في ملحان، مثلت كارثة السيول اختباراً وجودياً أثبت أن الروح اليمنية عصية على الطمر، وأن أكوام الطين التي غطت القرى لم تزد الإرادة إلا اشتعالاً لتشييد صروح السيادة من تحت الركام.
في ملحان أسقطت أصالة "الفزعة اليمنية" مفاهيم 'الانتظار العقيم' للمعونات الدولية المشروطة، واستبدلت بها"فلسفة الأكتاف"؛ حيث تحول كيس الأسمنت المحمول على ظهر الإنسان إلى طلقة في صدر العجز، وصرخة استقلال تُعلن أن الأرض التي سقتها الدماء لا تُعمّر إلا بسواعد الأبناء.
التحول من "الإغاثة الاستهلاكية" إلى "التنمية المستدامة" بقرار إداري ووعي ثوري بضرورة تحويل الأزمة إلى فرصة، حيث استبدل اليمنيون بفتات الخبز المؤقت لبناتِ بناءٍ باقية، مؤكدين أن الجود في زمن الشدة هو أرقى أنواع المقاومة.
حين تبرَّع أهل ملحان بسقوف منازلهم لتكون أرضاً لجيرانهم، لم يمنحوا مساحة بناء، وإنما قدموا درساً في "وحدة المصير"؛ فالسقف الذي كان يظله صار جسراً يعبر عليه أخوه نحو الأمان، في صورة إنسانية تُحرج أنظمةً عالمية تقتات على أزمات الشعوب.
ملحان "مانيفستو" يمني حي، يبرهن للعالم أن الأمة التي تواجه أعتى التحالفات العدوانية، قادرة بذكائها الفطري وروحها التشاركية على اجتراح المعجزات التنموية بأقل التكاليف وأسمى الغايات.

 

أنصار الله. يحيى الربيعي

 

في جغرافيا ملحان الوعرة بمحافظة المحويت، لم تكن السيول التي جرفت القرى وطمرت "شط الصحن" مجرد قدراً، وإنما اختباراً حقيقياً لصلابة "الجبهة الداخلية" في مواجهة مراهنات القوى الاستعمارية الصهيو-أمريكية التي تتربص بالنسيج اليمني لتمزيقه. هناك، حيث تلتئم الجراح بملح العزيمة، لم ينتظر اليمنيون "فتات الموائد" الدولية المسكونة بالأجندات، بل استنفروا مخزونهم الحضاري من "الفزعة" والتكافل، ليحولوا الركام إلى ورشة إعمار سيادية؛ هنا تتوارى لغة العجز أمام زحف الأكتاف التي نقلت أحجار البناء فوق القمم الصماء، في رسالة مشفرة لكل من يراهن على كسر إرادة هذا الشعب: "إن من يبني بيته من سقف جاره إيثاراً لن تُعجزه ترسانة سلاح، ومن يحول النكبة إلى قرية نموذجية بجهد ذاتي، قد حطم -سلفاً- قيود التبعية والارتهان".

قصة ملحان هي شاهد حي على قسوة الطبيعة تارة، وعلى عزيمة وإباء الروح الإنسانية تارة أخرى. فما إن اجتاحت السيول العاتية وديانها وقراها، محوّلة قرية "شط الصحن" ومعها عشرات القرى والمنازل إلى مجرد ذكرى تحت أكوام الطين والحصى، حتى أطلقت الروح التكافلية التعاونية بمبادرات تحويل الكارثة إلى شرارة ميلاد لحركة بناء وإعمار غير مسبوقة.. من نهاية مطاف إلى نقطة تحول مُلهمة.

في قصص إغاثة، مثلت ملحمة يمنية متكاملة تُجسد أعلى معاني الإسناد، التحشيد، والإدارة المستدامة. من تحالف الوديان والأكتاف وظهور الحمير في نقل المواد الشاقة، مروراً بالقرار الحكيم بتحويل التبرعات النقدية إلى "صروح تبقى" بدلاً من إغاثة مؤقتة، وصولاً إلى أروع صور الإيثار حين تبرع المواطنون بسقوف منازلهم لتكون أرضية آمنة لجيرانهم.

