موقع أنصار الله . تقرير |  وديع العبسي

لمّا كان رد الفعل العالمي لا يتجاوز التنديد والاستنكار، وفي أحسن الأحوال "دعوة" العدو إلى مراعاة التزاماته بالمواثيق الدولية، تمادى العدو أكثر في جرائم الإبادة، ثم تجرأ بانتهاكاته المتكررة للأماكن المقدسة بذرائع ومعتقدات محرّفة، ليصل إلى اتخاذ قرار إعادة احتلال غزة.

حدوث مثل هذا الأمر في القرن الحادي والعشرين، لا شك بأنه ينسف كل الجهود التي تداعت يوما عقب الحرب العالمية الثانية، لترفع الشعارات الإنسانية والقيمية قبل أن يشهد العالم عمليات تحررية طُرِد على إثرها المحتلون والقوى الإمبريالية من الأراضي التي يحتلونها.

الأمر بات اليوم بحاجة فعلية وفورية إلى تحرك عملي جاد وسريع يوقف هذا النزيف الحاد لتلك القيم والثوابت الإنسانية الذي يتسبب به المحتل الإسرائيلي بهذه الحالة المَرَضية التي تتلبسه من عدم الانضباط بالأخلاق، وتجاوُز ما أقره العالم من اتفاقات وقرارات ومواثيق.

في الاجتماع الطارئ الذي عقده مجلس الأمن الدولي -الأحد- قال السفير الجزائري عمار بن جامع: "أمام حرب الإبادة هذه -كما أشارت محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان- يجب ألا يبقى المجلس صامتا". إلا أن المجلس الذي تسيطر عليه الحركة الصهيونية لم يقل شيئا. بينما أكدت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أنه حان الوقت لتتحول الأقوال إلى أفعال باتجاه إيجاد حل فوري للوضع الإنساني في قطاع غزة.

ويزيد العدو من تجاوزاته مع شعوره بأنه فوق كل الثوابت والقوانين، بل وفوق كل العالم، مستندا إلى الحماية الأمريكية التي يدرك مجلس اللوبي الصهيوني (المُحرك لهذه الأحداث) أن الإبقاء عليها قوية ومتصدرة للعالم هو مطلب استراتيجي للكيان، لأن ذلك يعني قوة وتمكيناً له لرسم الحضور العالمي الذي يريده لليهود، والذي يزعم فيه بأنهم "العرق البشري الأفضل والأنقى" والذي وفق تعاليمهم الخرافية "على العالم أن يكون في خدمتهم".

الكلمة الفصل بيد مجاهدي المقاومة

النتنياهو لا يزال يسير على قاعدة القفز إلى الأمام، مُراهنا على عجز الأنظمة العربية عن التحرك للدفاع عن ثوابتها الدينية والأخلاقية أمام ما يجري اليوم من فوضى تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة وفق الرؤية الصهيونية الهادفة لتحقيق الصدارة للكيان.

وحديث النتنياهو عن احتلال غزة -وهو ما أقره مجلس الحرب التابع للمتطرفين الصهاينة- يمثل اليوم ذروة الغطرسة، ويأتي ضمن سياسة القفز إلى الأمام في محاولة من جهة لإيهام الجميع بانتصاره في قتل أكبر عدد ممكن من الأطفال والنساء في غزة، ومن جهة أخرى اختبار مدى حياة المجتمع الدولي، وقياس إمكانية تحركه لمنع مثل هذا التوجه أو أي انتهاكات بحق الشعب الفلسطيني. حتى مع اعتبار الخطة ورقة سياسية لنتنياهو تهدف للضغط على حماس وإرضاء اليمين الصهيوني المتطرف، حسب مراقبين، فالأكيد أن المجاهدين فقط من بيدهم الكلمة الفصل في هذه المواجهة، فهُم -بالمقاييس العسكرية- قد نجحوا بالتنكيل بالعدو الذي يمتلك كل شيء، كما يمتلك حرية التحرك، مع ذلك اتسم قتاله بالدناءة بقتله النساء والأطفال في المخيمات والمدارس وحتى المستشفيات.

ما سيردع العدو هو التعاطي معه بلغته

حسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، ألقى العدو الإسرائيلي أكثر من (140) ألف طن من المتفجرات على الأحياء السكنية، والمستشفيات، والمدارس، ودور العبادة من مساجد وكنائس، ومختلف المرافق الحيوية، عبر مئات الطائرات الحربية المقاتلة، ما أسفر عن تدمير آلاف المنشآت، ومسح العدو مدن كاملة مثل رفح وبيت حانون، وأحياء التي تضم مئات الآلاف من السكان، كما منع الطواقم الإنسانية من الوصول إلى الجثامين لأشهر، حتى تحللت تماماً. قابَل ذلك رد فعل سلبي عالمي تجاه هذه الجرائم، لا يرقى إلى مستوى ما يردده ليل نهار عن الحقوق الإنسانية.

