بدأت مرحلة الجهاد، بدأت مرحلة الصراع المسلح مع قريش الذين دخلوا في مراحل جديدة بدءًا بسعيهم لحصار الرسول اقتصاديًا، فواجه هذه الخطوة واستهدف قوافلهم، فَعَمدُوا إلى حربه عسكريًا، فتصدى لهم، فكان رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" نبيًا ورسولًا عظيمًا، هو خاتم الأنبياء والرسل وسيدهم، واجتمع فيه كل ما لدى الرسل السابقين جميعًا، حمل عن كل الرسل والأنبياء كل المواصفات العظيمة في عبوديته لله "سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى" في كل جوانبها الروحية والعملية والأخلاقية والسلوكية والقتالية، كان رجلًا عظيمًا، والصابر، والثابت، والحليم، والذي يعفو عند المقدرة، والصابر أمام الشدائد والمحن، والبطل والشجاع والعظيم، وكان أعظم قائد عسكري عرفه التاريخ.

البيئة العربية كانت بيئة شرسة جدًّا، بيئة محاربة، والعرب كانوا شرسين جدًّا في القتال [ومَشْكَليين مِن شِق وطرف كلهم عسرين جدًّا] مقاتلين وخصِمِين، وأبسط الأشياء تسبب حرباً شرسةً جدًّا فيما بينهم، والبطولة في القتال من أهم ما يتفاخرون به، وكانوا متمرنين ومتمرسين على القتال ومعتادين عليه, وفي هذه البيئة التي خاصمته، حاربته، صارعته، توجهت وتحركت ضده؛ لم يكن ضعيفًا أبدًا، كان عظيماً بعظمة هذا الإسلام الذي أتى به، بعظمة القرآن والهدى الذي أتى به، فكان هو أول المؤمنين به، وأول المسلمين الذي جاء بالصِّدق وصَدَّقَ به، وجسَّد تطبيق تلك التعليمات، وجسَّد تلك الأخلاق والقيم العظيمة في واقعه.

رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" أدار أكثر من ثمانين واقعة من الغزوات والسرايا في حروبه مع كل تلك الفئات التي تكالبت عليه وحاربته وعادته وتحركت بعدائية شديدة جدًّا ضده وضد الإسلام ضد المسلمين في مراحلهم الأولى، أدارها بإدارة عسكرية لا نظير لها، ولم يسبق لها مثيل، ولم يأت بعدها مثيلٌ لها، وعظمة الإنجاز الذي تحقق للرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" يفوق كل خيال، وينبهر منه كل متأمل في التاريخ، ولا يجد حالةً مشابهةً له فيما قبله ولا فيما بعده.

 الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" صنع إنجازًا عظيمًا ينبهر منه الإنسان، لقد تمكّن من خلال ارتباطه بالله وحركته بتعليمات الله "سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى" من إحداث أكبر تغيير في بيئة معقدة وصعبة جدًّا، بيئة فوضوية، بيئة معاندة، بيئة شرسة- هذا الواقع العربي- وبيئة منفلته ما عندها انضباط لا للشرع ولا لِنُظُم ولا لشيءٍ أبدًا، بيئة جاهلة يصعب تفهيمها، فتح الله آذانًا صمًا، وأبصرت به أعينٌ- كذلك- عميٌ، وفتح الله به أفئدةً غلفًا، يعني: أمر صعب أن تُفَهِّم أولئك الناس حقائق كثيرة جدًّا، أمة مليئة بالخرافات والأباطيل والموروث الجاهلي الذي أصبح عقائد كبيرة، الأصنام عندهم مقدّسة، الحديث عنها مباشرةً يفتح مشكلة، يعني: عندما تتحدث عن الأصنام هذه والآلهة؛ هذا يفتح مباشرة معهم مشكلة كبيرة، يعني واقع ساخن وصعب ومعقّد ويصعب تفهيمه بحقائق كثيرة جدًّا، الحقائق التي امتلأت بها آيات القرآن عن الكون والحياة ومعرفة الله والمبدأ والمعاد ووو... وصولًا إلى التغيير للعادات والتقاليد ونظام الحياة، وفرض التزامات ونُظُم إسلامية تُضبط بها الحياة، لأمة فوضوية ليست متعودة على ذلك نهائيًا، ستزاح من حياتها عقائد كانت مقدسة لديها وكانت راسخة، وعادات وتقاليد كانت معتادة وموروثة ومتمسَّك بها جدًّا، والمساس بها يفتح حروبًا وصراعات ومشاكل وعداء شديدًا، وتواجه فيها زعامات وتكتلات قبلية، وتواجه أيضًا فيما وراءها كيانات دولية.

 

وبأقل التكاليف.. نجاح الدعوة الإسلامية!

فكان الواقع واقعًا كبيرًا وعجيبًا، صنع إنجازًا عظيمًا، تغيّر الواقع العربي خلال فترة عشرين عامًا، غيَّر فيه واقع الجزيرة العربية، تلك العقائد انتهت، تبدَّلت بنور الإسلام، تلك العادات والتقاليد انتهت، المجتمع هذا الذي كان مجتمعًا فوضويًا توحَّد تحت راية الإسلام، وأصبح منضبطاً لتعاليم الله "سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى"، وخاضعاً للإسلام، ولحكم الإسلام، ولأمر الإسلام وأمر رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله"، حسم صراعاته العسكرية بأكثر من ثمانين ما بين سرية وغزوة، منها غزوات كبيرة ومواقف كبيرة، بدؤها بدر وختامها حنين بالنسبة في الواقع العربي، مع اليهود كذلك مع بني النظير، مع بني قينقاع، مع بني قريظة، مع خيبر، مع يهود فدك، مع يهود تيماء، مع يهود وادي القرى، مع ....إلخ.