هنا، في ملحان، ستكتشف كيف تحوّل شعور الندم إلى منزل مسلح فاخر يُهدى ليتيم وافد، وكيف تجلّت الشراكة بين المجتمع المحلي فاعلي الخير (كالشيخ عثمان النمري وصرافة الحمدي)، والقطاع التنموي (مؤسسة بنيان والسلطة المحلية والجمعية وجملة شركاء التنمية)، لتُنجز قرية نموذجية عصرية، وتشيد صروحاً لأكثر من 63 أسرة تضررت بيوتهم من كارثة السيول.

فاستعِدوا لرحلة سردية مع حكايات من برنامج إسناد المبادرات المجتمعية لإعادة بناء وتأهيل المنازل المتضررة يرويها منسق البرنامج، المهندس صالح القاسمي.. قصص تخترق وعورة الجبال، وتلامس طهارة الأكتاف، وتُثبت أن الإرادة الجماعية للشعب اليمني قادرة على تحويل الدمار إلى نموذج تعاوني حضري متكامل، وبتكلفة مالية تُثبت أن الجهد الأهلي هو الكنز الأغلى... فإلى السردية:

"شط الصحن" أصالة التكاتف وميلاد القرية

شهدت مديرية ملحان بمحافظة المحويت مشهداً مأساوياً حين اجتاحت السيول قرية "شط الصحن" بعزلة همدان، لتتحول إلى منطقة منكوبة بالكامل، حيث طمرت المنازل والطرق والمدرسة والمساجد، وجرفت جميع الممتلكات العينية والمادية من مزارع ومواشٍ وأثاث. لم يتبقَ من بصيص أمل للسكان الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها بلا مأوى، بعد أن غطت أكوام التراب والأحجار حتى المدرسة التي حاولوا اللجوء إليها. لقد كان الوضع كارثياً يفرض ضرورة التحرك السريع لإجلاء المتضررين إلى منطقة آمنة.

في مواجهة هذا الدمار الشامل، تجلت أبهى صور التكامل الحكومي-المجتمعي والإرادة الصلبة. فما كان من السلطة المحلية وجمعية ملحان التعاونية وفرسان التنمية والمواطنين سوى التكاتف للبحث عن ملاذ آمن. وفي هذا السياق، نجح عبدالعزيز مصوبع (منسق مؤسسة بنيان في المحافظة) في تحديد منطقة مطلوبة تقع ضمن أملاك الأوقاف. هنا، برز دور هيئة الأوقاف التي أبدت تجاوباً فورياً، وتنازلت عن الأرض بمقابل دفع مبالغ رمزية وآجلة كاعتراف، لتمهد الطريق أمام البناء والتعمير.

بالتوازي مع تأمين الأرض، هبّ فاعلو الخير بضخ متدفق من المساعدات؛ قدموا مبالغ مالية وسلال غذائية وخياماً ومستلزمات إغاثية ضرورية كالفُرش والبطانيات والملابس والأدوية، وتم توزيعها على المتضررين وفقاً لاحتياجاتهم الملحة.

لم يقتصر التحرك على الإغاثة الفورية، بل انطلق طموح لإعادة البناء بمفهوم حضري متكامل. فعملت المديرية وجمعية ملحان ومؤسسة بنيان التنموية على تجميع المبالغ المالية المتبقية والتخطيط لإنشاء قرية حضرية للمتضررين في المنطقة الآمنة الجديدة.

