق عدن وما حولها، حتى بدا المشهد وكأن الزمن بات ملكاً للمحتل، وأن الليل لن ينقشع، غير أن المبدأ الذي أثبته اليمنيون عبر التاريخ هو أن الاستعمار -وإن تمدّد كجذر سرطاني- يظل محكوماً بيوم يغادر فيه مذلولاً، حاملاً معه خيبته وأوهامه، تاركاً خلفه الأرض التي لم تنحنِ، والناس الذين لم يفقدوا ذاكرتهم.

تفكيك الهوية وتكريس التبعية

كان البريطانيون يظنون أن سياسة “فرّق تسد” ستبقى جواز عبورهم الأبدي لإدارة الجنوب اليمني، وأن تقطيع الجسد اليمني إلى سلطنات ومشيخات صغيرة سيحوّل الهوية الوطنية إلى شظايا لا تجتمع، أقاموا المحميات شرقاً وغرباً، وشيدوا "اتحاد الجنوب العربي" ككيان مُصطنع لا جذور له إلا في دفاتر الاستخبارات البريطانية، دعموا "السلاطين" بالرواتب، ورشوهم بالهدايا، وأهدوهم سلطةً على شعوبهم مقابل خيانة الأرض، اعتقدوا أن الولاء الذي يُشترى بالذهب يمكن أن ينتج شرعية، وأن الهوية إذا كُسرت على صخرة الانقسامات ستبقى عاجزة عن النهوض. لكن الرياح التي تهبّ من أعماق الشعوب عادة لا تُقاس بميزان السياسة ولا تقارن بمعاهدات الحماية؛ إنها رياح تقتلع الاحتلال من جذوره حين تحين الساعة.
بعد إحكام قبضتها على عدن، شرعت بريطانيا في عملية توسع مبرمجة عبر سلسلة من معاهدات الحماية القسرية مع السلاطين والمشائخ المحليين. أدى هذا التوسع الممنهج إلى نشوء كيانات سياسية قزمية (سلطنات، إمارات، مشيخات) بلغ عددها 22 كياناً عشائرياً وقبلياً، وُضعت جميعها تحت الإشراف البريطاني المباشر أو غير المباشر.
وفي مسعى خادع لإضفاء شرعية شكلية زائفة على وجودها، سعت بريطانيا لاحقاً إلى توحيد هذه الكيانات الموالية تحت مظلة قابلة للتفاوض باسمها مستقبلاً، حيث عملت على هندسة ما سُمي بـ "اتحاد الجنوب العربي". قسّم هذا المشروع المحميات إلى شرقية وغربية، وتم ربطها إدارياً بمستعمرة عدن، مع منح الحاكم البريطاني سلطة مطلقة في تعيين وعزل الزعماء المحليين، وترسيم الحدود، وإعلان حالة الطوارئ، ما وضع مصير المنطقة بشكل كامل في يد الإدارة الاستعمارية.
لقد مثلت سياسة "فرق تسُد" الأداة الرئيسة التي استُخدمت لتقليل تكلفة الاحتلال وزيادة فترة بقائه إلى أقصى حد. حرصت بريطانيا -عبر هذه السياسة- على تمزيق النسيج اليمني، وتقزيم الهوية الوطنية بهدف وأد أيّ هبة أو مقاومة موحدة ضدها. وقد وُصف هذا التكتيك بأنه "سياسة الاحتلال الإنجليزي لجنوبي الوطن الأقل تكلفة"، وكان هذا التركيز على "التكلفة المنخفضة" يعني بالضرورة استثماراً أقل في البنية التحتية، أو في بناء هياكل حكم مستدامة، أو اكتساب ولاءات حقيقية، وهو ما حكم على الكيانات التي تم إنشاؤها ضمن هذا المسار بالهشاشة والافتقار إلى الجذور. لقد كان الهدف الجيوسياسي النهائي لهذا المشروع هو إنشاء كيان موالٍ بلا شرعية شعبية ليقف حاجزاً صلباً أمام نشوء مشروع وطني جامع يحمل آمال اليمنيين، ويُوحد صفوفهم.
اعتمدت بريطانيا -في تطبيق هذا التكتيك، بشكل كبير ومباشر- على النخب المحلية والعملاء من السلاطين والمشايخ الذين تم استمالتهم عبر الإغراءات المادية السخية كالرواتب والهدايا والمناصب، مقابل ضمان ولائهم، وتحويلهم إلى أدوات لتنفيذ السياسات الاستعمارية. لعب هؤلاء العملاء دوراً محورياً في قمع المقاومة، وتسهيل السيطرة البريطانية، وترويج سياسات الاحتلال باعتبارها "فرصة للتقدم" أو "حفظ الأمن". كما ساهموا في تجنيد السكان المحليين في قوات الاحتلال (جيش الليوي).
ولم تقتصر أدوات بريطانيا على العمل العلني، بل لجأت إلى العمليات السرية والاستخباراتية لضرب المقاومة من الداخل. شمل ذلك نقل الأسلحة سراً للقبائل الموالية، تلغيم الطرق، التخريب في البنية التحتية، وتنفيذ اغتيالات وعمليات تصفية ضد قادة المقاومة. بل وصل الأمر إلى استخدام اليهود المحليين كعيون لها على العرب، واستغلالهم في جمع المعلومات الاستخباراتية مقابل مبالغ مالية.

