هناك في ساحتنا العربية، في ساحاتنا الإسلامية، في واقعنا الشعبي، رُسمت صورة نمطية عن الدين والتدين، ليست واقعية أبداً، حُذفت منها المسئولية العامة، حُذفت منها الاهتمامات العامة، بل صُور الجهاد في سبيل الله، والتحرك العسكري، والتصدي للأعداء، والتحرر من الأعداء، صُور فيه وكأنه لا صلة له من قريب ولا من بعيد بالدين والتدين، وكأن التدين: هو حالة من الخنوع، والاستسلام، والخضوع، والانعزال عن شئون هذه الحياة، وعن أحداث هذه الحياة، وعن ظروف هذه الحياة، وعن مشاكل هذه الحياة.. والصورة النمطية للإنسان المتدين: هو ذلك الذي يذهب إلى المسجد ويعود إلى منزله ولا شأن له بأي شيء من أحداث هذه الحياة وظروف هذه الحياة.
هناك اليوم في واقع الأمة فئة واسعة تحمل هذا التصور المغلوط بالتأكيد، وفي ذهنيتها صورة نمطية عن المتدينين: هي الصورة التي عليها بعض المتدينين الجهلة في هذا الزمن وقبل هذا الزمن، من الذين يحوّلون الدين رهبانية، وانعزالاً عن المسؤوليات العامة، وعن الاهتمامات العامة، وعن المشاكل الكبرى، وعن التحديات والأخطار.. دينٌ ليس فيه أي موقف تجاه أي ظالم، ولا أي ظلم، ولا أي مستكبر، ولا أي خطر، ولا أي تحدٍ.. ينعزل فيه الإنسان؛ فيذهب إلى المسجد ليؤدي صلواته، له شكل معين، له ملابس معينة، له سيماء معينة يبدو عليها، حالة من المسكنة، حالة من الخنوع، حالة من خفض الرأس نحو الأسفل، حالة معينة، وله زي معين، وشكل معين.. نمط معين! أصبح هو النمط المتدين!
أما ذلك الذي يذهب من المنتمين للإسلام، عنده اهتمام بأمر أمته، عنده التفاتة جادة إلى الواقع، عنده إدراك للمخاطر، والتحديات، والمظالم، والأمور الفظيعة والرهيبة التي تشكل تحدياً شاملاً على الأمة بدينها ودنياها، عنده ألم وهمْ بأمر أمته.. .
وفعلاً، نحن في واقع الانتماء الديني أمام أشكال متعددة: فأمامك شكل يأخذ هذا التوجه، هذا النمط، هذا المسار من التدين: الحالة الانعزالية عن الهم العام، عن المسؤوليات العامة، عن التحديات، وعن الأخطار.. هذا نمط سلبي، هذا لا يمثل الدين بحقيقته، النبي: هو القدوة في تقديم النموذج الحقيقي للمسلمين وللإسلام.
هناك نموذج آخر أيضاً سلبي، في غاية السلبية: هو النموذج الذي يستغل الدين عنواناً، ويوظف الدين شكلاً، ولكنه بعيد كل البعد عن مبادئ هذا الدين الحقيقية، عن أخلاقيات هذا الدين الحقيقية، عن هذا الدين كمشروع حقيقي للحياة، هذا النموذج نراه أيضاً، مثل ما عليه النموذج الداعشي، هذا نموذج يستغل الدين، ويستغل شكليات من الدين (شعائر وعناوين معينة)، ولكنه بعيد عن المبادئ الكبرى لهذا الدين، عن الأخلاقيات البارزة، الواضحة، العظيمة، المهمة لهذا الدين، عن المشروع الفعلي لهذا الدين، نرى النظام السعودي الذي يلبس عباءة الدين، وعباءة الإسلام كحالة استغلالية توظيفية شكلية، ثم يفتضح، وهذه الفئة هي مفضوحة؛ لأنها مخلة بمبادئ رئيسية في الإسلام، وأخلاقيات كبيرة في الإسلام، ومسارات واضحة للإسلام، ويمكن- إن شاء الله- أن نتحدث عن بعض التفاصيل في هذا الشأن.
فإذاً، النموذج الاعتزالي الذي يحسب نفسه على الإسلام، ثم يتهرب عن المسؤوليات والمواقف في هذا الإسلام، يريد إسلاماً بدون مواقف! هذا لا يقتدي بالنبي، النبي هو هذا: رجل يتحرك حاملاً للمسؤولية، يتحرك للتصدي للأعداء، {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} {أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} أخرجه من بيته، .
كل أصحاب مبدأ: هؤلاء لهم توجه يختلف عما كان عليه الرسول: القدوة والأسوة في تقديم الدين وتعاليم الدين.
المتنصلون عن المسؤولية، والمتهربون منها، والذين يعفون أنفسهم بكل بساطة، يعطون أنفسهم ترخيصاً! هؤلاء يعني على حسب تعبيرنا المحلي، يعطي نفسه ترخيصاً! ويعفي نفسه بكل راحة بال من المسؤولية! !! يريد الراحة لنفسه، لا يريد أن يدخل في مسؤوليات لها شكل معين من المعاناة أو المشاق!! |لا|.. يا أخي إذا أنت تنتمي للإسلام، انظر نبي الإسلام بمقامه العظيم، بمكانته ومنزلته العالية عند الله لم يُعْفَ من المسؤولية، لم يرخص له أن يبقى في منزله (في بيته) ويتنصل عن المهام والأحداث ويترهبن، ولربما لو قبل بهذا المسار: مسار الرهبنة، أمكن أن يُدهِن مع الأعداء وأن يُحتوى، وأن يكون كما حال النظام السعودي، حالة دينية لكن تحت الاحتواء، [تصلي... لا بأس، لكن وتشتغل لأبي جهل، وتسرح تنفذ أجندته، ومؤامراته، ومكائده، وبوقاً له، وداعيةً له، وتُخضع الأمة لمصالحه ومؤامراته... لا بأس! حالة احتوائية! لكن |لا| الإسلام في جوهره الحقيقي التحرري، بين قوسين، بين معكوفين، بين هلالين (التحرري).
عموماً، {أَخْرَجَكَ رَبُّكَ}، الله، أمر إلهي، أمر من الله، ولم يكن حتى اجتهاداً شخصياً، ولا رأياً شخصياً؛ أنه هكذا الإسلام: ، لا تنتظر في بيتك (في داخل منزلك) إلى أن يصل العدو إلى منزلك؛ فيدوسك بحذائه، ويخضعك، ويهينك، ويستهدفك.. هو دينٌ فيه مبادرة، فيه مسارعة، فيه تحرك بإباء، وعزم، وجد، وصدق، وروحية عالية، وكرامة للتصدي للعدو، هذا الذي يريده الله، هذا الذي يوجه إليه الله "سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى": {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}، هذه أيضاً مسألة مهمة للغاية وأساسية في التحرك: أن يكون بالحق، التحرك ظلماً ليس بالحق، التحرك عدواناً جائراً ليس بالحق، التحرك في صف الطغاة والمستكبرين ليس بالحق.
سلسلة المحاضرات الرمضانية (لعلكم تتقون)
ألقاها السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي "يحفظه الله"
المحاضرة الرمضانية العاشرة: الاثنين 17 رمضان 1438هـ 12 يونيو 2017م
غـــزوة بـــدر (1)