في غضون فترة وجيزة، وبجهود مشتركة من فاعلي الخير والسلطة المحلية والجمعية ومؤسسة بنيان، تم بناء قرية سكنية نموذجية شملت 19 وحدة سكنية مع مرافقها الأساسية في مرحلة أولى، أُضيفت إليها لاحقاً ثلاث وحدات سكنية أخرى. وقد تميز التخطيط الحضري للوحدات السكنية بأنه اعتمد أحدث المعايير التي راعت الأبعاد المجتمعية والبيئية بعمق، حيث خُصص لكل منزل محيط واسع من المساحة. لم يكن الهدف مجرد توفير سقف، بل دعم سُبل العيش المستدامة، فجرى منح أصحاب المنازل الجديدة قروضاً بيضاء على هيئة ثروة حيوانية، لتمكينهم من التوسع المستقبلي في تربيتها.

هذا النموذج الناجح لم يقتصر على قرية شط الصحن، بل تم تكراره وتطبيقه على بقية القرى والمنازل المتضررة على مستوى المديرية، ليصل إجمالي المناطق الآمنة التي تم البحث عنها إلى 32 موقعاً وخُصصت لـ 32 متضرراً.

كشفت الأرقام عن حجم التكاتف المالي لهذا الإنجاز، حيث بلغت التكلفة الكلية للمشروع حوالي 42 مليون ريال. ويظهر التحليل المالي عمق الشراكة، إذ ساهم الشركاء بحوالي 8 ملايين ريال، فيما قدم المجتمع المحلي نفسه حوالي 20 مليون ريال، بينما أسهمت مؤسسة بنيان التنموية بنحو 14 مليون ريال، مجسدين بذلك نموذجاً فريداً لقدرة المجتمع اليمني على تحويل الكارثة إلى منطلق للنهوض والتنمية المستدامة.

 نجومٌ في حكايات عزيمة لا تخبو

في قلب مديرية ملحان، حيث تتشبث القرى ببطون الجبال كوشمٍ أصيل، لتعبر عن نغم عميق للعزيمة، ينسجه رجالٌ لم تسمع بهم العواصم الصاخبة، لكن صدى أفعالهم بلغ عنان السماء. كانت المديرية تنتظر يداً ترفع عنها غبار الإهمال، لكن الصوت الذي استجاب لم يأتِ من مكاتب بعيدة، بل انبعث من شرايين أبنائها. بدأ الأمر كفكرة، ثم تحول إلى عمليات تحرك جبار: إسناد، تحشيد، وإدارة.

لم ينتظر الشرفاء دعوة رسمية. كانوا كنجوم الليل التي تتلألأ حين يغيب القمر، يضيئون الطريق بذاتهم. خرجوا من صمت الاغتراب، ومن ضجيج المدن البعيدة، وكلٌّ منهم يحمل ملحان في سويداء قلبه. كانت مبادرة الشيخ عثمان النمري هي الشرارة الأولى، أيقظت روح التكافل في نفوس فاعلي الخير من أهل المنطقة ومن خارجها. لم يكتفوا بالتبرع، بل نزلوا إلى الميدان كجنودٍ لعملية إنقاذ كبرى، مؤمنين بأنّ بناء الجسور يبدأ بمد اليد.

وفي هذا المشهد الملحمي، لم تقف السلطة المحلية في موقف المتفرج، بل تحولت إلى محرِّكٍ أساسي، كان الأخ مدير المديرية ومعه الهيئة الإدارية للجمعية التعاونية يدركون أن الإدارة الحقيقية هي تلك التي تسارع إلى تسهيل تهيئة الأجواء المناسبة لإنعاش وتشجيع روح المبادرة. كانوا في الصفوف الأمامية، يُسهِّلون الصعب، ويُشرِّعون الأمل، ويحوِّلون الحلم المجتمعي إلى خطة عمل محكمة.

هذا التناغم بين اليد الشعبية السخية والإدارة المساندة لم يكن مصادفة، بل كان دستوراً جديداً للعمل المشترك، حيث يتقدم الشرفاء بالجهد، وتُساندهم القيادة بالدعم.