أيضًا بدأت حالة الصراع مع الروم (مع النصارى) كانت واقعة مؤتة، ثم ما بعدها غزوة تبوك، لا يسعنا الدخول في التفاصيل، صارع كل القوى التي تكالبت واستنفرت كل إمكاناتها الإعلامية والعسكرية وكل أنشطتها وقدراتها المادية والبشرية في مواجهة هذا الإسلام، لكن نجح رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" في مهمته الرسالية أعظم نجاح بـأقل التكاليف،

 يعني لاحظوا مثلاً: لو رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" عندما قال له جبريل مثلاً: [مهمتك عالمية، أنت رسول للعالمين، قدّم هذا الدين إلى كل البشر، أوصل رسالة الله إلى العباد، أقم للإسلام كياناً...الخ.]، يقول: [بس هذا مشروع كبير، ويحتاج ميزانية ضخمة، ويحتاج إمكانات هائلة، ويحتاج أعداداً كبيرة من البشر....] لا، ما عنده ولا شرط ولا قيد، بدأ يتحرك بمفرده، ثم بالقلة القليلة من المؤمنين معه، ثم اتسعت هذه الدائرة شيئاً فشيئاً بإمكانات بسيطة ومتواضعة، لم يحتج إلى دعم أجنبي من قوى ومكونات ليست ضمن الكيان الإسلامي، أطراف أخرى غير مسلمة، مثلًا: يستمد من الفرس، أو من الروم، أو من بعض الوثنيين العرب، أو يستفيد من صراعات هنا أو هناك، ليعتمد عليها وهي من خارج دائرة الإسلام. أبدًا، يعتمد على التمويل الإسلامي، في مَن قد أسلم، مِن إمكاناتهم المتواضعة جدًّا، لم يحتج مثلًا: يقول لله "جلَّ شأنه": [أنا أشتي منك خمسة جبال تحولها لي ذهب تكون ميزانية لي حتى أني اشتغل وأستطيع أعمل]. |لا|، تحرك بالمتاح، بالممكن، وعلَّم المسلمين وربّاهم على هذا الأساس أن يتحركوا بأنفسهم وأموالهم وقدراتهم وطاقاتهم، وأن يثقوا بالله "سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى" أنه سيبارك فيهم، وفي قدرتهم، وفي طاقتهم، وسينميهم وينمي ما معهم، ويزيدهم خيرًا، ويبارك لهم، ويحثهم بالإعداد لما استطاعوا من قوة، ويعلِّمهم الحكمة ويزكيهم، يطهر أخلاقهم، طهَّر الساحة العربية من تلك العقائد والخرافات من أرجاس الجاهلية، خلاص، منعت الفواحش، ممنوع نهائيًا، عليها عقاب شرعي، وكذلك طهَّر الساحة العامة، ممنوع السرقة، عليها عقاب، وتحسّن الوضع الاقتصادي للأمة، وانتشر نور الإسلام، وعمَّ الجزيرة العربية لينشأ كيانًا عظيمًا متميزًا، وبأقل كلفة من الخسائر البشرية، هذا عجيب، هذا معجزة.

الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" مع تلك الحروب، مع الصراع المرير والشديد جدًّا مع الذين حاربوه من العرب، ومن اليهود، ومن النصارى، يحصي ويحصر بعض المؤرخين أن عدد القتلى في مجموع كل تلك الحروب إلى حين انتهت، إلى حين وفاة رسول الله "صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله" لم يكن من أصحابه من المسلمين ومن أعدائه من الكافرين بكل فئاتهم لم يكن بأكثر من ألف وأربعمائة قتيل، هذه قصة عجيبة جدًّا، تحديات كبيرة، أعداء شرسون جدًّا، وبأقل كلفة من الخسائر البشرية، أقل كلفة من التضحيات والخسائر المادية، وحقق إنجازًا استثنائيًا، وصنع تغييرًا جذريًا،

 الأشياء التي كانت عادات يعني: ما كان أحد يتخيل يستطيع العربي يترك الخمر، تركوه، يشرب خمر يجلد، خلاص، وأشياء كثيرة، تغيير جوهري وجذري كبير، وتوجيه نحو أهداف سامية ونحو مبادئ عظيمة، مع أنه واجه صعوبات كبيرة حتى في الواقع الداخلي بحركة المنافقين، حركة الذين في قلوبهم مرض، ضعاف الإيمان الذين كانوا يترددون، الإساءات التي كان يعاني منها، قلة الأدب من كثيرٍ- حتى من المسلمين- في التعامل معه، لكنه كان أكبر من كل تلك العوائق والتحديات؛ لأنه كبر بهذا الدين الذي أتى به؛ فكان أعظم من آمن به وجسَّده وتأثَّر به وتحرك به.

على العموم لا يسع المقام للحديث، وإلا أتمنى أن يسعنا المقام، يبقى كثيرٌ من النقاط لم يسعنا الوقت للحديث عنها، يمكن أن نشير إليها- إن شاء الله- في كلمة الغد، ويمكن- إن شاء الله- في مواسم قادمة إذا أعطانا الله الفرصة، وتهيأت لنا الظروف نتحدث أكثر وأكثر.

 

السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي "يحفظه الله"

المحاضرة الخامسة: سلسلة محاضرات رحمةً للعالمين (الرسالة والرسول) 1439هـ