هنا كان من الطبيعي أن ترتفع درجة أهمية وجود المقاومة واستمرار دفاعها المشروع، فضلا عما تقدمه للبشرية من خدمة بمواجهة الكيان الإسرائيلي.. فالمجتمع الدولي لم يدافع عن القيم الإنسانية التي رفعها، ولم يستطع إيصال الخبز والماء والدواء إلى أطفال غزة، بل وجزء كبير من هذا العالم لا يزال يمد العدو بالسلاح للاستمرار في ممارسة كل هذا التوحش ضد الأبرياء في فلسطين المحتلة وخصوصاً غزة، ومثل هذا المجتمع بهذه الحال لا يمكن التعويل عليه. وهذا شاهد على أن خيار المقاومة يبقى هو التوجه الوحيد الأقدر على انتزاع الحقوق.

 إعجاز المقاومة وقصور العقلية الصهيونية

نجحت المقاومة الفلسطينية ومعها قوى الإسناد في إجبار العالم على الاعتراف بأن قدرة العدو على تفهُّم أن تصوراته في فرض إرادته على الآخرين تبدو ضعيفة، وأن عامل الردع الأكثر تأثيرا هو التعاطي معه بلغته، لذلك أمكن للمقاومة الفلسطينية أن تحقق هذا الإعجاز في التمسك بالثوابت، وعدم التنازل عنها رغم الوضع الإنساني الذي تعيشه مع استمرار القصف، ودخول المجتمع الفلسطيني في غزة في مجاعة لم يشهد مثلها التاريخ.

وخلال ما يقارب العامين، لا تزال هذه المقاومة تمثل صمام أمان يَحول دون وصول العدو إلى أهدافه، وحتى مع ترويج العدو لإعادة احتلال غزة، يُظهر هذا التراجع في مفردات الخطاب من "احتلال" إلى "سيطرة" إدراكه بأن الأمر -مع وجود المقاومة- سيكلفه الكثير، وأنه ليس أكثر من حرب نفسية، وضغط على الفصائل.

نتنياهو يسوق قطيع المجندين إلى المحرقة

والأكيد هو أن الكيان الصهيوني يفتقر للظروف الموضوعية لإعادة احتلال القطاع، ما يجعل من الخوض في هذا الموضوع تحت عناوين متعددة مجرد وَهْم، إلا أن النتنياهو (الفار من وجه العدالة الدولية) يصر -من خلال إثارة هذه النوايا- على إطالة عمر حكمه الفاشي.

يؤكد خبراء بني صهيون أنفسهم بأن مثل هذا الأمر إن حدث فإنه سيستغرق سنوات، حسب الجنرال المتقاعد غادي شامني الذي حذر من أن خطة الاحتلال لن تعيد الأسرى، ولن تهزم حركة حماس. بينما وصف ما يسمى برئيس الأركان الصهيوني إيال زامير خطة الاحتلال بأنها “فخ استراتيجي” ستُنهك ما أسماه بالجيش الإسرائيلي لسنوات طويلة، كما حذر من أن تنفيذها قد يعرّض حياة الأسرى الإسرائيليين للخطر.

علاوة على ذلك، يعاني العدو من وضع بائس لمجنديه الذين فرّ بعضهم وانتحر آخرون، فيما الكثير منهم يرفض العودة للقتال في غزة. وقد اعترف قادة في الكيان أن هذا التوجه يعد مخاطرة، وآثارها ستكون كارثية على الكيان، وأكدت صحيفة يديعوت أحرونوت أن قادة الأجهزة الأمنية للاحتلال الإسرائيلي رفضوا خطة احتلال غزة خلال اجتماع ما يسمى مجلس الوزراء الأمني، وسط تحذيرات من تداعيات خطيرة لهذه الخطة.

كما رأى بعض قادة نتنياهو العسكريين -منهم رئيس الأركان السابق هيرتسي هليفي- أن في العملية "ورطة" لمجنديهم، وقد كانت الخطة من أسباب استقالته من رئاسة الأركان، ليأتي بعده إيال زامير، الذي -وبحسب الإعلام العبري- اصطدم بواقع مختلف على الأرض، وبدأ يلتقي الضباط الميدانيين الذين أكدوا له أخطارها، واستشعر أوضاع الجنود وإحباطهم من هذه الحرب. ثم استمع إلى تحذيرات حول الثمن الباهظ الذي يحمله هذا الاحتلال؛ الثمن الاقتصادي والخسائر بالأرواح ورد الفعل الجماهيري. وهناك تخوف من قدرة المقاومة على مواصلة تكتيكات حرب العصابات ضد القوات الإسرائيلية المنتشرة بكثافة في القطاع. وتنقل صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية عن المدير البارز السابق في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي أفنير غولوف: "إننا نرى ما يحدث الآن. إن 'الاحتلال الكامل' سيجعل الأمور أسوأ".