لم تتوقف القافلة عند إنجاز واحد. كانت كل مبادرة مكتملة هي مجرد نقطة انطلاق للمبادرة التي تليها. ومع بقاء أصحاب المنازل المتضررة شركاء لا مستفيدين سلبيين في مشهد تتجلى فيه روحية الإباء والإصرار: هؤلاء الرجال لا يزالون في مقدمة المتحركين بقوة لإنهاء "البرنامج المتكامل".

قصة ملحان هي رسالة مكتوبة بماء العزيمة على صخرة التحدي، تُعلمنا أن أعظم قصص النجاح تُروى على ألسنة من آمنوا بقوتهم الذاتية، وتحرَّكوا من أجل أرضهم. إنها دعوة لكل من يملك قلباً نابضاً: النجاح حليف من يكسر جدار الانتظار وينطلق للعمل، لا من يقف منتظراً للعون من الآخرين.

عندما تهزمُ الأكتافُ صمتَ الجبال ووعورتها

ملحان بتضاريسها القاسية، تحولت إلى ساحة تحدٍ لا تستجيب إلا لأرباب النفوس العظيمة. هنا، حيث لا أمان من كوارث السيول إلا لمنازل تعانق قمم الجبال كأنها نجوم تقاوم النسيان. وهنا، حيث تنعدم سُبل النقل الحديثة، وتبدأ القصة الحقيقية لعزيمة وإرادة الإنسان في البقاء مهما قست الظروف.

في وادي "حميم" ووادي "الرمان"، حيث كان منزل محمد داشي ومنزل داغس مجرد نقطتين على خريطة عجز تحتضن في جغرافيتها عشرات المساكن من الذين رمت بهم الظروف للبناء في جنبات الوديان، جرفتها السيول، وكان لابد من أن تنتقل بعد الكارثة إلى حيث يستدام لها الأمان. هناك على قمم جبال قريبة، بدأ مشروع الإعمار، لكن كيف سيصل الأسمنت الصلب، والبلك الثقيل، والنيس والاحجار  إلى قمم لم تمسسها إطارات المركبات؟

كان السؤال يوازي تحدي نقل جبل، خاصة مع مسافة شاقة تقدر بـ 2.5 كيلومتر من أقرب نقطة وصول. ولكن في ملحان، يولد الحل من قلب المحنة.

في لحظة تاريخية، لم تكن هناك قيادة مركزية أو أوامر صدرت؛ بل كان هناك همسٌ أصيل في قِدم العادات والتقاليد اليمنية غني بالتكافل، تحول إلى هدير جماعي "جايش، فزعة، عون...". تحرك أبناء المجتمع مدفوعين بـ "فزعة" أصلية، متطوعين بدافع الإحسان المجرد. من كل بيت خرج رجل. كل واحد منهم كان يحمل على ظهره كرامة قريته. تحولوا إلى شبكة نقل بشرية، وإلى جوار دوابهم، أثبتوا أن قوة الروح تتفوق على عجز الآلة.

كان المشهد آسراً: صفوف من الرجال، والنساء والأطفال والدواب تتسلق الممرات الصعبة، تحمل أكياس الأسمنت الثقيلة على أكتافهم، ترافقهم الحمير الوفية التي شاركتهم مشقة النقل. كان وزن كيس الأسمنت يمثل ثقلاً، لكن قيمة التضحية جعلته خفيفاً على الروح. لقد أدرك هؤلاء الأبطال المجهولون أنهم لا ينقلون مواد بناء فحسب، بل ينقلون الأمل، والكرامة، وحق الوصول إلى الأمان.

العظمة هنا ليست في الجهد فحسب، بل في الأثر الاقتصادي الهائل. لقد اختصرت هذه الأكتاف الطاهرة تكلفة نقل كانت ستثقل كاهل المستفيدين بآلاف الريالات (يصل نقل الكيس الواحد إلى 1500 ريال). لقد جاءوا ليقولوا: "حاجتكم هي حاجتنا، والتكلفة سنسقطها نحن من حساب الأجر مقابل حساب الإنسانية."