عوامل الانهيار والانسحاب الحتمي في 30 نوفمبر 1967

في عدن، حيث كان البريطاني يراقب البحر كأنه إرث خاص، وحيث دفنت أحلام الإمبراطورية على قارعة رصيف ميناء له تاريخ أعرق من كل المحتلين، بدأت المقاومة تتشكل كنبض خفي قبل أن تنفجر كبركان، من ردفان، من القرى والجبال، من العمّال والطلبة، من النساء اللواتي خبأن السلاح تحت عباءاتهن، من الفلاحين الذين فتحوا بيوتهم للمقاتلين، تمدّدت جذوة الرفض، أدرك المحتل ــ بعد طول مكابرة ــ أن الأرض التي كانت تُدار بالأوامر قد أصبحت عصيّة عليه، وأن القبضة الحديدية التي ظنّها كافية لإخماد الثورة لم تعد تقوى على مواجهة شعب قرر أن يكون سيد نفسه. فلم يقتصر النضال اليمني على الكفاح المسلح ببسالة، بل شمل أيضاً مقاومة اجتماعية ونفسية متجذرة عبر الرفض القاطع لمشاريع التقسيم الخبيثة، والتضامن الفعلي بين مختلف المذاهب والمناطق. منذ الأيام الأولى للاحتلال، شهدت عدن والمناطق المحيطة بها انتفاضات متكررة ومحاولات لاستعادة المدينة من قبل السلطان المحلي.
في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، تصاعدت الحركات الوطنية بشكل لا يمكن إيقافه، وتأسست تنظيمات سياسية ونقابية وطلابية قوية، مثل الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن،  التي قادت الكفاح المسلح بضراوة ضد الاحتلال. انطلقت شرارة ثورة 14 أكتوبر 1963 من جبال ردفان بقيادة راجح بن غالب لبوزة، وتحولت بسرعة خاطفة إلى حركة مقاومة شاملة امتدت إلى مختلف مناطق الجنوب.
نفذ المناضلون عمليات عسكرية نوعية وموجعة، مثل تفجير القواعد البريطانية، ومهاجمة الدوريات العسكرية، وتنظيم الكمائن المتقنة، ما أدى إلى إضعاف قدرة الاحتلال على الاستمرار، وتحويل وجوده إلى عبء. كما لعبت المرأة اليمنية دوراً بارزاً ومحورياً في دعم الثورة، سواء بالمشاركة المباشرة في النضال أو توفير الدعم اللوجستي الضروري.
حظيت المقاومة بدعم شعبي واسع، حيث وفر السكان المأوى والغذاء للمناضلين، وساهموا في إخفاء القادة الثوريين. كما حصلت الحركات الوطنية على اعتراف الأمم المتحدة بشرعية كفاح شعب الجنوب، ودعم استراتيجي من مصر ودول المعسكر الشرقي، ما أكسب الثورة غطاءً دولياً وإقليمياً فعالاً.
وفي لحظات الارتباك الأخيرة، قبل أن يصفّر البارود إيذاناً بتراجع الاحتلال، حاولت بريطانيا لعبتها الأخيرة: إذا عجزت عن البقاء، فعليها أن تتقن الانسحاب. أعادت تشغيل ماكينة “فرّق تسد” بين فصائل المقاومة، فاوضت فصيلاً واستبعدت آخر، زرعت بذور الشقاق، وخلّفت وراءها فراغاً سياسياً ظنّت أنه سيشلّ البلاد بعد رحيلها، لكنها لم تُدرك أن الشعوب التي تنتصر لا تحتاج إلى إذنٍ من أحد كي تكتب مستقبلها. وعندما أطلّ يوم 30 نوفمبر 1967، كان اليمنيون قد رسموا خط نجاح ثورتهم المجيدة على صفحة التاريخ، آخر جندي بريطاني يغادر عدن، وشمس امبراطورية مزعومة تغرب عن أرض لم تشترَ يوماً ولم تبع.