هذا هو الإرث الحقيقي لملحان، والذي تكرر في "المحراس" و"روما" و"الندار" و"بني شائع". إنها قصة محفزة تُعيد تعريف معنى الحضارة: أن تُبنى البيوت لا بالمال فقط، بل بالتعاون غير المشروط، بالإسناد المجتمعي الذي يرفض الاستسلام لجغرافيا العجز. هذا النموذج التعاوني، الذي يختزل المسافات بالأكتاف، هو الدرس الذي تعلمه اليمنيون وتناقلوه جيلاً بعد جيل لتجاوز التحديات في مناطق اليمن.

أيدي الغيث المُنقذة وصروح من البناء

حينما عصفت الكارثة بملحان، تهديدات استقرار البيوت ولدت صرخات استغاثة اهتزت لها الأودية. ولكن، بينما كانت المياه تُعلن عن سطوتها، كانت الإنسانية في مكان آخر تُعلن عن انتصارها. لم يكن المشهد عشوائياً، بل كان سباقاً نبيلاً نحو الإغاثة، قادته قلوب آمنت بأن النجدة لا تنتظر إذناً.

التحرك الأول: في اللحظات الأولى لاندلاع الكارثة، حين كان اليأس يتسلل إلى قلوب المتضررين، ظهر الشيخ عثمان النمري كأول خيط ضوء في هذا النفق. لم يكتفِ بمتابعة المشهد، بل تحرّك مباشرةً، حاملاً على عاتقه مسؤولية الإغاثة الفورية. تدفقت مساعداته كتيار موازٍ للسيول، لكنه تيار يُغذي الحياة لا يهدمها. شمل إسناده -ومعه الخيرون من أبناء المنطقة- مواداً غذائية عاجلة، ومستلزمات الحياة الأساسية: خيام تُعيد سقفاً، وفرش وبطانيات تُعيد الدفء، وغاز يُحيي الموقد. لقد كان الشيخ النمري هو النبض الأول الذي أيقظ روح الإغاثة في المديرية.

التحرك الثاني: إلى جانب هذا التحرك الفوري، كانت هناك أيادٍ بيضاء تعمل في الخفاء، ترفض الظهور وتكتفي بجمال الأثر. برزت "صرافة الحمدي" كنقطة تجمع موثوقة، حيث اجتمع فاعلو خير يفضلون العطاء الصامت. نجحوا في جمع مبلغ يقارب 9 ملايين ريال، بهدف إسناد المتضررين بسلال غذائية. لكن هنا يكمن مفترق الحكمة، لاسيما وقد لاحظ فريق الإغاثة أن المواد الغذائية العينية تتدفق بالفعل باستمرار من شركاء آخرين، ما قد يؤدي إلى تكدس أو هدر. فجاء القرار الشجاع والمُلهم: تحويل الأموال النقدية من إغاثة استهلاكية إلى مشاريع إغاثية مستدامة. لقد نظروا بعين البصيرة إلى ما بعد الكارثة، فقرروا أن يُحوّلوا الملايين من أكياس طعام تُستهلك إلى صروح تبقى. فتحوّل المبلغ المالي إلى قذيفة بناء، وبدأ العمل مباشرةً. كانت ثمرة هذا التحول الاستراتيجي هي شراء حوالي 28 ألف حبة بلك، وهي اللبنة الأولى في إعادة بناء منازل المتضررين. ولم ينسَ هؤلاء الشركاء الجانب العملياتي، فتم إسناد بعض المتضررين بأجور، لضمان استمرارية العمل وإعادة دورة الحياة الاقتصادية في المنطقة.

وداع الدموع وبناء الوفاء

في سجل قصص الإغاثة التي مرّت على ملحان، تتربع قصة "أبو عماد الشاوري" كأعظم شاهد على حكمة القدر وقوة الجبر الإنساني. لم يكن أبو عماد من أبناء القرية الأصليين، فهو وافدٌ قضى عشر سنوات من الغربة الجغرافية، يسكن في مسكن مهدد، وعيناه تراقبان قطعة أرض صغيرة يُؤسس عليها أمان عائلته.

كان حلمه متواضعاً: أن يشتري بـ "سبعمائة ألف ريال" مساحة تليق ببناء منزل لأطفاله. لكن كلما طرق باباً، وُوجه بالرفض. لم يجد أبو عماد مفراً سوى أن يودع مبلغ أحلامه أمانة عند "أمين القرية"، ينتظر بصبر أن تُفرج له الأرض عن مكان آمن.

وفجأة، لم تمنحه الأرض فرصة، بل فاجأته السماء بقدرها. اجتاحت الكارثة المديرية بلا هوادة، وكان أبو عماد وزوجته وأولاده ضمن ضحاياها. لم ينجُ من العاصفة إلا قلبان: قلب الابن الأكبر المغترب، وقلب "عماد"، الفتى الذي لم يتجاوز عمره الاثني عشر عاماً، والذي كان يعمل في صنعاء حين حلّت الفاجعة.

عاد عماد إلى قريته التي لم تعد قريته، باحثاً في كل ركن، منادياً أهله. استغرقت محاولات إقناعه أربعة أيام كاملة حتى استسلم الفتى للحقيقة القاسية، ورضي بقضاء الله حاملاً على كتفيه الصغيرين عبء الفقد الكبير.

هنا، في حضرة الفاجعة، استيقظت القلوب. شعر أبناء القرية بحرقة لاذعة من ذنب الندم؛ لم يوافقوا على بيع الأب قطعة أرض آمنة، بينما كان يحمل أمانة بناء بيت لهم في قلبه. ولأن التكافل في ملحان ليس مجرد شعار، قرر أبناء القرية تحويل الندم إلى فعل جليل. تذكروا أن أبا عماد كان يبحث عن قطعة أرض لا تتجاوز مساحتها 5 أمتار مربع بالقيمة التي جمعها. لكنهم قرروا أن يُهدوا ابنه "عماد" مساحة 15 متراً مربعاً مجاناً، والأهم، في موقع استراتيجي آمن وقريب من الطريق العام.

لم يتوقف العطاء عند هذا الحد، وإنما تحول العطاء من مجرد قطعة أرض إلى مشروع وفاء جماعي. تضافرت جهود فاعلي الخير من داخل القرية وخارجها، ليتجاوز البناء التوقعات. لم يبنوا مسكناً فحسب، بل شيدوا منزلاً مسلحاً وواسعاً، نموذجاً يُحتذى به في القرية. اكتملت اللوحة بتزويده بكافة المستلزمات الحديثة من أثاث فاخر وطاقة شمسية، لتصل التكلفة الإجمالية إلى ما يزيد عن ثلاثة ملايين ريال. وكان لمؤسسة بنيان التنموية بصمتها المادية في توفير الحديد ومواد البناء، مؤكدة أن الشراكة في الخير لا تعرف الحدود.

هكذا، تحولت وديعة الـ 700 ألف ريال التي لم يستطع أبو عماد أن يبني بها، إلى صرح بقيمة تتجاوز ثلاثة ملايين، هديةً لولده عماد. إنها قصة ملحان التي تُعلّمنا: أحياناً، لا يأتي العطاء في وقته المتوقع، لكنه يأتي في لحظة الجبر الأعظم، ليُحوّل الحسرة إلى نموذج يُلهم الأجيال.