كيف يُحيك "الاحتلال الجديد" خيوط بريطانيا البالية

إن التاريخ -كما هي عادته- لا يموت بانتهاء حدث، بل يترك ظلاله لمن يريد قراءتها. واليوم، يطلّ الماضي من نافذة الحاضر، ليكشف أنّ شبح بريطانيا القديمة لم يغادر كلياً، بل عاد في صورة جديدة يرتدي عباءة "التحالف"، ويختبئ خلف لافتات "الشرعية"، لم تتغير الأهداف كثيراً؛ فالإمارات تُحكم قبضتها على الموانئ والجزر كأنها تسعى لتجميع إرث عدن الاستراتيجي في يدها، والسعودية تتمدد في المهرة وحضرموت وشبوة كما لو أنها تقتفي خطى الحاكم البريطاني الذي كان يرى في الجغرافيا اليمنية طريقاً آمناً لوجستياً نحو مصالحه.
وكما كانت بريطانيا تنشئ سلطنات صغيرة تتحارب من أجل صكوك الحماية، أعاد التدخل السعودي الإماراتي إنتاج الفكرة ذاتها عبر كيانات طارئة وتشكيلات مسلحة تدين بالولاء للمال لا للوطن. تغيّر الاسم، لكن المنهج بقي هو المنهج: تفتيت الهوية، إذكاء الانقسام، صناعة قيادات محلية منفصلة عن شعبها، التمويل مقابل الخضوع، وإدارة الجنوب كرقعة شطرنج تتحرك أحجارها بأوامر خارجية. لم يكن "اتحاد الجنوب العربي" إلا وجهاً قديماً لـ "المجلس الانتقالي" اليوم، ولم يكن جيش الليوي إلا نسخة قديمة من التشكيلات المدعومة حديثاً. التاريخ لا يكرر نفسه ببساطة، لكنه يبتكر طرقاً جديدة لتجسيد القبح ذاته.
لقد تشابهت الأهداف بين ما كان يسعى إليه الاحتلال البريطاني، وما يمارسه اليوم الوجود السعودي والإماراتي، في سعي محموم للهيمنة على الموانئ والجزر والمضائق البحرية، لضمان النفوذ الإقليمي والتحكم بمسارات التجارة. فإذا كانت بريطانيا قد ركزت جهودها على ميناء عدن الاستراتيجي لتأمين طريق الهند، فإنه ما عملت الإمارات والسعودية عليه اليوم.

التفتيت الممنهج عبر صناعة الكيانات الطارئة

لقد اعتمدت القوى المتدخلة، في الماضي والحاضر، على ذات الآلية، وهي إذكاء الصراعات المناطقية والقبلية، ودعم كيانات محلية منفصلة، بهدف وحيد هو منع تشكّل هوية وطنية جامعة، وإبقاء مناطق الجنوب اليمني في حالة من الانقسام الدائم الذي يخدم أجندة السيطرة. وكشفت التحليلات أن هذه التكتيكات أدت إلى تفتيت عميق للهوية اليمنية، فظهرت مسميات جهوية ومحلية، تزامناً مع الدعم السافر لمشاريع انفصالية وكيانات طارئة؛ فما سمي بالأمس بـ "اتحاد الجنوب العربي"، يوازي اليوم ما يسمى بـ"المجلس الانتقالي الجنوبي". وفي كلتا الحالتين، بقيت النتيجة واحدة: استمرار مشتعل للصراعات الداخلية، وتفكك للنسيج الاجتماعي، وغياب تام للاستقرار السياسي.
ولتحقيق هذه الأجندة التوسعية، لجأ الطرفان إلى استمالة النخب المحلية وتحويلها إلى مجرد أدوات للسيطرة. فبينما اعتمدت الإدارة البريطانية على السلاطين والمشايخ، الذين أُغروا بالمال والمناصب وحُوِّلوا إلى قنوات لقمع المقاومة وتجنيد السكان، يعتمد التحالف السعودي الإماراتي اليوم على نخب سياسية محلية وتشكيلات عسكرية وأمنية مدعومة بشكل مباشر.
 إن هذه التشكيلات، التي أنشأتها الإمارات والسعودية تخضع فعلياً لإشراف وتمويل خارجي مطلق، وتعمل كقوات وكيلة، تماماً مثل جيش الليوي في الحقبة البريطانية. هذا التوظيف للأدوات المحلية يكشف عن هشاشة داخلية، حيث يرتكز ولاء هذه القوات على التمويل (ولاء إماراتي صرف)، ما يجعلها أدوات مؤقتة وقابلة للانهيار الحتمي بمجرد توقف الدعم المالي، وهو ما يجسد التجربة التي مر بها حلفاء بريطانيا حين هُجِروا بعد الانسحاب.