فوق السقوف وفي القلوب

في مديرية ملحان، لا تنتهي قصص العزيمة عند رفع الأنقاض، بل تبدأ منها حكايات الإحسان التي تتحدى منطق البناء التقليدي. فبعدما هبَّ المجتمع لإسناد المتضررين من السيول، ظهر العائق الأكبر، عائقٌ ليس مادياً بل جغرافياً: الأرض الآمنة.

ملحان بطبيعتها الوعرة ترفض التساهل؛ الأماكن الآمنة قليلة، بعيدة عن شبكة الطرق، وإن وُجدت، فهي ملك لأناس آثروا الاحتفاظ بها، فكان باب الشراء أو التنازل مغلقاً. وقف المتضررون أمام جدار الصمت الصخري، وقد ضاعت بيوتهم، وهم محرومون من البديل. لكن، وفي غمرة هذا اليأس، أشرقت مبادرة لم تخطر على بال: إيثار السقف.

جاءت الفكرة من عمق الكرم المتأصل في نفوس أهل ملحان. لم يملك بعضهم أراضٍ إضافية ليمنحوها، لكنهم ملكوا جودة الإحسان وقمة التضحية. بادر مجموعة من المواطنين، الذين تقع بيوتهم في أماكن آمنة، بتقديم عرض غير مسبوق في سجلات التكافل: التبرع بسقوف منازلهم للمتضررين، كي يبنوا عليها منازل جديدة.

تحوّل السقف الإسمنتي، الذي كان بالأمس نهاية البيت، إلى بداية لبيت آخر. كان هذا الإيثار قمة التنازل: أن يسمح لك صاحب المنزل بامتلاك جزء من كيانه، أن يبني المتضرر بيته الجديد حرفياً فوق رأس صاحب البيت الأصلي.

تمت هذه المبادرة الإنسانية بتنظيم دقيق لا تشوبه شائبة، فقد أصبح المتضرر مالكاً بالكامل لما بناه على هذا السقف، شريطة واحدة فقط: أن يبقى حق استثمار مياه الأمطار الساقطة على السقف لصالح صاحب البيت الأصلي (الذي يملك الأرضية). هذا الشرط البسيط يؤكد أن هدف المبادرة لم يكن المقايضة، وإنما توفير الملجأ الآمن.

وما عزز قوة هذه القصة هو تحويل النوايا إلى أفعال موثقة. فقد بادر المتبرعون الكرام (وعددهم بلغ ثمانية متبرعين)، بكتابة صكوك رسمية تُملك المتضررين هذه "السقوف-الأرضية" بشكل مجاني وبلا مقابل مادي.

لقد اختُزلت في هذه المبادرة الفريدة معاني الكرم والتضحية، حيث تنازل الرجل عن سقف بيته ليصبح أرضية لبيت أخيه، مُتحدياً وعورة الطبيعة بجمال الروح. إنها حكايات تُعلّمنا أن الإحسان أكثر من إعطاء، إنه اقتسام المساحة، واقتسام الأمان، وكتابة عقد جديد بالوفاء يُرفع من الأرض إلى السماء.

ملحان.. مدرسة في الصمود

إن ما حدث في مديرية ملحان كان ميثاقاً ودرساً عملياً حضرياً يستحق أن يُدرَّس. لقد أثبتت هذه الملحمة الممتدة على مدى ستة فصول أن الإرادة المجتمعية، عندما تتحد مع الإدارة الرشيدة، تصبح قوة قادرة على نحت الأمل في صميم المستحيل.

لقد حوّل أبناء ملحان كارثة طبيعية إلى فرصة لإنشاء قرية نموذجية، متكاملة المرافق، وحتى داعمة للعيش المستدام عبر قروض الثروة الحيوانية. إنهم لم يبنوا منازل، بل بنوا الصمود والكرامة. ملحان مدرسة تعلمنا أن الإخلاص في العمل، والتضحية في العطاء، والتوحد في الرؤية، كفيلة بتحويل أنقاض الماضي إلى صروح المستقبل.