ومع ذلك، فإن الفكرة التي سقطت في 1967 لا يمكنها أن تقوم من جديد، فالشعب، الذي أطاح بإمبراطورية تملك نصف العالم، لن يقف عاجزاً أمام مشروع مهما زخرف نفسه بالشعارات، والهوية التي حاول الاستعمار طمسها طوال قرن، ثم خرجت أكثر رسوخاً مما كانت، لن تتبدد أمام أدوات مؤقتة تستمد قوتها من المال لا من الأرض، والسلاطين الجدد الذين يراهنون على حماتهم الإقليميين يعيدون اليوم تكرار خطأ أسلافهم، لأن الاحتلال لا يكافئ الخيانة، بل يستعملها ثم يلقي بها جانباً عند أول منعطف.
إن الوجود السعودي والإماراتي -مهما طال- لا يختلف في جوهره عن الوجود البريطاني الذي تهاوى في يومٍ لم يكن أحد يتوقع أن يُكتب بهذه السرعة، فالقوى التي تظن أنها قادرة على امتلاك الجنوب اليمني لأنها تملك المال والسلاح تتجاهل درساً ساطعاً أن عمر الاحتلال يقاس بمدى صمود الناس لا بحجم القوة، وأن الإرادة الوطنية حين تنهض لا تحتاج إلى إذنٍ دولي ولا إلى غطاء سياسي كي تعلن انتهاء زمن الوصاية، وأن الشعوب التي قاومت الإمبراطوريات الكبرى لن تخضع لنسخ مستحدثة مهما كانت مزينة بعبارات الدعم والمساندة.
وهكذا، وبين ماضٍ رحل رغم كثرة أدواته، وحاضر يتكئ على ذات الأساليب، تبدو الحقيقة إن الاستعمار ــ مهما تلون، ومهما ارتدى أقنعة جديدة، ومهما ادعى أنه أكثر "ذكاءً" من أسلافه ــ يظل مشروعاً فاشلاً يولد محكوماً بالموت، وما إن يصل إلى نقطة الإنهاك المالي والسياسي، حتى ينهار كبيت من رمل، تاركاً خلفه أدواته المحلية تتخبط كما تخبط السابقون بعد رحيل بريطانيا. سيغادر المحتل الجديد كما غادر القديم، لأن الأرض تُعيد نفسها إلى أهلها دائماً، ولأن الشعوب لا تفقد قدرتها على المقاومة ما دامت تمتلك ذرة كرامة وذاكرة ثورية حيّة.
وفي قلب هذا كله، يعود الدرس الذي كتبه اليمنيون بدماء الثوار وبنيران الكفاح: أن الوطن لا يدار بالتقسيم، ولا يحمى بالولاءات الصغيرة، ولا يبنى بيد تصافح المحتل، إن قوة هذا الشعب، الممتدة من سبتمبر إلى أكتوبر، ومن عدن إلى صنعاء، ومن ردفان إلى المهرة، هي القوة التي ستعيد إنتاج اللحظة ذاتها، لحظة الرحيل، فكما ولى البريطانيون إلى غير رجعة، سيتلاشى الوجود السعودي الإماراتي، وستنهض من بين الركام هوية وطنية أصيلة، لا تهزمها مشاريع الوصاية مهما تعاقبت.